الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، وأشهد أن حبيبنا ونبينا وصفينا محمدًا المصطفى وعلى آله وصحبه الأطهار؛ جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: « وما أعددت لها؟ » قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله، فقال: « أنت مع من أحببت »، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: « أنت مع من أحببت »، قال أنس رضي الله عنه: فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بُحبِّي إياهم وإن لم أعمل بعملهم».
ونحن نشهد الله أننا نحب رسول الله وأبا بكر، وعمر، وعثمان وعليَّا، وجميع أصحاب الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، وكل التابعين لنهجه وضربه المنير، ونتضرع إلى الله بفضله لا بأعمالنا أن يحشرنا معهم جميعًا بمنِّه وكرمه، وهو أرحم الراحمين.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاء واتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [سورة النساء: 1].
أيها المؤمنون، كما اختار الله نبيَّه للنبوة والرسالة، اختار له من الأمم أفضلها، ومن الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين، أبر هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقومها عملًا، وأقلها تكلُّفًا، وأحسنها حالًا، جاهدوا في الله حقَّ جهاده في حياة نبيهم، وبعد وفاته، فنصر الله بهم الدين، ونصرهم به، وأظهرهم على كل الأديان والملل عربهم وعجمهم، أثنى عليهم ربهم، وأحسن الثناء عليهم ورفَع ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن، ووعدهم عظيم الأجر وجميل الغفران.
كان منهم الخلفاء الراشدون، والأمراء الحازمون، والعلماء الربانيُّون، والقادة الفاتحون، والعبَّاد الزاهدون، يشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم، لَما قاموا به من نشر الدين، وتعليمه وتبليغه في الأمصار القاصية والدانية.
ما زلنا وإياكم مع سلسلة الصحابة الكرام، سلسلة مباركة تهدف إلى غرس حب الصحابة الكرام في القلوب، وتهدف إلى التعريف بأخلاقهم وصفاتهم والتشبه بهم.
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلَهم *** إنَّ التشبهَ بالكرامِ فلاحُ
واليوم نحن مع أحد أولئك الفحول النوادر، الذين دخلوا التاريخ كما دخله الأكابر، فأناروا العقول وفتحوا البصائر، وهذبوا النفوس وأيقظوا الضمائر، وكيف لا يكون منهم وهو وارث العلم النبوي الشريف الذي ضرب فيه بسهمٍ وافر حتى غدا ترجمان السنة وحافظها بلا منازع.
صحابي جليل هو راوية الإسلام الملهم، وحافظ الأمة، إنه أبو هريرة رضي الله عنه ذلك الاسم الذي اقترن اسمه باسم رسول ربِّ العالمين، لِما له من كثرة الرواية وعلو الكعب في الحفظ والإتقان على الصحابة أجمعين:
(أبو هريرة) لم يخل ديوان من دواوين الإسلام إلا واسمه فيه منقوش مرسوم، (أبو هريرة) رضي الله عنه لم يمض مجلس من مجالس الذكر والعلم إلا وكان لذكره نصيب معلوم، فدعوات المؤمنين له في كل عصر متوالية بالرضا والثناء والرحمات الغالية، (أبو هريرة) رضي الله عنه لم يسمع به أحد إلا أحبَّه قبل أن يراه.
اللهم إنا نسألك حُبك وحبَّ مَن يُحبك، وحُبَّ كلِّ عملٍ يقرِّبنا إلى حُبك.
(أبو هريرة) رضي الله عنه لم يَسلم من ألْسنة المنافقين وأعداء الإسلام الذين حاولوا تشويه صورته، والتشكيك في ما روى عن النبي من أحاديث، وكذبوا وأُلجموا، فقد انبرى وقام للدفاع عن أبي هريرة كل مؤمن موحد وكل مُحب صادق، فوالله ما أبغض صحابة النبي إلا كل منافق مرتاب، وما أحبهم إلا كل مؤمن خلص قلبه وطاب.
