الحمد لله الذي يُجازي بالكثير على القليل، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:
"فإن صاحب الهمة العالية والنفس الشريفة التَّوَّاقَةِ لا يرضى بالأشياء الدَّنِيَّةِ الفانية، وإنما همته المسابقة إلى الدرجات الباقية الزاكية، التي لا تفنى، ولا يرجع عن مطلوبه، ولو تَلَفَتْ نفسه في طلبه، ومن كان في الله تَلَفُهُ، كان على الله خَلَفُهُ.
فأما خسيس الهمة، فاجتهاده في متابعة هواه، ويتَّكِلُ على مجرد العفو، فيفوته - إن حصل له العفو - منازل السابقين المقربين، قال بعض السلف: هَبْ أن المسيءَ عُفيَ عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين؟"[1].
والجنة محلُّ خواصِّ الله وأوليائه، فيها فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال، وقد خصَّص علماء الحديث أبوابًا في كُتُبهم لوصف الجنة ونعيمها، كما خصها العلماء بالتأليف منذ زمن بعيد كابن أبي الدنيا (ت: 281هـ)، وأبي نعيم الأصبهاني (ت: 430هـ)، وضياء الدين المقدسي (ت: 643هـ)، وابن قيم الجوزية (ت: 751هـ) في كتابه "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح".
وها أنا أذكر في هذا المقام - بعون الله وتوفيقه - بعضَ ما جاء في غُرَفِ الجنة والطرق الموصلة إليها، جعلنا الله من أهلها.
أولًا: وصف غرف الجنة:
كلمة (غرفة) مفرد، جمعها غُرُفات وغُرَفات وغُرَفٌ.
وغرف الجنة: منازل عالية ودرجة رفيعة، وهي - من حسنها وبهائها وصفائها - يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، فهي شفَّافة لا يحتجب مَن فيها، ولا يخفى عنها من خارجها، كما أنها عالية، ومن علوِّها وارتفاعها، أنها تُرى كما يُرى الكوكب الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار.
وقد ورد ذكر الغرف في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا ﴾ [الفرقان: 75]، وقوله: ﴿ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ [سبأ: 37]، وقوله سبحانه: ﴿ لَنُبَوِّئَنَّه ُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا ﴾ [العنكبوت: 58]، وقوله تعالى: ﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [الزمر: 20]؛ قال ابن القيم (ت: 751هـ) تعليقًا على هذه الآية الكريمة: "أخبر تعالى أنها غرف فوق غرف، وأنها مبنية بناء حقيقة؛ لئلا تتوهَّمَ النفوس أن ذلك تمثيلٌ، وأنه ليس هناك بناء، بل تتصور النفوس غرفًا مبنية كالعلالي، بعضها فوق بعض، حتى كأنها يُنظر إليها عيانًا، ومبنية صفة للغرف الأولى والثانية؛ أي: لهم منازل مرتفعة، وفوقها منازل أرفع منها"[2].
ثانيًا: الطريق الموصلة إلى غرَف الجنة:
الأسباب الموصلة إلى غرف الجنة كثيرة، أكتفي بما ورد في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة غُرَفًا تُرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقام أعرابي، فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى بالليل والناس نيام))[3].
وقد أشار الإمام المناوي إلى أن العطف بالواو في هذا الحديث يقتضي اشتراط اجتماع الأمور المذكورة[4].
أولًا: إطعام الطعام:
اهتم أصحاب الكتب الصحاح والمسانيد بهذه المسألة، ووضعوا لها بابًا في كتبهم؛ حيث بوَّب الإمام البخاري: "باب: إطعام الطعام من الإسلام"، وذكر تحته حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: ((أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسلام خير؟ أي: أعمال الإسلام أكثر نفعا؟ - قال: تُطعِم الطعام، وتقرأ السلام على مَن عرفتَ، ومن لم تعرف))[5].
وقد جعله الله في كتابه من الأسباب الموجبة للجنة ونعيمها؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 8، 9].
