محطات خاصة تتعلق بموضوع العلة والاختلاط.
أولاً: العلة: فمفهوم العلة لغةً: تطلق العلة في اللغة على عدة معان منها :المرض، وصاحبها معتل، عل المريض يعل فهو عليل([1])، وقال صاحب القاموس: العلة بالكسر: المرض، عل يعل واعتل وأعله تعالى، فهو معل وعليل، ولا تقل معلول([2])، أما العِلَّةِ اصْطِلاَحًا، يُعَرِّفُ علماءُ الحديث العِلَّةَ: بأنها أسبابٌ غامضةٌ خَفيَّةٌ قادحةٌ في صِحَّةِ الحديث، مع أنَّ الظاهرَ السلامةُ منها، ويعرِّفون الحديثَ المعلول: بأنه الذي اطُّلِعَ فيه على عِلَّةٍ تَقْدَحُ في صِحَّته، مع أنَّ الظاهرَ السلامةُ منها، وعرَّفه الحافظُ العراقي مَرَّةً بنحو هذا التعريف([3])، ونقَلَ البِقَاعي([4]) عن الحافظ ابن حجر أنه عرَّفه بقوله: "هو خبرٌ ظاهرُهُ السلامةُ، اطُّلِعَ فيه بعد التفتيش على قادحٍ" ، وهذا التعريفُ اختاره الحافظ السخاوي([5]) ، ولم يَنْسُبه إلى أحد([6]).
وأما الدَلاَلةٌ على أهميَّةِ عِلْمِ العلل، يقولُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ: "لَأَنْ أَعْرِفَ عِلَّةَ حديثٍ هُوَ عِنْدِي، أَحَبُّ إليَّ من أن أكتبَ عشرين حديثًا لَيْسَ عِنْدِي"([7])، وقال الحافظ ابن حجر عن هذا العلم: "هو من أغمض أنواع علوم الحديث، وأدقِّها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله فهما ثاقباً، وحفظاً واسعاً، ومعرفة بمراتب الرُّواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون، ولذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشَّأن كعلي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري ويعقوب بن شيبة وأبي حاتم وأبي زرعة الرَّازيَّين والدَّارقطني"، وقال: "وقد تقصر عبارة المعلِّلِ عن إقامة الحجَّة على دعواه، كالصَّيرفيِّ في نقد الدِّينار والدِّرهم"([8]).
ومما يدل أيضا على أهمية هذا العلم وصعوبته:أنه ربما توقف الناقد في حديث ما لخفاء علته فلا يقف عليها إلا بعد مدة طويلة، قال الخطيب البغدادي: "فمن الأحاديث ما تخفى علته، فلا يُوقف عليها إلا بعد النظر الشديد ومضي الزمن البعيد"، ثم أسند عن علي بن المديني أنه قال: "ربما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة!!"([9])، وأما أقسام العلة، فقد ذكرها الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح، فنذكر ملخصها:
أولا: تقسيم العلة بعدة اعتبارات:
تقسيم العلة بحسب تأثيرها، وهي على قسمين:
علة قادحة: وهي العلة التي يُضعّف الحديث من أجلها.
علة غير قادحة: وهي العلة التي لا يُضعف بها الحديث.
تقسيم العلة بحسب محلها، وهي على قسمين:
علة في الإسناد: وهي العلة التي تقع في إسناد الحديث.
علة في المتن: وهي العلة التي تقع في متن الحديث.
ج_ تقسيم العلة بحسب تأثيرها ومحلها معاً: وهذا التقسيم هو الذي ذكره ابن حجر في نكته على ابن الصلاح فإنه قال: "إذا وقعت العلة في الإسناد قد تقدح وقد لا تقدح، وإذا قدحت فقد تخصه وقد تستلزم القدح في المتن. وكذا القول في المتن سواء"([10]).
د- تقسيم العلة بحسب صورها:
قسمها أبوعبد الله الحاكم في كتابه معرفة علوم الحديث إلى عشرة أقسام([11])، ولم يذكر تعريفاً لكل نوع وإنما اكتفى ببيان أمثلة لكل نوع، ثم جاء السيوطي وذكر هذه الأنواع باختصار معرفاً لكل نوع منها، فقال: "وَقَدْ قَسَّمَ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ أَجْنَاسَ الْمُعَلَّلِ إِلَى عَشَرَةٍ، وَنَحْنُ نُلَخِّصُهَا هُنَا بِأَمْثِلَتِهَا : أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ السَّنَدُ ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ وَفِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ بِالسَّمَاعِ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ، الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا مِنْ وَجْهٍ، رَوَاهُ الثِّقَاتُ الْحُفَّاظُ، وَيُسْنَدُ مِنْ وَجْهٍ ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ، الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَحْفُوظًا عَنْ صَحَابِيٍّ وَيُرْوَى عَنْ غَيْرِهِ لِاخْتِلَافِ بِلَادِ رُوَاتِهِ، كَرِوَايَةِ الْمَدَنِيِّينَ عَنِ الْكُوفِيِّينَ، الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا عَنْ صَحَابِيٍّ، فَيُرْوَى عَنْ تَابِعِيٍّ يَقَعُ الْوَهْمُ بِالتَّصْرِيحِ بِمَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ، بَلْ وَلَا يَكُونُ مَعْرُوفًا مِنْ جِهَتِهِ، الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ رُوِيَ بِالْعَنْعَنَةِ ، وَسَقَطَ مِنْهُ رَجُلٌ، دَلَّ عَلَيْهِ طَرِيقٌ أُخْرَى مَحْفُوظَةٌ، السَّادِسُ: أَنْ يُخْتَلَفَ عَلَى رَجُلٍ بِالْإِسْنَادِ وَغَيْرِهِ، وَيَكُونَ الْمَحْفُوظُ عَنْهُ مَا قَابَلَ الْإِسْنَادَ، السَّابِعُ: الِاخْتِلَافُ عَلَى رَجُلٍ فِي تَسْمِيَةِ شَيْخِهِ أَوْ تَجْهِيلِهِ، الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي عَنْ شَخْصٍ أَدْرَكَهُ وَسَمِعَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَحَادِيثَ مُعَيَّنَةً، فَإِذَا رَوَاهَا عَنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، فَعِلَّتُهَا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهَا مِنْهُ، التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ طَرِيقُهُ مَعْرُوفَةً، يَرْوِي أَحَدُ رِجَالِهَا حَدِيثًا مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الطَّرِيقِ، فَيَقَعُ مَنْ رَوَاهُ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ - بِنَاءً عَلَى الْجَادَّةِ - فِي الْوَهْمِ -، الْعَاشِرُ: أَنْ يُرْوَى الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهٍ، وَمَوْقُوفًا مِنْ وَجْهٍ"([12]).
ولما كانت العلة سبباً خفياً غامضا،ً فلا بد من وجود طرق تؤدي إلى معرفة العلة، الخطيب البغدادي أشار إلى ذلك بقوله: "َوالسَّبِيلُ إِلَى مَعْرِفَةِ عِلَّةِ الْحَدِيثِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ طُرُقِهِ، وَيَنْظُرَ فِي اخْتِلَافِ رُوَاتِهِ وَيُعْتَبَرَ بِمَكَانِهِمْ مِنَ الْحِفْظِ وَمَنْزِلَتِهِم ْ فِي الْإِتْقَانِ وَالضَّبْطِ"([13]).
ثانياً: الاختلاط: لغة: قال علماء اللغة:"خلط: خَلَطَ الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ يَخْلِطُه خَلْطاً وخَلَّطَه فاخْتَلَطَ: مَزَجَه واخْتَلَطا"([14])، والمعاني كثيرة، أما اصطلاحا: قال السخاوي:" فَسَادُ الْعَقْلِ وَعَدَمُ انْتِظَامِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ; إِمَّا بِخَرَفٍ أَوْ ضَرَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ عَرَضٍ مِنْ مَوْتِ ابْنٍ وَسَرِقَةِ مَالٍ"([15]).
والحديث عن أسباب الاختلاط ذكرها العلماء منها:" سُوءُ الحِفْظِ آخِرَ العمر، العَمَى مع عَدَمِ الحفظ، احتراقُ الكُتُبِ أو ضياعُهَا، مَنْ كان لا يَحْفَظُ حديثَهُ، فيُحَدِّثُ من غيرِ كتابِهِ أحيانًا، فَيَهِمُ.، عدمُ اصطحابِ الكتابِ أثناءَ الرِّحْلة، فيُحَدِّثُ من حفظه، فَيَهِمُ، السماعُ مِنَ الشيخِ في مكانٍ دون ضَبْط، والسماعُ منه في مكانٍ آخَرَ مع الضبط، مَنْ حَدَّثَ عن أهلِ مِصْرٍ أو إقليمٍ فحفظَ حديثَهُمْ، وحدَّثَ عن غيرهم فلم يَحْفَظْ، مَنْ حَدَّثَ عنه أهلُ مِصْرٍ أو إقليمٍ فحفظوا حديثَهُ، وحدَّث عنه غيرُهُمْ فلم يُقِيمُوا حديثه، من انشغَلَ عن العلمِ بأمرٍ آخَرَ كالقضاء، قِصَرُ صُحْبةِ الشيخ"([16]).
وأما الحديث عن مراتب الاختلاط: قال العلائي:" أما الرواة الذين حصل لهم الاختلاط في آخر عمرهم فهم على ثلاثة أقسام: أحدها: من لم يوجب ذلك له ضعفا أصلا ولم يحط من مرتبته إما لقصر مدة الاختلاط وقلته كسفيان بن عيينة وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه وهما من أئمة الإسلام المتفق عليهم وإما لأنه لم يرو شيئا حال اختلاطه فسلم حديثه من الوهم كجرير بن حازم وعفان بن مسلم ونحوهما، والثاني: من كان متكلما فيه قبل الاختلاط فلم يحصل من الاختلاط إلا زيادة في ضعفه كابن لهيعة ومحمد بن جابر السحيمي ونحوهما، والثالث: من كان محتجا به ثم اختلط أو عمر في آخر عمره فحصل الاضطراب فيما روى بعد ذلك فيتوقف الاحتجاج به على التمييز بين ما حدث به قبل الاختلاط عما رواه بعد ذلك"([17]).
والسؤال الذي يدور الآن، بعد الذي ذُكِرْ بتعريف الاختلاط وأسبابه ومراتبه، ما هو حكم رواية المختلط: قال ابن الصلاح:"وَالْحُك ْمُ فِيهِمْ أَنَّهُ يُقْبَلُ حَدِيثُ مَنْ أُخِذَ عَنْهُمْ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ، وَلَا يُقْبَلُ حَدِيثُ مَنْ أُخِذَ عَنْهُ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ، أَوْ أُشْكِلَ أَمْرُهُ فَلَمْ يُدْرَ هَلْ أُخِذَ عَنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ أَوْ بَعْدَهُ، فَمِنْهُمْ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ: اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فَاحْتَجَّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِرِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنْهُ، مِثْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ، لِأَنَّ سَمَاعَهُمْ مِنْهُ كَانَ فِي الصِّحَّةِ، وَتَرَكُوا الِاحْتِجَاجَ بِرِوَايَةِ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ آخِرًا"([18]).
وقال الحافظ ابن حجر:" إن كانَ سوءُ الحفظِ طارِئاً على الرَّاوي إِمَّا لكِبَرِهِ أَو لذَهابِ بصرِه، أَوْ لاحتِراقِ كُتُبِه، أَو عدمِها؛ بأَنْ كانَ يعْتَمِدُها، فرَجَعَ إِلى حفظِهِ، فساءَ، فهذا هو المُخْتَلِطُ، والحُكْمُ فيهِ أَنَّ ما حَدَّثَ بهِ قبلَ الاختلاطِ إِذا تَميَّزَ قُبِلَ، وإِذا لم يَتَمَيَّزْ تُوُقِّفَ فيهِ، وكذا مَن اشتَبَهَ الأمرُ فيهِ، وإِنَّما يُعْرَفُ ذلك باعْتِبارِ الآخِذينَ عنهُ"([19]).