وهل يضُرُّ البحرَ أمسى زاخرًا *** أن رمى فيه غلامٌ بحجر
كان في الجاهلية يسمى بعبد شمس كما ترجم له البخاري في تأريخه، ولما جاء الإسلام غيَّر اسمه؛ لأنَّه لا يجوز تسمية إنسان بأنه عبد فلان أو عبد شيءٍ من الأشياء، وإنَّما هو عبد الله فقط، فسمِّي بعبد الرحمن، وقيل: عبد الله، والمشهور الأول، ورجَّح ابن حجر احتمال صحة الاسمين.
وأبو هريرة من قبيلة دوس إحدى بطون الأزد، وهي قبيلة يمانية قحطانية مشهورة، فهو عبد الرحمن أو عبد الله بن صخر الدوسي اليماني، معروف النسب، شريف المعدن والأصل.
لكنه لم يشتهر باسمه، وإنَّما اشتَهر بكُنيته، فكان يُدعى بأبي هريرة، وكان ذلك في الجاهلية قبل أن يُسلم.
وسبب تكنِّيه بهذه الكُنية سببٌ لطيف ظريف، فقد أخرج الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إنَّما كنَّوني بأبي هريرة؛ لأني كنت أرعى غنمًا لأهلي فوجدتُ أولاد هرة وحشيَّة، فجعلتها في كمي، فلما رجعت إليهم سمعوا أصوات الهر في حجري، فقالوا: ما هذا يا عبد شمس؟ فأنت أبو هريرة، فلزمتني بعدُ.
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: كان رسول الله يدعوني: أبا هر، ويدعوني الناس أبا هريرة.
وكان رضي الله عنه يفضِّل كنية النبي صلى الله عليه وسلم له، يقول: لأن تكنوني بالذكر أحبُّ إليَّ من أن تكنوني بالأنثى.
وقد نشأ رضي الله عنه يتيمًا وهاجر مسكينًا كما يقول عن نفسه، وتأخر قدومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم سنة سبع في غزوة خيبر، لم يشهد بدرًا ولا أحدًا ولا غزوة الأحزاب، ومات النبي في السنة الحادية عشرة للهجرة، فكانت مدة صحبته للنبي ثلاث سنين، لكنها سنوات مباركات، صحب فيها النبي ليلًا ونهارًا ولازمه، وتلقَّى الحديث منه.
وقد نال أبو هريرة رضي الله عنه شرف دعوة النبي بالهداية لقومه، فقال لما قالوا له: يا رسول الله، إن دوسًا عصت وأبت فادع الله عليها، فقال: «اللهم اهد دوسًا، وائت بهم».
وأبو هريرة رضي الله عنه يماني كما أسلفنا يلحقه شرف اليمن وشرف أهلها، فقد أخرج البخاري بسنده إلى عقبة بن عمرو أنه قال: أشار رسول الله بيده نحو اليمن، فقال: «الإيمان يمانٍ ها هنا»، وفيه أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي يقول: «الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية»؛ [رواه البخاري في صحيحه].
وقد نال أبو هريرة رضي الله عنه شرف دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له وتوثيقه، فقد أخرج البخاري في "التاريخ الكبير" بسند رجاله ثقات أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: « دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة »، وهذه الدعوة أخرجها مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله: « اللهم حبب عُبيدك هذا - يعني أبا هريرة - وأمَّه إلى عبادك المؤمنين، وحبِّب إليهم المؤمنين »، فما خُلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.
وهكذا كان من علامات المؤمنين إذًا حُب أبي هريرة رضي الله عنه ببركة دعائه له، وشهادة القرآن له؛ إذ هو معدود من جملة الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجه الله، وقد أمر النبي بالجلوس إليهم والصبر معهم؛ كما قال تعالى: ﴿ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ﴾ [سورة الكهف: 28].
