قال ابن الصلاح في ((علوم الحديث)): ذكر أبو بكر الخطيب الحافظ رحمه الله أن المسند عند أهل الحديث: هو الذي اتصل إسناده من راويه إلى منتهاه، وأكثرُ ما يُستعمل ذلك فيما جاء عن رسول الله ﷺ دون ما جاء عن الصحابة وغيرهم([1]).
وذكر أبو عمر بن عبد البر الحافظ، أن المسند: ما رُفِع إلى النبي ﷺ خاصة، وقد يكون متصلًا؛ مثل: مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله ﷺ، وقد يكون منقطعًا؛ مثل: مالك، عن الزهري، عن ابن عباس، عن رسول الله ﷺ؛ فهذا مسند؛ لأنه قد أُسْنِد إلى رسول الله ﷺ، وهو منقطع؛ لأن الزهري لم يسمع من ابن عباس رضي الله عنهما([2]).
وحكى أبو عمر عن قوم أن المسند لا يقع إلا على ما اتصل مرفوعًا إلى النبي ﷺ([3]).
قلت: وبهذا قطع الحاكم أبو عبد الله الحافظ رحمه الله، ولم يذكر في كتابه غيره([4]).
فهذه أقوال ثلاثة مختلفة، والله أعلم([5]).


[1])) وعبارته في «الكفاية» (ص21): «وصفهم للحديث بأنه مسند؛ يريدون أن إسناده متصل بين راويه وبين من أسند عنه, إلا أن أكثر استعمالهم هذه العبارة هو فيما أُسنِد عن النبي ﷺ خاصة, واتصال الإسناد فيه أن يكون كل واحد من رواته سمعه ممن فوقه, حتى ينتهي ذلك إلى آخره, وإن لم يبيِّن فيه السماع، بل اقتصر على العنعنة»اهـ.
قلت: اعتُرض على ابن الصلاح بأن الخطيب لم يقل عبارة: «دون ما جاء عن الصحابة وغيرهم».
قلت: وهو اعتراض غير سديد؛ فقول الخطيب: «ما أُسنِد عن النبي ﷺ خاصة»، هو معنى ما نقله ابن الصلاح عنه: «دون ما جاء عن الصحابة وغيرهم»، ولكن ابن الصلاح نقله بالمعنى. ذكر ذلك الحافظ في «نكته» (2/ 19).

[2])) وعبارته في «التمهيد» (1/ 21- 23): «وأما المسند فهو ما رُفِع إلى النبي ﷺ خاصة؛ فالمتصل من المسند مثل مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ، ومالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي ﷺ، ومالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي ﷺ، ومالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ﷺ، ومالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسبب أو أبي سلمة بن عبد الرحمن أو الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ﷺ، ومعمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ، وأيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ، وما كان مثل هذا كله؛ والمنقطع من المسند مثل مالك عن يحيى بن سعيد عن عائشة عن النبي ﷺ، وعن عبد الرحمن بن قاسم عن عائشة عن النبي ﷺ، وعن ابن شهاب عن ابن عباس عن النبي ﷺ، وعن ابن شهاب عن أبي هريرة وعن زيد بن أسلم عن عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ؛ فهذا وما كان مثله مسند لأنه أُسْنِد إلى النبي ﷺ ورُفِع إليه، وهو مع ذلك منقطع؛ لأن يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن القاسم لم يسمعا من عائشة، وكذلك ابن شهاب لم يسمع من ابن عباس، ولا من أبي هريرة، ولا سمع زيد بن أسلم من عمر، وأكثر من هذا في الانقطاع مالك أنه بلغه عن جابر بن عبد الله عن النبي ﷺ، وعن عائشة وعن أنس عن النبي ﷺ، وما كان مثله»اهـ.

[3])) وعبارته في «التمهيد» (1/ 25): «وقد ذهب قوم إلى أن المرفوع كل ما أضيف إلى النبي ﷺ متصلًا كان أو مقطوعًا، وأن المسند لا يقع إلا على ما اتصل مرفوعًا إلى النبي ﷺ؛ ففرقوا بين المرفوع والمسند بأن المسند هو الذي لا يدخله انقطاع، ومما يُعرف به اتصال الرواة ولقاء بعضهم بعضًا؛ فلذا صار الحديث مقطوعًا وإن كان مسندًا؛ لأن ظاهره يتصل إلى النبي ﷺ، وهو منقطع، وقال آخرون: المرفوع والمسند سواء وهما شيء واحد، والانقطاع يدخل عليهما جميعًا والاتصال»اهـ.

