قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾[1].
أَعْظَمُ أَنْواعِ الكُفْرِ: كُفْرُ الإِبَاءِ والاسْتِكْبَارِ .
بعضُ النَّاسِ يَعْلَمُ الحَقَّ، حَقَّ العِلْمِ، وَلَا يُسَاورُهُ فِيهِ شكٌّ، وَلَا يخَالِجُهُ فِيهِ امتراءٌ، ثم ينفر منه نُفْرَةَ حُمُرِ الوَحْشِ مِنَ الأُسْدِ، ويُعَادِيهِ عَدَاءَ مَنْ اسْوَدَّ كَبِدُهُ، واحْتَرَقَ قَلبُهُ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ ﴾[2].
هَذَا حَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ﴾[3].
وَحَالُ الْيَهُودِ خَاصَّةً؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾[4].
وهَلْ كانَ يَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ صِدْقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
وَهَلْ كَانَ يَعُوزُهُمُ الدَّلِيلُ لِمَعْرِفَتِهِ؟
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾[5].
وَكَيفَ يَعُوزُهُمُ الدَّلِيلُ لِمَعْرِفَتِهِ؟ وعِنْدَهُم كَثِيرٌ مِنَ البِشَارَاتِ بِهِ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، وتَفْصِيلُ صِفَاتِهِ الخَلْقِيةِ الخُلُقِيةِ، وصِفَاتِ أَصْحَابِهِ، وأرضِ مَبْعَثِهِ، وَمَكَانِ هِجْرَتِهِ.
قَالَتْ أُمُّ المُؤْمِنِينَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَنَزَلَ قُبَاءَ، فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، غَدَا عَلَيْهِ أَبِي، حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَعَمِّي أَبُو يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ، مُغَلِّسَيْنِ. قَالَتْ: فَلَمْ يَرْجِعَا حَتَّى كَانَا مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. قَالَتْ: فَأَتَيَا كَالَّيْنِ كَسْلَانَيْنِ سَاقِطَيْنِ يَمْشِيَانِ الْهُوَيْنَى. قَالَتْ: فَهَشِشْتُ إلَيْهِمَا كَمَا كنت أصنع، فو الله مَا الْتَفَتَ إلَيَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، مَعَ مَا بِهِمَا مِنْ الْغَمِّ. قَالَتْ: وَسَمِعْتُ عَمِّي أَبَا يَاسِرٍ، وَهُوَ يَقُولُ لِأَبِي حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ: أَهُوَ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَاَللَّهِ، قَالَ: أَتَعْرِفُهُ وَتُثْبِتُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا فِي نَفْسِكَ مِنْهُ؟ قَالَ: عَدَاوَتُهُ وَاَللَّهِ مَا بَقِيتُ[6].
فَلِمَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَهُمْ يَشْهَدُونَ، وَلِمَ يَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ؟
إِنَّهُ الحَسَدُ الَّذِي أَكَلَ قُلُوبَهُم، فَأَعْمَى بَصَائِرَهُم عَنْ رُؤيَةِ الحَقِّ، وأَصَمَّ أَسْمَاعَهُم عَنْ سَمَاعِهِ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾.[7]
-------------------
[1] سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَة/ 70 ، 71.
[2] سُورَةُ يُونُسَ: الْآيَة/ 96، 97.
[3] سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَة/ 145.
[4] سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الْآيَة/ 82.
[5] سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَة/ 146.
[6] سيرة ابن هشام (1/ 519).
[7] سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَة/ 109.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/143053/#ixzz6dZ7bJK15