الأحكام الكلية والأحكام الجزئية
رياض أدهمي

كثيراً ما تحدثنا فيما مضى عن علم المقاصد وأَعلامِهِ من باب رؤية الدور الخطير لهذا العلم في تصحيح فهمنا المعاصر للشريعة الغراء وأحكامها السمحة. إلا أن متابعة الدراسة المتأنية لكنوزه كثيراً ما تتكشَّف عن وجود قواعد تأصيلية رائعة، تتجلَّى عبقريتُها الفذة في قدرتها على رسم كثيرٍ من الخطوط الأساسية الفاصلة في منهجية تفكير الإنسان المسلم المعاصر وطريقة فهمه لكثيرٍ من الأمور في هذا العالم.
وفي هذه المقالة، نعرض لتحليل واحدةٍ من هذه القواعد الأصولية، وقد وردت في كتاب "الموافقات" للإمام الشاطبي - رحمه الله -، ونحاول أن نستقرأ منها منهجيةً لفهمٍ متوازن لقيمة العلم والسنن الكونية والاجتماعية، من حيث درجة نسبيتها وعلاقتها بطلاقة المشيئة الإلهية، بشكلٍ تتحدد معه الطريقة المُثلى لتعامل أهل الفكر مع تلك الأمور تعاملاً يضمن التفاهم والتعاون والتكامل، و يُبعد سوء الفهم والخلاف.
فقد ذكر الإمام الشاطبي في الموافقات القاعدة الأصولية التالية:
"إن العلم بالأحكام الكلية قطعيٌ لا يَقدح به و لا يعارضه تخلف الأمور الجزئية..... و هكذا سائر مسائل الأصول. ألا ترى أن العمل بالقياس قطعي، و العمل بخبر الواحد قطعي، و العمل بالترجيح عند تعارض الدليلين الظنيين قطعي، إلى أشباه ذلك. فإذا جئت إلى قياسٍ معين لتعمل به كان العمل ظنياً، أو أخذت بخبر واحد معين وجدته ظنياً لا قطعياً، و كذلك سائر المسائل، و لم يكن ذلك قادحاً في أصل المسألة الكلية".

نظرتُ في هذه القاعدة الأصولية فوجدت أن فهمها و معرفة أبعاد تطبيقاتها تُوفر علينا الكثير من الوقت و الجهد الذي نصرفه في رفع بعض أشكال سوء التفاهم بين العاملين في ساحة الفكر و الثقافة. فلا يصعب على المتتبع لما يدور من الحوار و المناقشة حول القضايا المتعلقة بأزمة التخلف و الجمود، أن يجد مقداراً كبيراً من سوء التفاهم الذي يحمل على سوء الظن، و الذي تنقطع معه القدرة على التواصل و التفاهم و التعاون.
يؤمن فريقٌ من المهتمين بقضايا الفكر وبقضايا الأمة بأن العلم هو الأساس و المنطلق لأي عملٍ باتجاه بدء عملية النهضة و رفع التخلف، ولذلك تراهم يبدؤون و يعيدون في فضل العلم و الإقبال على القراءة و البحث و الإطلاع، حتى إذا وقعوا على كلامٍ يتحدث عن نسبية العلم و أنه ينفي اليوم ما أثبته بالأمس... إلى أشباه ذلك، ضاقوا بهذا الكلام و اعتبروه انتكاساً عن العلم و رجوعاً إلى الخرافة و الظن و التخمين، و اعتبروا أن الإشادة بالعلم و الاستشهاد بالآيات و الأحاديث على ذلك لا يعدو أن يكون كلاماً و ادعاءً يكذبه التردد في القبول و التسليم بالعلم و نتائجه.