([1])الرازي: معجم مقاييس اللغة (4/ 13).

[2])) الفيروزآبادى: قاموس المحيط ( 4/ 21).

([3]) انظر: شرح الألفية (ص104) .

([4]) انظر: النكت الوفيّة، بما في شرح الألفية (2/254)

[5])) انظر: فتح المغيث (1/261)

([6]) انظر: علل الحديث لابن أبي حاتم (1/ 47)، المقنع لابن الملقن (1/212) ، النكت على ابن الصلاح (2/710) ، فتح المغيث للسخاوي (1/260) ، تدريب الراوي للسيوطي (1/408) .

([7]) علل الحديث لابن أبي حاتم (1/ 19)

([8]) نزهة النظر لابن حجر (ص 89)

([9]) الجامع، لأخلاق الراوي وآداب السامع(1838)

[10])) النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (1/ 142)

([11]) معرفة علوم الحديث للحاكم (ص: 112)

([12]) تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (1/ 304)

([13]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (2/ 295)

([14]) انظر: لسان العرب (7/ 291) ، المعجم الوسيط (1/ 250)، تاج العروس (19/ 267)

([15]) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (4/ 366)

([16]) علل الحديث لابن أبي حاتم (1/ 155)

[17])) المختلطين للعلائي (ص: 3)

([18]) مقدمة ابن الصلاح = معرفة أنواع علوم الحديث - ت عتر (ص: 392)

([19]) نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر ت عتر (ص: 104)