[4])) وعبارته في «معرفة علوم الحديث» (ص17، 18): «والمسند من الحديث أن يرويه المحدِّث عن شيخ يظهر سماعه منه، ليس يحتمله، وكذلك سماع شيخه من شيخه، إلى أن يصل الإسناد إلى صحابي مشهور إلى رسول الله ﷺ، ثم للمسند شرائط غير ما ذكرناه؛ منها أن لا يكون موقوفًا، ولا مرسلًا، ولا معضلًا، ولا في روايته مدلس، ومن شرائط المسند أن لا يكون في إسناده: أُخْبرت عن فلان، ولا حُدِّثت عن فلان، ولا بلغني عن فلان، ولا رفعه فلان، ولا أظنه مرفوعًا، وغير ذلك ما ينفسد به، ونحن مع هذه الشرائط لا نحكم لهذا الحديث بالصحة، فإن الصحيح من الحديث له شرط نذكره في موضعه إن شاء الله»اهـ.

[5])) قال الحافظ في «نكته» (2/ 20- 23): «فالحاصل أن المسند عند الخطيب يُنظر فيه إلى ما يتعلق بالسند؛ فيشترط فيه الاتصال، وإلى ما يتعلق بالمتن فلا يشترط فيه الرفع، إلا من حيث الأغلب في الاستعمال، فمِن لازم ذلك أن الموقوف إذا اتصل سنده يُسمى مسندًا، ففي الحقيقة لا فرق عند الخطيب بين المسند والمتصل إلا في غلبة الاستعمال فقط.
وأما ابن عبد البر فلا فرق عنده بين المسند والمرفوع مطلقًا، فيلزم على قوله أن يتحد المرسل والمسند؛ وهو مخالف للمستفيض من عمل أئمة الحديث في مقابلتهم بين المرسل والمسند، فيقولون: أسنده فلان، وأرسله فلان».
وأما الحاكم وغيره ففرقوا بين المسند والمتصل والمرفوع؛ بأن المرفوع يُنظر فيه إلى حال المتن مع قطع النظر عن الإسناد، فحيث صح إضافته إلى النبي ﷺ كان مرفوعًا، سواء اتصل إسناده أم لا.
ومقابله المتصل؛ فإنه يُنظر فيه إلى حال الإسناد مع قطع النظر عن المتن، سواء كان مرفوعًا أو موقوفًا.
وأما المسند فيُنظر فيه إلى الحالين معًا، فيجمع شرطي الاتصال والرفع؛ فيكون بينه وبين كلٍّ من الرفع والاتصال عموم وخصوص مطلق؛ فكل مسند مرفوع، وكل مسند متصل، ولا عكس فيهما.
على هذا رأي الحاكم، وبه جزم أبو عمرو الداني، وأبو الحسن ابن الحصار في «المدارك» له، والشيخ تقي الدين في «الاقتراح».
والذي يظهر لي بالاستقراء من كلام أئمة الحديث وتصرفهم: أن المسند عندهم ما أضافه مَن سمع النبي ﷺ إليه بسند ظاهره الاتصال.
فـ«من سمع» أعم من أن يكون صحابيًّا، أو تحمَّل في كفره وأسلم بعد النبي ﷺ، لكنه يُخرج من لم يسمع؛ كالمرسل والمعضل.
و«بسند»؛ يُخرِج ما كان بلا سند؛ كقول القائل من المصنفين: «قال رسول الله ﷺ»؛ فإن هذا من قَبيل المعلق.
و«ظهور الاتصال»؛ يُخرِج المنقطع، لكن يَدخل منه ما فيه انقطاع خفي؛ كعنعنة المدلس، والنوع المسمى بالمرسل الخفي، فلا يخرج ذلك عن كون الحديث يسمى مسندًا.
ومن تأمل مصنفات الأئمة في المسانيد لم يرها تخرج عن اعتبار هذه الأمور.
وقد راجعت كلام الحاكم بعد هذا فوجدت عبارته: «والمسند ما رواه المحدِّث عن شيخ يظهر سماعه منه، ليس يحتمله، وكذا سماع شيخه من شيخه، متصلًا إلى صحابي، إلى رسول الله ﷺ»، فلم يشترط حقيقة الاتصال، بل اكتفى بظهور ذلك، كما قلته تفقُّهًا، ولله الحمد.
وبهذا يتبين الفرق بين الأنواع، وتحصل السلامة من تداخلها واتحادها؛ إذ الأصل عدم الترادف والاشتراك، والله أعلم»اهـ.