قال ابن عباس ومجاهد في تفسير ﴿ عَلَى حُبِّهِ ﴾: "أي: على قِلَّتِهِ وحبهم إياه وشهوتهم له، وقيل: على حبِّ الله، وقيل: على حب إطعام الطعام، وكان الربيع بن خثيم إذا جاءه السائل، قال: أطعموه سكرًا؛ فإن الربيع يحب السكر"[6].
ورُويَ عن الحسن البصري أن يتيمًا كان يحضر طعام ابن عمر، فدعا ذات يوم بطعامه، وطلب اليتيم فلم يجده، وجاءه بعدما فرغ ابن عمر من طعامه، فلم يجد الطعام، فدعا له بسويق وعسل، فقال: دونك هذا، فوالله ما غُبنت"[7]؛ يعني: لم تَفُتْكَ فرصة الأكل معي، فلك عندي ما هو خير منه.
والسويق: طعام يصنع من دقيق الحنطة أو الشعير، سُمِّيَ بذلك لانسياقه في الحلق.
ويتأكد إطعام الطعام للجائع والمضطر وللجيران خصوصًا، وأفضل أنواعه: الإيثار مع الحاجة؛ كما وصف الله تعالى بذلك الأنصار رضي الله عنهم، فقال: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9]، وكان بعض السلف لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، ومنهم من كان لا يأكل إلا مع ضيف له، ومنهم من كان يعمل الأطعمة الفاخرة، ثم يطعمها إخوانه الفقراء، واشتهى أحدهم حَلْوَاء، فلما صُنعت له، دعا بالفقراء فأكلوا، فقال له أهله: أتعبتنا ولم تأكل، فقال: ومَن أكله غيري؟ وقال آخر منهم وقد جرى له نحو من ذلك: إذا أكلته كان في الحَشِّ (بيت الخلاء)، وإذا أطعمته كان عند الله مذخورًا.
"وقد جمع فيه بعض العلماء المحدثين أربعين حديثًا في شأن فضله، وفيه مع الأجر: شرف الذكر في الدنيا، ومحبة العباد له؛ فإن القلوب جُبِلت على حب مَن أحسن إليها وعلى الثناء عليه؛ ولذلك صار ذكر حاتم الطائي في كل مكان، وضربت بجُوده الأمثال كل لسان، فمُطعِمُ الطعام فائز بالأجر في الدنيا والآخرة، مع تعويض له فيما ينفقه، ومغفرة الله له"[8].
وقد يظن ظانٌّ أن هناك تعارضًا بين ما ورد في فضل إطعام الطعام، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تُصاحِب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي))[9].
قال الإمام الخطابي (ت: 388هـ): "هذا إنما جاء في طعام الدعوة دون طعام الحاجة، وذلك أن الله سبحانه قال: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [الإنسان: 8]، ومعلوم أن أسْرَاهم كانوا كفارًا غير مؤمنين ولا أتقياء.
وإنما حذَّر من صحبة من ليس بتقي، وزجر عن مخالطته ومؤاكلته؛ فإن المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب، يقول: لا تؤالِفْ مَن ليس من أهل التقوى والورع، ولا تتخذه جليسًا تُطاعمه وتُنادمه"[10].
وقيل: هذا حثٌّ على الأَولَى والأرجح، وإن جاز خلافه، فليس المراد من هذا الحديث حرمان غير التقي من الإحسان، فإطعام الطعام لكل أحدٍ من بَرٍّ وفاجر، وصديق وعدو – مطلوبٌ؛ لأنه بِرٌّ للنفس يطفئ حرارة الحقد والحسد، وينفي مكامن الغِلِّ، والنبي أطعم المشركين وأعطى المؤلفة قلوبهم.
ثانيًا: الكلام الطيب:
المقصود بأطاب الكلام؛ أي: تكلم بكلام طيب، ويدخل فيه: مخاطبة الناس باللين، وملاطفتهم، وطلاقة الوجه معهم، وتجنب الغلظة والفظاظة، ونحو ذلك.
وفي رواية: ((إفشاء السلام)، وهو داخل في لين الكلام، وقد وردت نصوص كثيرة في فضل طيب الكلام؛ منها: قوله تعالى: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [المؤمنون: 96]، وقوله: ﴿ وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ﴾ [الرعد: 22]، وقوله: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الإسراء: 53]، وقوله: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، وقوله سبحانه: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83].