و يؤمن فريقٌ آخر بأن السنن الكونية و القوانين الطبيعية هي أمرٌ ثابتٌ مستقرٌ في الوجود، و أنه لا يمكن التغيير الحقيقي في الأمة بأي اتجاه إلا بعد فهم سنن التغيير و إدراك قوانين التدافع. وإذا بفريقٍ آخر يرى في هذا التقرير تطاولاً على الله و جراءةً على طلاقة المشيئة الإلهية، و أن هذا الكلام يقترب من القول بالحتميات التاريخية التي يقول بها الماديون و الماركسيون. فكم من أمرٍ اكتملت أسبابه التي نعلمها و مقدماته التي نحصيها ولم يرد الله - سبحانه - أن يكون، ليبقى الناس مع سننهم و قوانينهم و مع دعاوي حتميتها في حيرةٍ و اضطراب.
إن القول بضرورة العلم و القول بوجوب اتباع الدليل و المطالبة بالبرهان في دراسة الظواهر الكونية و الاجتماعية من الأمور القطعية التي لا يجب أن يختلف عليها عاقلان. ولكن إذا جئنا بعد ذلك - إلى نظريةٍ بعينها لتفسير ظاهرةٍ كونية أو اجتماعية، أو لبيان كيفية التعامل معها وجدنا الكلام ظنياً غير قطعي - بمعنى أن بعض التفاصيل تفتقر إلى البرهان اليقيني الذي لا يُختلف فيه - فالناس في محاولةٍ دائبة لتصحيح تصوراتهم و نظراتهم إذ لا سبيل إلى التطوير و الارتقاء إلا بالإيمان بنسبية ما نصل إليه اليوم لتصحيحه غداً على طريق البناء الصاعد للمعرفة، و هذا لا يتناقض أبداً مع تسليمنا المطلق بأن الإيمان بالمنهج العلمي لازمٌ و واجب. فإذا أشار من يشتغل في أي فرع من فروع المعرفة إلى نسبية و محدودية ما تم التوصل إليه، كان ذلك إيماناً منه ولا شك - بالمنهج العلمي و إرادةً لاستمرار المحاولة و الارتقاء بالفهم ليقترب من الكمال المقدر للإنسان في هذا المجال.
و كذلك فإن ثبات السنن و القوانين الطبيعية و الاجتماعية أمرٌ لا شك فيه، فإذا قال المرء بنسبية صواب فهمٍ معين لما تجري عليه الأمور، و أدرك تَعقُّدَ الظواهر الاجتماعية و الإنسانية فأمسك عن القول بالحتمية، لم يكن ذلك قادحاً في الإيمان بثبات السنن، و إنما كان هو الفهم الحقيقي الأصيل لظنية آحاد المسائل التي نتناولها بالبحث و الدراسة، و لضرورة المحاولة الدائبة لتصحيح الرؤية و إحكام العلم.
إن القول بقطعية العلم و القول بقطعية السنن و القوانين هو منهجٌ في البحث و النظر و طريقةٌ في التعامل مع الكون و الحياة، وليس جموداً على قضايا و مسائل كانت تمثل أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني في يوم من الأيام.
وإن المنهج العلمي المتمثل في البحث الدائب و النظر المستمر و التفكير المتواصل و طلب الدليل و البرهان هو أصلٌ كليٌ و طريقةٌ قطعيةٌ مستقرة. أما آحاد المسائل و القضايا فيما نبحثه و نتأمل و نفكر فيه فكلها من الأمور الظنية القابلة للتصحيح و الزيادة و التطوير.
و مما يزيد الأمر وضوحاً ما ورد في الأثر: من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ. و قد شرح العلماء هذه العبارة بقولهم: من قال في القرآن برأيه فأصاب في مسألة ما فقد أخطأ في المنهج و ابتعد عن الطريق، فلا ضمان ألا يتكرر الخطأ و يستمر الضلال إلا بتأصيل منهج النظر و الاستنباط، و لا عبرة بصواب رأيٍ أو فكرة شاردة عن المنهج.وكذلك لا ضرر من الخطأ إذا اجتهد المرء و بحث ونظر و شاور و طلب الدليل، بل إن نتيجة ذلك هي الأجر و القبول من الله - تعالى - جزاءً على الجهد في تأصيل منهج النظر و لو أدى ذلك أحياناً إلى مجانبة الصواب.