المعجم التاريخي للغة العربية بين الدوحة والشارقة
(مقارنات أولية)


من خلال التتبع التاريخي للمحطات الكبرى ذات الصلة بالمشروع، انتهت فكرة المعجم التاريخي للغة العربية إلى مسارين كبيرين هما: مسار الدوحة، ومسار الشارقة.
وقد سجل التاريخ وأكد مكانة النخبة العلمية في التسريع بإنجاز هذا المشروع، فبالانتهاء من المرحلة الأولى لمشروع الدوحة وإطلاق البوابة الإلكترونية خلال شهر دجنبر 2018م، وإصدار المجلدات الثمانية الأولى من مشروع الشارقة في 05 نونبر 2020م، توفرت إمكانية عقد بعض المقارنات الخاصة بأوجه التشابه والاختلاف بين المسارين من عدة زوايا، يتطرق لها المهتمون كل حسب تخصصه سواء انطلاقا من المعلومات التاريخية للموضوع، أو القضايا العلمية الدقيقة المتنوعة.
ولعل أي متتبع قد يفسر التنافس العلمي بين الدوحة والشارقة في هذا المجال ويربط ذلك بأسباب سياسية أو إستراتيجية رغم أن جذور الفكرة عربيا تبتديء منذ تأسيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة على عهد الملك فؤاد سنة 1932م، ويا ليت كل الأفكار الحضارية يتنافس عنها المتنافسون، فهذا الانجاز بالنهاية خدمة للغة الضاد التي فازت بهذا العمل الذي كانت تفتقر إليه بغض النظر عن أي حدود جغرافية أو مذهبية أو غير ذلك.
وقبل هذين الإنجازين توقفت مشاريع كبرى: أولها مشروع مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1932م منذ إنشائه، فقد كان وضع معجم تاريخي للغة العربية من أهم مشاريعه كما ذكر في مرسوم التأسيس. وثانيها: محاولة المستعرب الألماني أوغست فيشر وضع معجم للغة العربية الفصحى، لكن بوفاته عام 1949م توقف العمل. وثالثها مشروع جمعية المعجمية العربية بتونس سنة 1993م الذي مولته الدولة دون أن يكتمل. فكل هذه الجهود توقفت ولم توفق في إنجاز المعجم المنشود.
وبين هذه المحاولات المتعثرة محطات وأحلاما، ومبادرات في المشرق والمغرب، وبعد مخاض اهتدت النخبة العربية من خلال مشروعي الدوحة والشارقة للتي هي أقوم، وهذا الحدث بدون شك سيعيد ترتيب أوراق كثيرة في أولويات العقل العربي.
فمن الأمور التي يمكن المقارنة بينها ولو مرحليا في هذا الصدد: طاقم الإعداد، ومدة الإنجاز ومراحله، وصعوباته، ويبقى التقويم مفتوحا في انتظار إصدار النسخة الكاملة للمشروع سواء بالنسبة للدوحة أو الشارقة، لتكتمل الصورة النهائية وتكون المقارنة شاملة لجميع القضايا.
فبخصوص طاقم الإعداد، شارك في معجم الدوحة قرابة 300 باحث من أساتذة الجامعات المختصين في الدراسات اللغوية واللسانية العربية ينتمون إلى عدد من الدول العربية، من الأردن والإمارات وتونس والجزائر والسعودية وسورية والعراق وفلسطين وقطر والكويت ولبنان وليبيا ومصر والمغرب وموريتانيا واليمن. واحتضنه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة وبرعاية من الشيخ تميم أمير دولة قطر. ونفس العدد شارك في معجم الشارقة الذي يشرف عليه اتحاد المجامع اللغوية والعلمية العربية بمصر بمشاركة 10 مجامع عربية وبرعاية تقنية من قبل الجزائر التي شاركت 30 باحثا جزائريا مختصا، ورعاية علمية من مجمع مصر التي تحتضن مقر إتحاد المجامع، ورعاية مالية من السلطان القاسمي حاكم إمارة الشارقة )مجمع اللغة العربية بالشارقة( والتي تتولى إدارة لجنته التنفيذية.
وبخصوص الحقبة الزمنية فالمعجم يعرض تطور وتحول معاني المفردات ودلالات استخدامها قدر بعشرين 20 قرنا بالنسبة لمعجم الدوحة ابتداء من 430 سنة قبل الهجرة، قسمت إلى خمس مراحل، تختصر في ثلاث مراحل أساسية كبرى، وهو تقسيم إجرائي لا يخضع لأي تأثير موجود، بل بناءً على ما فرضته المدوّنة اللغوية من مادة علمية، وتستغرق مدة الإنجاز 15 سنة، وهذه المراحل هي:
من أقدم نص موثق وحتى العام 200 هجرية،
ومن العام 201 هجرية إلى 500 هجرية،
ومن 501 وحتى وقتنا الراهن.
أما مشروع الشارقة فقدر الحقبة الزمنية لذلك بسبعة عشر17 قرناً، وسيتم الفراغ النهائي من المعجم في غضون سنة 2026م، والمراحل كالتالي:
بدءاً من عصر ما قبل الإسلام، ثلاثة قرون قبل الإسلام،
والعصر الإسلامي من 1 إلى 132 هجري،
مروراً بالعصر العباسي من 133 إلى 656 هجري،
والدول والإمارات من 657 إلى 1213 هـجري،
وصولاً إلى العصر الحديث من 1214 هجري حتى اليوم.
وبخصوص الصعوبات التي واجهها مشروع المعجم التاريخي للغة العربية، فهناك عقبات حالت دون الإسراع في الإنجاز تمثلت في:
أولا: ضخامة التراث العربي لغة وأدبا وعلوما، فالمعجم يؤرخ لأكثر من سبعة عشر قرنا من الزمان لمشروع الشارقة، وعشرون قرنا بالنسبة لمشروع الدوحة، حسب ما توفر من آثار لكل جهة.
وثانيا: التمويل، وذلك لأن التكلفة المادية يعجز الأفراد والمؤسسات العادية القيام بها، فتكفل الشيخ تميم أمير قطر بمعجم الدوحة، وتكفل السلطان القاسمي حاكم الشارقة بمعجم الشارقة وهذه خطوة تستحق كل التنويه.
وثالثا: صعوبة تجديد طريقة اشتغال المجامع اللغوية، فرغم جهودها المختلفة واهتمامها المبكر الذي تشكر عليه، ظلت حبيسة أفكار موسمية تطفو على السطح كأمواج البحر ثم تختفي وأحيانا بسرعة البرق، كما أن المجامع وإلى عهد قريب ظلت تعمل بأساليب تقليدية وصلت إلى حد يشبه التمثيل الديبلوماسي لإرضاء الأطراف الرسمية، وعدم إشراك الكفاءات "المستقلة" التي لها خبرة وباع وجهود في الموضوع، ومع مرور الوقت كادت فكرة المعجم التاريخي تتبخر.

و ختاما: سواء كان التسابق الاستراتيجي أو السياسي هو الدافع في الإنجاز، أو ضرورة البحث العلمي والحاجة الماسة للتجديد والنهوض، أو الرغبة الشخصية لجهات وهيئات الإشراف والاحتضان، أو غير ذلك من الدوافع، فإن المشروع يستحق كل التقدير والتشجيع والعناية والاهتمام، فهو إنجاز يجمع الطرفان على أنه حدث تاريخي بامتياز لرد الاعتبار للغة العربية، فما بالك لو اجتمع المساران منذ البداية في خط واحد، فالأمة هي الرابح الأكبر، فكم من الوقت سنربح، وكم من الأموال ستوفر، وكم من العقبات ستذلل.