أشهر فرية ألصقت بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-ورُميت بها: تكفير المسلمين،
وقد تولى الإمام -رحمه الله- بنفسه الردّ على هذه الفرية
وإبطالها في كثير من رسائله إلى العلماء والوجهاء والعامة،
وبيّن براءته منها،
وأنه لم يخرج في هذا الباب ولا في غيره عمّا كان عليه أهل السنّة والجماعة،
وأوضح أنَّ التكفير حقٌّ لله، وأنّ الكافر هو من حَكَمت النصوص الشرعية بكفره. وهذه المسألة بالخصوص قد جرى البحث فيها كثيراً
، وانبرى للردّ عليها وبيان زيفها كثير من العلماء في وقت الإمام وبعد وقته إلى يومنا هذا،
وقد تنوعت الكتب والرسائل والأبحاث بخصوصها.
وليس المراد في هذه الحلقة من هذه السلسلة بيان منهج الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في التكفير على سبيل التفصيل،
بذكر أصوله وقواعده وضوابطه وسماته في التكفير، والردّ على ما اتُّهمت به دعوته من الغلو في التكفير،
وإنما المقصودُ بيانُ منهجه العام،
وذكرُ أصناف من حَكَم عليهم الإمام محمد بن عبد الوهاب بالكفر بأنواعهم.
إن منهج الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- العام في باب التكفير يتمثّل في الأصول التالية:
الأصل الأول: التكفير بما أجمع المسلمون على التكفير به دون ما اختلفوا فيه
من فقه الإمام -رحمه الله- أنه في باب التكفير بالخصوص لم يشتغل إلا بما جاء مُصرّحاً به في النصوص وأجمع عليه العلماء، ولم يلتفت في دعوته إلى ما اختلف فيه العلماء من مسائل التكفير والحكم بالردّة، حتى لو كان يرجّح في نفسه القول بالتكفير بها، وهو بهذا الفعل يحصر مواضع النزاع ومسائل الخلاف بينه وبين خصومه ومخالفيه فيما لا يُمكنهم دفعه إلا استكباراً أو جحوداً وإنكاراً.
والإمام –رحمه الله- لمّا رأى كثيراً من الناس قد ضلّوا في أصل الدين، وهو توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، كثّف وركّز جهوده في بيان هذا الأصل المتفق عليه بين الشرائع والملل، وهو الأصل الذي خُلقت الخليقة لأجله، ومردّ الشرائع والأحكام كلها إليه، وهو بهذا الفعل يحصر الصراع بينه وبين مخالفيه في أصل الأصول، من غير أن يشتت جهوده ودعوته فيما هو دون التوحيد في المنزلة والمكانة.
ولذلك لما سُئل -رحمه الله- عمّا يُقاتِل عليه؟ وعمّا يُكفِّر الرجلَ به؟
أجاب بقوله: (أركان الإسلام الخمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة؛ فالأربعة: إذا أقرّ بها، وتَرَكَها تهاوناً، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نُكفِّره بتركها؛ والعلماء: اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود؛ ولا نُكفِّر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان) ا.هـ.. الدرر السنية (1/102) ا.هـ.
وكان -رحمه الله- إذا ذَكَرَ بعض المكفِّرات التي انتشرت في وقته؛ كالذبح للموتى، والنذر لهم، ودعائهم، ونحو ذلك، يؤكد قوله بالدلائل من الكتاب والسنّة، وينقل مذاهب العلماء محتجاً بإجماعهم واتفاقهم.
فمن ذلك قوله بعد إشارته إلى بعض المُكفِّرات المنتشرة في وقته: (وها أنا أذكر مستندي في ذلك، من كلام أهل العلم من جميع الطوائف، فرحم الله من تدبّرها بعين البصيرة، ثم نَصَر الله ورسوله وكتابه ودينه، ولم تأخذه في ذلك لومة لائم.) ا.هـ [«مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب» 6/177]
وقال في موضع آخر في الكلام حول الخصومة في بعض المُكفِّرات:
(وهذه المسألة لا خلاف فيها بين أهل العلم مِن كلّ المذاهب، فإذا أردت مصداق هذا فتأمل باب حكم المرتد في كل كتاب، وفي كل مذهب، وتأمل ما ذكروه في الأمور التي تجعل المسلم مرتداً يَحلُّ دمه وماله، منها: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم كيف حكى الإجماع في «الإقناع» على رِدّته، ثم تأمّل ما ذكروه في سائر الكتب، فإن عرفت أنّ في المسألة خلافاً ولو في بعض المذاهب فنبِّهني، وإن صحّ عندك الإجماع على تكفير مَن فَعَلَ هذا أو رضيه أو جادل فيه فهذه خطوط المويس وابن اسماعيل وأحمد بن يحيى عندنا في إنكار هذا الدين والبراءة منه، وهم الآن مجتهدون في صدّ الناس عنه) ا.هـ. [«مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب» 6/167]