وإذا كان كذلك، فيجتمع إذاً في الخوف من الشرك من هم على غير التوحيد، يعني:
-من يعبدون غير الله.
-ويستغيثون بغير الله.
-ويتوجهون إلى غير الله.
-ويذبحون لغير الله.
-وينذرون لغير الله.
-ويحبون -محبة العبادة- غير الله.
- ويرجون غير الله؛ رجاء العبادة.
-ويخافون خوف السر من غير الله، إلى غير ذلك، يكون هؤلاء أولى بالخوف من الشرك؛ لأنهم وقعوا فيما هو مُتّفَقٌ عليه في أنه لا يغفر.
كذلك يقع في الخوف؛ ويكون الخوف أعظم ما يكون في أهل الإسلام، الذين قد يشركون بعض أنواع الشرك، من الشرك الخفي، أو الشرك الأصغر بأنواعه وهم لا يشعرون، أو وهم لا يحذرون، فيكون الخوف إذا علم العبد المسلم أن الشرك بأنواعه لا يغفر، وأنه مؤاخذ به،فليست الصلاة إلى الصلاة يغفر بها الشرك الأصغر، وليس رمضان إلى رمضان يغفر به الشرك الأصغر، وليست الجمعة إلى الجمعة يغفر به الشرك الأصغر، فإذاً: يغفر بماذا؟
يغفر بالتوبة فقط، فإن لم يتب فإنه ثَمَّ الموازنة بين الحسنات وبين السيئات، وما ظنكم بسيئة فيها التشريك بالله مع حسنات، من ينجو من ذلك؟
ليس ثَمَّ؛ إلا من عَظُمَتْ حسناته فزادت على سيئة ما وقع فيه من أنواع الشرك، ولاشك أن هذا يوجب الخوف الشديد؛ لأن المرء على خطر في أنه توزن حسناته وسيئاته، ثم يكون في سيئاته أنواع الشرك.
وهي كما هو معلوم عندكم، أن الشرك بأنواعه من حيث الجنس، أعظم من الكبائر؛ كبائر الأعمال المعروفة.
إذاً: وجه الاستدلال من آية النساء، أن قوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} أن فيها عموماً يشمل أنواع الشرك جميعاً، وهذه لا تغفر، فيكون ذلك موجباً للخوف من الشرك، وإذا وقع أو حصل الشرك في القلب؛ فإن العبد يطلب معرفة أنواعه، حتى لا يشرك؛ ومعرفة أصنافه وأفراده، حتى لا يقع فيها، وحتى يُحَذِّر أحبابه ومن حوله منها.
لذلك كان أحب الخلق، أو أحب الناس، وخير الناس للناس؛ من يحذرهم من هذا الأمر، ولو لم يشعروا، ولو لم يعقلوا، قال جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} لأنهم يدلون الخلق على ما ينجيهم،
فالذي يحب للخلق النجاة هو الذي يحذرهم من الشرك بأنواعه،
ويدعوهم إلى التوحيد بأنواعه؛
لأن هذا أعظم ما يدعى إليه،
ولهذا لما حصل من بعض القرى في زمن إمام الدعوة التردد، وشك، ورجوع عن مناصرة الدعوة، وفهم ما جاء به الشيخ رحمه الله، وكتبوا للشيخ، وغلَّظوا،
وقالوا: (إن ما جئت به ليس بصحيح، و إنك تريد كذا وكذا)
قال في آخرها بعد أن شرح التوحيد وضده، ورغَّب ورهَّب،
قال في آخرها رحمه الله:
(ولو كنتم تعقلون حقيقة ما دعوتكم إليه؛ لكنت أغلى عندكم من آبائكم، وأمهاتكم وأبنائكم، ولكنكم قوم لا تعقلون).
وهذا صحيح، ولكن لا يعقله إلا من عرف حق الله جل وعلا، رحمه الله تعالى،
وأجزل له المثوبة؛ فجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء، ورفع درجته في المهديين، والنبيين، والصالحين.[آمين]
ثم ساق الشيخ -رحمه الله- بعد هذه الآية
قول الله جل وعلا: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}
الذي دعا بهذه الدعوة هو إبراهيم عليه السلام، ومرّ معنا في الباب قبله
أن إبراهيم قد حقق التوحيد، وقد وصفه الله بأنه كان أمة قانتاً لله حنيفاً،
وبأنه لم يك من المشركين،
فمن كان على هذه الحال، هل يطمئن من أنه لن يعبد غير الله، ولن يعبد الأصنام، أم يظل على خوفه؟
حال الكُمَّل الذين حققوا التوحيد؛
هل هم يطمئنون أم يخافون؟
هذا إبراهيم -عليه السلام- كما في هذه الآية
خاف الشرك،
وخاف عبادة الأصنام؛
فدعا الله بقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ}
فكيف بمن دون إبراهيم ممن ليس من السبعين ألفاً، وهم عامة هذه الأمة؟
والواقع أن عامة الأمة لا يخافون من الشرك،
فمن الذي يخاف؟ هو الذي يسعى في تحقيق التوحيد.
قال إبراهيم التيمي رحمه الله -من سادات التابعين- لما تلا هذه الآية قال: (ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟)
إذا كان إبراهيم -عليه السلام- هو الذي حقق التوحيد، وهو الذي وصف بما وصف به، وهو الذي كسر الأصنام بيده، ويخاف، فمن يأمن البلاء بعده؟
إذاً: ما ثَمَّ إلا غرور أهل الغرور.
وهذا يوجب الخوف الشديد؛
لأنه ما أُعطي إبراهيم الضمانة على ألا يشرك،
وعلى ألا يزيغ قلبه،
مع أنه سيد المحققين للتوحيد في زمانه،
بل وبعد زمانه إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، فهو سيد ولد آدم ومع ذلك خاف.