وهؤلاء هم أهل الصُّفة، والصُّفة: موضع مظلل في شمال المسجد النبوي يأوي إليه أصحاب رسول الله ممن لا منزل له وأكثرهم من المهاجرين الفقراء، وكان النبي يطعمهم ويتفقد أحوالهم، وفضلهم مشهور لا ينكر، وأبو هريرة منهم قد حاز شرف فقرهم وفضلهم وأجرهم، وهكذا نرى أن الفضل قد تتابع لأبي هريرة لصحبته، ولهجرته، ولدوسيته، ويمانيته، ونيله دعوة الرسول وتوثيقه له، وشهادة القرآن له.
أبو هريرة رضي الله عنه لم يكن يندفع للعلم وكثرة الرواية، ويتأخر عن العمل به كأهل الغواية، بل ضم إليه الخشية وكثرة التعبُّد، والزهد واليقين؛ إذ العلم يهتف بالعمل، فإن استجاب وإلا ارتحل.
أخرج البخاري وأحمد عن أبي عثمان النهديرضي الله عنه قال: تضيَّفت أبا هريرة سبعًا، فكان هو وامرأته وخادمه يتعقبون الليل أثلاثًا، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا.
ويقول هو عن مسلكه في كل ليل: «إني لأجزئ الليل ثلاثة أجزاء، فثلث أنام، وثلث أقوم، وثلث أتذكر أحاديث رسول الله».
وكان رضي الله عنه يصوم الاثنين والخميس تطوعًا، وكان هو وابن عمر يخرجان إلى السوق أيام العشر الأولى من ذي الحجة يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وسأله يومًا أحد الناس: كم تسبِّح الله في اليوم؟ فقال: اثنا عشر ألف تسبيحة، لماذا فقال: «لأن دية المسلم ( 12) ألف دينار وأنا أريد أن أشتري نفسي من الله باثنا عشر ألف تسبيحة».
أخي الحبيب: كم نصيبك من التسبيح فقد قال: «من قال سبحان الله وبحمده 100 مرة، غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر»، لكنها الذنوب الصغائر وليس الكبائر، فالكبائر لا تُكفَّر إلا بالتوبة النصوح.
وربما دخل رضي الله عنه إلى السوق على حين غفلة، فيرى الناس يغدون ويروحون وقد ألهتهم التجارة وتشاغلوا بالدنيا، فيوخز ضمائرهم بموعظة لطيفة وذكرى خفيفة، علَّهم يتذكرون فلا ينسون، كما يروي الطبراني في الأوسط بسندٍ حسن أن أبا هريرة رضي الله عنه مر بسوق المدينة فوقف عليها، فقال: يا أهل السوق، ما أعجزكم؟ قالوا: وماذا يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله يُقسم وأنتم ها هنا؟ ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعًا ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا فقال لهم: ما لكم؟ قالوا: يا أبا هريرة، فقد أتينا المسجد فدخلنا، فلم نر فيه شيئًا يُقسم، فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى، رأينا قومًا يصلون وقومًا يقرؤون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويْحَكم، فذاك ميراث محمد؛ [الهيثمي: مجمع الزوائد 1 /123-124].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات، والذكر الحكيم، أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأبو هريرة رضي الله عنهصحب النبي ثلاث سنين، الله أكبر، روى لنا (3574) حديثًا مع أنه آخر الناس إسلامًا وقدومًا إلى المدينة، روى عنه(800) صحابي وتابعي.
قال الشافعي رحمه الله: « أحفظ من روى عن رسول الله أبو هريرة رضي الله عنه »، والمنافقون وأعداء الإسلام أرادوا من هنا التكذيب بالسنة، ولكن نقول لهؤلاء أن الأمر فيه معجزة، فقد ذهب إلى النبي فقال: «يا رسول الله، إني أسمعك وأنسى، فادعُ الله لي»، فنزع نمرة - قطعة من الثياب - كانت على ظهري، فبسطها بيني وبينه حتى كأني أنظر إلى النمل يدب عليها، فحدَّثني حتى إذا استوعبت حديثه، قال اجمعها فصرها إليك، فأصبحت لا أُسقط حرفًا مما حدثني.
