بحث آخر للعلماء في الجواب عن حادثة السحر ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن ما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم من سحر، هومرض من الأمراض، وعارض من العلل، وهذه تجوز على الأنبياء كغيرهم من البشر، وهي مما لا يُنكر ولا يَقدحُ في النبوة، ولا يُخِلُّ بالرسالة أوالوحي، والله سبحانه إنما عصم نبيه صلى الله عليه وسلم مما يحول بينه وبين الرسالة وتبليغها، وعصمه من القتل، دون العوارض التي تعرض للبدن، وهذا مذهب: المازري [1]، وابن القيم، والعيني [2]، والسندي [3]، وابن باز [4]، وغيرهم[5].
وحكاه القاضي عياض رحمه الله تعالى حيث قال: «وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يُدْخِلُ عليه داخلةً في شيء من تبليغه أوشريعته، أويقدح في صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروؤه عليه في أمر دنياه التي لم يُبعث بسببها ولا فُضل من أجلها، وهوفيها للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان، ولم يأت في خبرٍ أنه نُقل عنه في ذلك قولٌ بخلاف ما كان أخبر أنه فعله ولم يفعله، وإنما كانت خواطر وتخيلات»[6]؛ اهـ.
وقال ابن القيم: «السحر الذي أصابه صلى الله عليه وسلم كان مرضًا من الأمراض عارضًا شفاه الله منه، ولا نقص في ذلك ولا عيب بوجه ما، فإن المرض يجوز على الأنبياء، وكذلك الإغماء، فقد أُغمي عليه صلى الله عليه وسلم في مرضه (متفق عليه)، ووقع حين انفكت قدمه، وجُحِشَ - شِقُّهُ - أي انخدش جلده - وهذا من البلاء الذي يزيده الله به رفعة في درجاته، ونيل كرامته، وأشد الناس بلاءً الأنبياء، فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به، من القتل والضرب والشتم والحبس، فليس بِبدْعٍ أن يُبتلى النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أعدائه بنوع من السحر، كما ابتُلي بالذي رماه فشجَّه، وابتُلي بالذي ألقى على ظهره السلا - الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفًا فيه - وهوساجد (متفق عليه)، وغير ذلك، فلا نقص عليهم ولا عار في ذلك، بل هذا من كمالهم وعلودرجاتهم عند الله»[7].
القول الثاني: أن السحر إنما تسلط على ظاهره وجوارحه، لا على قلبه واعتقاده وعقله، ومعنى الآية عصمة القلب والإيمان، دون عصمة الجسد عما يرد عليه من الحوادث الدنيوية، وهذا اختيار القاضي عياض [8]، وابن حجر الهيتمي[9].
القول الثالث: أن ما رُوي من أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِرَ باطل لا يصح، بل هومن وضع الملحدين، وهذا مذهب المعتزلة[10]، واختيار الجصاص من أهل السنة؛ حيث قال: «زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِرَ، وأن السحر عمل فيه، ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين، تلعبًا بالحشوالطغام، واستجرارًا لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام، والقدح فيها، وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة، وأن جميعه من نوع واحد، والعجب ممن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى: ﴿ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [ طه: 69]، فصدق هؤلاء مَنْ كذَّبَهُ الله وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله.
وجائزٌ أن تكون المرأةُ اليهودية بجهلها فعلتْ ذلك ظنًا منها بأن ذلك يعمل في الأجساد. وقصدتْ به النبي صلى الله عليه وسلم، فأطلعَ اللهُ نبيه على موضع سرها، وأظهر جهلها فيما ارتكبتْ وظنتْ؛ ليكون ذلك من دلائل نبوته، لا أن ذلك ضَرَّهُ وخلَّطَ عليه أمره، ولم يقل كل الرواةِ إنه اختلط عليه أمره، وإنما هذا اللفظ زِيدَ في الحديث ولا أصل له"[11]؛ اهـ.
وحجة هؤلاء أن القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِر يلزم منه:
1- إبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام والقدح فيها.
2- ويلزم منه الخلط بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة.
3- ويلزم منه أن يكون تصديقًا لقول الكفار: ﴿ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ﴾ [ الفرقان: 8 ]، وقال قوم صالح له: ﴿ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴾ [ الشعراء:153]، وكذا قال قوم شعيب له.
