الإفتاء
وليد بن عثمان الرشودي


الإفتاء من أهم الأمور في حياة المسلم، ولا يستغني عنه أي متعبد لله يطلب رضاه ويسعى لتحقيق شرطي قبول العمل: الإخلاص والمتابعة.
ومن هذا المنطلق الأساس كانت عناية الشريعة بالإفتاء عناية فائقة؛ فجاءت النصوص بتبيين صفات المفتي وآداب المستفتي (فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)؛ فالسؤال لأهل الذكر، الذين عُرِّفت صفاتهم بمثل قول الله - تعالى -: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط)، وقوله (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، ولذلك جاءت النصوص أيضاً بالتحذير من التعجل أو التشرف للفتيا (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب)، وحذر أهل العلم من يفتي بغير علم أنه قد يدخل في قول الله: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة)؛ فالمضي كما هو على جادة صعبة خطرة، كذلك هو على باب من الخير عظيم؛ فشرفه ظاهر، واستغفار المخلوقات له جلي واضح، وله أجر كل من عمل بعلمه؛ لأنه من دعا إلى هدى كان له كأجر فاعله، وهو من أحسن الناس قولاً، وغير ذلك من الصفات التشريفية والفضائل الربانية لمثل هذا المفتي، الذي يفتي الناس بالعلم والهدى المستمد من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفهم الصحابة وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، ولم يقدم مصلحة هو يراها قد ضخمها عقله على النصوص الواضحة البينة؛ فهو يعلم أن النص يقضي على العقل لا العقل يقضي على النص؛ فالنص قاض والعقل شاهد، وإن شاء القاضي قَبِل الشاهد وإن شاء رده، وغير ذلك من محسنات أو مصالح تقدرها الظروف أكثر من النصوص. والمقصود أن من تشرف للفتوى فقد ارتقى مرتقىً صعباً، وقد مد ظهره جسرًا إلى جهنم؛ فالورع والتقوى هو السبيل للنجاة.
والمستفتي على عاتقه واجب أيضاً، وهو أن يسأل أهل الذكر المعروفين بالعلم والتقوى ليصح له الجواب، ويكون طريقه للتعبد، فليست قضية الفتوى هي قضية تخلّص من موقف بأي طريقة كانت وعلى قاعدة (خل بينك وبين النار مطوع)، لا..؛ بل هي قضية عبادة محضة، فالمستفتي يتعبد لله بطلب هذا السؤال وجوابه، ليعبد الله على بصيرة، فإذا فهم المستفتي ما سبق لم يفتن كثيراً من الناس.
إذاً الفتوى أثرها عظيم، ووضعها خطير؛ حيث إنها هي التي تبين أحكام الشريعة وتظهرها للناس، وهي التي توضح دين الناس وتزيل عنه الالتباس، ومن هنا يجب الحفاظ عليها والاعتناء بها، سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، وبدت منها علامة من علامات النبوة في وصف آخر الزمان؛ كما في البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". وقد ظهرت بعض صوره في محطات فضائية تروج للفتوى بأي طريقة كانت، تظهر الاستخفاف بالفتوى وأهلها، حتى إن الفتوى وهنت في هذا الزمان، والواجب المحافظة على الفتوى وحمايتها؛ لأنها هي الباب الذي يلج منه الباطل والفساد، فعند ضياع الفتوى تضيع الكليات الخمس: الدين، والعقل، والنفس، والمال، والعرض. وتكون كلأً مباحاً لكل عابث؛ وهنا أضع نقاطًا لعلها تكون مساهمة في المحافظة على الفتيا ومكانتها:
1-يجب المحافظة على مرجعية الفتوى، فما تتابع المسلمون عليه من تنصيب مفت لهم إلا للرجوع إليه عند مسائل الاختلاف والاجتهاد، والصدور عن رأيه. فالمحافظة عليه من الجهات الرسمية والمدنية مهم جداً في حفظ استقرار البلاد والعباد؛ فحينما تأخذ الجهات الرسمية قضية الفتوى مأخذ الجد والتطبيق والتحاكم؛ تكون هي التي تحافظ على استقرارها ونجاحها، فلا يحطم الفتوى مثل الجهات الرسمية (الحكومية)، التي لا ترفع رأساً للفتوى، ولا تأبه لها إلا فيما يخدم مصلحتها؛ فهنا الناس من باب الأولى يرققون قضية الفتوى والعناية بها. فيجب أن تفعّل الفتوى في القضايا المصيرية التي تعانق دين العباد، خصوصاً في قضية التوحيد والتأله وقضايا المجتمع الخطيرة المتعلقة بأموال الناس؛ كالبنوك والمساهمات والمرأة وغير ذلك..، فحينما تكون الفتوى هي الحاكمة في مثل هذه الأمور والصدور عن رأيها؛ تجتمع الكلمة، ويتوحد الصف، ويتم الاستقرار؛ لكن حينما يخالف القرار المفتَى به فعند ذلك لا تسأل عن سوء العاقبة.
2-التفريق بين مسائل الفتوى والاحتساب، وهذا مطلب مهم؛ فليس وقوع المنكر والاحتساب عليه يقتضي أن يربط بالفتيا، فهذا له بابه وذاك له باب؛ فالفتيا تبين الحكم الشرعي في المسألة ووجه الصواب في العمل، والاحتساب تتابع الجهد في المحافظة على دين الناس من الوقوع في الخطأ، ومن الخطأ أن يتداخل هذا في ذاك. صحيح أن الاحتساب لا يصدر إلا عن علم بطبيعة هذا المحتسب عليه، وكيفية تنفيذه. ومقصودي أنه لا تُجرّ الفتيا لتكون أثراً للاحتساب.
3-عظم الفتوى يقتضي الترشيد في عملية الاستفتاء، وأن تقع موقعها اللائق بها؛ فليس كل من ألقى كلمة أو خطب خطبة أو صلى إماماً بالناس أهلاً للفتوى، ولو قصده الناس؛ فعليه أن يتعلم "الله أعلم".. " لا أدري"، ولا تخطئه هاتان الكلمتان حتى لا يهلك.
4-لا تبرأ الذمة بسماع الجواب من محطة فضائية أو صحيفة سيارة أو موقع آلي ما لم يكن المجيب معروفاً بالصلاح والعلم.
5-على المستفتَى أن يحيل على من هو أعلم منه ويتواضع له، ولا يستعظم نفسه لسؤال الناس له، ويلزم التقوى، ويحذر من الوقوع في مكائد الشيطان.
6-على كل من زينت له نفسه بأن خاض في دين الناس ودمائهم وأعراضهم أن يرجع إلى الله ويتوب إليه، وأن يعلم أن المفتي مطالب بالتوبة أكثر من غيره، والحذر كل الحذر من الخوض في مثل هذه الأمور؛ فإن الدنيا لا تغني عن الآخرة شيئاً.

وفقنا الله لما فيه خيري الدنيا والآخرة.