عباد الله، إذًا المشكك في أبي هريرة رضي الله عنه هو يشكك في معجزة النبي، ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه: «إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله، وتقولون: ما للمهاجرين والأنصار لايحدثون مثله، وإن إخواني المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرأً مسكينًا من مساكين الصفة، ألزم رسول الله على ملء بطني، فأحضر حين يغيبون وأعي حين ينسون».
ومما رُوي أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها دعت أبا هريرة، فقالت له: يا أبا هريرة ما هذه الأحاديث التي تبلغنا أنك تحدث بها عن النبي، هل سمعت إلا ما سمعنا، وهل رأيت إلا ما رأينا؟ قال: يا أماه، إنه كان يشغلك عن رسول الله المرآة والمكحلة والتصنع لرسول الله، وإني والله ما كان يشغلني عنه شيء؛ [الحاكم: المستدرك 3 /509، وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي عليه].
وكان أبو هريرة رضي الله عنهواحدًا من علماء الصحابة رضي الله عنهم الذين تحملوا أمانة الدعوة وتبليغ العلم الذي تلقوه عن رسول الله، بل كان من أكثرهم نشاطًا في هذا المجال، وذلك لسعة علمه عن رسول الله، ولحاجة الناس في وقته إلى علمه وتعليمه لهم، ولخوفه من تبعات كتمان العلم، فقد رُوي عنه أنه قال: «وايم الله، لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدًا»، ثم تلا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ والْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ ويَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ ﴾ [سورة البقرة: 159]، [أحمد: المسند 14 /122-123].
وروي عنه أيضًا أنه قال: قال رسول الله: «من سُئل عن علمٍ فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة»؛ [أحمد: المسند 4 /5، وأبو داود 3 /321].
ورُوي عن الحسن رضي الله عنهأنه قال: قال رسول الله: «ما من رجل يأخذ مما قضى الله ورسوله كلمة أو اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، فيجعلهن في طرف ردائه، فيعمل بهن ويعلمهن»، قال أبو هريرة رضي الله عنه: أنا وبسط ثوبه، وجعل رسول الله يحدث حتى انقضى حديثه، فضم ثوبه إلى صدره».
كان أبو هريرة رضي الله عنه يسأل النبي أسئلة مباركة تنفع الأمة، والأسئلة كما قيل مفاتيح العلم.
سأله يومًا يا رسول الله أراك تسكت بعد أن تقول الله أكبر قبل القراءة ماذا تقول، فقال: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد»، فما من مسلم يدعو بهذا الدعاء إلا لأبي هريرة نصيب من الأجر.
وسأله مرة أخرى سؤالًا آخر، فعنأبي هريرة رضي الله عنه قلت: يا رسول الله،من أسعد الناس بشفاعتك قال: « لقد ظننت يا أبا هريرة لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصًا من نفسه»؛ [أحمد: المسند 17 /35-36، والبخاري بفتح الباري 1 /193، واللفظ لأحمد].
ومن أخلاق أبي هريرة رضي الله عنه العالية التي بوَّأته المكانة السامية، كثرة برِّه بأمه وملازمته إياها، ومن صور بره بأمه أنه تمنى إسلامها وحرص عليه حتى أسلمت وكان سببًا في إسلامها؛ أخرج مسلم عنه أنه قال: «كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله ما أكره، فأتيت رسول الله وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله: «اللهم اهد أم أبي هريرة»، فخرجت مستبشرًا بدعوة نبي الله، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبستْ درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله أبشر، قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيرًا.