4- قالوا: والأنبياء لا يجوز عليهم أن يُسحروا؛ لأن ذلك ينافي حماية الله لهم وعصمتهم[12].
وأجابوا عن حديث عائشة رضي الله عنها الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِر - بأنه مما تفرد به هشام بن عروة[13]، عن أبيه، عن عائشة، وأنه غَلط فيه، واشتبه عليه الأمر[14].
واعترض البعض بما يلي:
1- بأن قولـه تعالى: ﴿ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ﴾، وقولـه: ﴿ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِين ﴾: المراد به: من سُحر حتى جُنَّ وصار كالمجنون الذي زال عقله؛ إذ المسحور الذي لا يُتبع هومن فسد عقله بحيث لا يدري ما يقول، فهوكالمجنون، ولهذا قالوا فيه: ﴿ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ﴾ [الدخان: 14]، وأما من أصيب في بدنه بمرض من الأمراض التي يصاب بها الناس، فإنه لا يمنع ذلك من اتباعه، وأعداء الرسل لم يقذفوهم بأمراض الأبدان، وإنما قذفوهم بما يُحَذِّرون به سفهاءهم من أتباعهم، وهوأنهم قد سحروا حتى صاروا لا يعلمون ما يقولون بمنزلة المجانين، ولهذا قال تعالى: ﴿ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلًا ﴾ [ الإسراء: 48].
2- وأما قولهم: إن سحر الأنبياء ينافي حماية الله تعالى لهم، فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم، فإنه يبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم؛ ليستوجبوا كمال كرامته، وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس، فإنهم إذا رأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم[15].
3- وأما قولهم: بأن حديث عائشة هومما تفرد به هشام بن عروة، فجوابه: أن ما قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم، فإن هشامًا من أوثق الناس وأعلمهم، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب رد حديثه، وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عند أهل التفسير، والسنن والحديث، والتاريخ والفقهاء، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه من غيرهم.
والحديث لم يتفرد به هشام، فقد رواه الأعمش، عن يزيد بن حيان، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال[16]: (سَحَرَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ، فَاشْتَكَى لِذَلِكَ أَيَّامًا؛ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ سَحَرَكَ، عَقَدَ لَكَ عُقَدًا فِي بِئْرِ كَذَا وَكَذَا؛ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَخْرَجُوه َا، فَجِيءَ بِهَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِذَلِكَ الْيَهُودِيِّ، وَلَا رَآهُ فِي وَجْهِهِ قَط)[17].
--------------------
[1] المعلم بفوائد مسلم - للمازري (3/ 93).
[2] عمدة القاري في شرح صحيح البخاري - للعيني - (15/ 98).
[3] حاشية السندي على سنن النسائي (7/ 113).
[4] مجموع فتاوى ابن باز.
[5] انظر: فتح الباري (10/ 237)، ونيل الأوطار (17/ 211).
[6] الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم (2/ 113).
[7] بدائع الفوائد (2/ 192)، وانظر: زاد المعاد (4/ 124).
[8] الشفا – للقاضي عياض - (2/ 113).
[9] الزواجر (2/ 163 ـ 164).
[10] مفاتيح الغيب (32/ 172)، وعمدة القاري (21/ 280).
[11] أحكام القرآن، للجصاص (1/ 58-59).
[12] أحكام القرآن، للجصاص (1/ 59)، ومفاتيح الغيب (32/ 172)، وبدائع الفوائد (2/ 191).
[13] هو: هشام بن عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب، الإمام الثقة، شيخ الإسلام، أبو المنذر القرشي الأسدي الزبيري المدني، قال ابن سعد: كان ثقة ثبتًا كثير الحديث حجة، وقال أبو حاتم الرازي: ثقة إمام في الحديث، وقال يحيى بن معين وجماعة: ثقة (ت: 146 هـ)؛ انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 34).
[14] بدائع الفوائد (2/ 191).
[15] بدائع الفوائد (2/ 192-193)، ومفاتيح الغيب (32/ 172).
[16] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 40)، والإمام أحمد في مسنده (4/ 367)، والنسائي في سننه، في كتاب تحريم الدم، حديث (4080)، جميعهم من طريق الأعمش، به، وصحَّحه الألباني، في صحيح سنن النسائي (3/ 98)، حديث (4091).
[17] بدائع الفوائد (2/ 191).


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/143706/#ixzz6ggw34CHr