قال الإمام القرطبي (ت: 671هـ): "وهذا كله حضٌّ على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليِّنًا، ووجهه منبسطًا طَلْقًا مع البر والفاجر، والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يُرضِي مذهبه؛ لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]، فالقائل ليس بأفضلَ من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبثَ من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه، والقول اللين هو القول الذي لا خشونة فيه، فإذا كان موسى أُمر بأن يقول لفرعونَ قولًا لينًا، فمَن دونه أحْرى بأن يقتديَ بذلك في خطابه وكلامه، والنصوص المذكورة دخل فيها اليهود والنصارى، فكيف بالمسلم؟[11].
وربما كان معاملة الناس بالقول الحسن أحب إليهم من الإحسان بإعطاء المال؛ كما قال لقمان لابنه: "يا بني، لتكن كلمتك طيبة، ووجهك منبسطًا، تكن أحبَّ إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة"، ورُويَ عن ابن عمر أنه كان ينشد:
بُنيَّ إن البرَّ شيء هيِّنٌ *** وجهٌ طليق وكلام لين
ثالثًا: الصلاة بالليل والناس نيام:
أي: التهجد في جوف الليل حال غفلة الناس واستغراقهم في لذة النوم، وذلك هو وقت الصفاء وتنزُّلِ الرَّحمات.
وقد مدح الله تعالى المتهجدين بالليل؛ فقال تعالى: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 16، 17]، وقال تعالى: ﴿ وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 17]، وقال سبحانه: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَار ِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17، 18]، وقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾ [الفرقان: 64]، وقال جل شأنه: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 9]، وقال تعالى: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ﴾ [الإنسان: 26]، وقالت عائشة رضي الله عنها لرجل: ((لا تَدَعْ قيام الليل؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يَدَعُهُ، وكان إذا مرِض أو كسل، صلى قاعدًا))[12].
وفي قيام الليل من الفوائد أنه: يحط الذنوب كما يحط الريح العاصف الورقَ الجافَّ من الشجرة، وينوِّر القبر، ويُحسِّن الوجه، ويُذهِب الكسل، ويُنشِّط البدن، وترى الملائكة موضعه من السماء، كما يتراءى الكوكب الدُّرِيُّ لنا من السماء[13].
وإنما فُضِّلت صلاة الليل على صلاة النهار؛ لأنها:
• أبلغ في الإسرار وأقرب إلى الإخلاص.
• ولأن صلاة الليل أشقُّ على النفوس؛ فإن الليل محل النوم والراحة من التعب بالنهار، فترك النوم مع مَيْلِ النفس إليه مجاهدة عظيمة؛ قال بعضهم: أفضل الأعمال ما أُكرهت عليه النفوس.
• ولأن القراءة في صلاة الليل أقرب إلى التدبر؛ فإنه تنقطع الشواغل بالليل، ويحضر القلب، ويتواطأ هو واللسان على الفهم؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل: 6]؛ إن ساعات الليل هي أشد موافقة للقلب مع القراءة وأصوب قولًا.
• ولأن وقت التهجد هو وقت فتح أبواب السماء، واستجابة الدعاء، واستعراض حوائج السائلين.
نسأل الله بمنِّهِ وكرمه أن يرزقنا الدرجات العُلى من الجنة، والنعيم المقيم الذي لا يحُولُ ولا يزول، اللهم آمين.
--------------------
[1] لطائف المعارف لابن رجب (ص: 244).
[2] حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 142).
[3] أخرجه أحمد (22905)، والترمذي (1984).
[4] التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 325).
[5] أخرجه البخاري (12)، ومسلم (39).
[6] تفسير القرطبي (19/ 128).
[7] تفسير القرطبي (19/ 129).
[8] التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 538).
[9] أخرجه أبو داود (4832)، والترمذي (2395)، وهو حديث حسن.
[10] معالم السنن (4/ 115).
[11] تفسير القرطبي (2/ 16)، (11/ 200).
[12] أبو داود رقم (1307).
[13] فيض القدير (4/ 351).


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/143207/#ixzz6eESiB9K1