وكان من بره بها أيضًا ما روي عنه أنه قال: خرجت يومًا من بيتي إلى المسجد، فوجدت نفرًا، فقالوا: ما أخرجك؟ قلت: الجوع، فقالوا: ونحن والله ما أخرجنا إلا الجوع، فقمنا، فدخلنا على رسول الله، فقال: «ما جاء بكم بهذه الساعة؟»، فأخبرناه فدعا بطبق فيه تمر، فأعطى كل رجل منا تمرتين، فقال: «كلوا هاتين التمرتين، واشربوا عليهما من الماء، فإنهما ستجزيانكم يومكم هذا»، فأكلت تمرة، وخبأت الأخرى، فقال: «يا أبا هريرة لم رفعتها؟»، قلت: لأمي، قال: «كُلْها فسنعطيك لها تمرتين»؛ [ابن سعد: الطبقات 4 /329، والذهبي: سير أعلام النبلاء 2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «والله إن كنت لأعتمد على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت على طريقهم، فمر بي أبو بكر فسألته عن آية في كتاب الله ما أسأله إلا ليستتبعني،فمر ولم يفعل، فمر عمر فكذلك حتى مر بي رسول الله، فعرف ما في وجهي من الجوع، فقال:أبو هريرة، قلت: لبيك يا رسول الله،فدخلت معه البيت فوجد لبنًا في قدح، فقال: من أين لكم هذا؟ قيل: أرسل به إليك فلان، فقال: يا أبا هريرة، انطلق إلى أهل الصفة فادعهم، وكان أهل الصفة أضياف الإسلام لا أهل ولا مال،إذا أتت رسولَ الله صدقة أرسل بها إليهم، ولم يصب منها شيئًا، وإذا جاءته هدية أصاب منها، وأشركهم فيها، فساءني إرساله إياي، فقلت: كنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، وما هذا اللبن في أهل الصفة، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بُد،فأتيتهم فأقبلوا مجيبين،فلما جلسوا،قال: خذ يا أبا هريرة فأعطهم، فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى، حتى أتيت على جميعهم وناولته رسول الله،فرفع رأسه إليَّ متبسمًا، وقال: بقيت أنا وأنت،قلت: صدقت يا رسول الله، قال: فاشرب فشربت، فقال: اشرب فشربت، فما زال يقول: اشرب فأشرب حتى قلت: والذي بعثك بالحق ما أجد له مساغًا، فأخذ فشرب من الفضلة.
وكان رضي الله عنه إلى جانب هذا حريصًا على تربية أولاده، فقد ربى ابنه المحرر تربية علمية جعلت كبار الرواة يحتاجون إليه ويروون عنه ما فاتهم من حديث أبيه كالشعبي والزهري، وكان يحمل ابنته على الزهد فيقول لها: «لا تلبسي الذهب، إني أخشى عليك اللهب، ولا تلبسي الحرير إني أخشى عليك الحريق».
وتأتي الساعة التي لا بد لكل حي منها، إنها ساعة الموت والفراق، فها هو أبو هريرة رضي الله عنهفي ساعة مرض الموت يبكي، فقيل ما يبكيك؟ قال: "ما أبكي على دنياكم هذه ولكن على بُعد سفري وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود ومهبطة على جنة أو نار، فلا أدري أيهما يؤخذ بي، ثم قال اللهم: «إني أحب لقاءك فأحب لقائي»، ومات سنة تسع وخمسين وله ثمان وسبعون سنة.
فرحمة الله على أبي هريرة معلمًا وهاديًا، ومجاهدًا وداعيًا، وآمرًا وناهيًا، ورائحًا وغاديًا.
فاللهم هذا حبنا لأبي هريرة قد أظهرناه، وعلى ألسنتنا ترجمناه، فاجعل قلوبنا من بغضه سليمة، ومن كل إثم وسوء عديمة، إنك الموفق لكل ربحٍ وغنيمة، والمنجي من كل عاقبة وخيمة، هذا وصلوا وسلِّموا على مَن أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال: ﴿ إن اللَّهَ ومَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/143286/#ixzz6ejqgf9ox