لما رأى المشركون أصحاب الهادي البشير رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرجوا حاملين أولادهم ونساءهم وأموالهم إلى الأوس والخزرج.. ساورهم الهم والحزن والقلق بصورة لم يسبق لها مثيل، فقد بدأ الحظر الداهم يهدد كيانهم الديني والوثني والاقتصادي واضحًا بصورة كبيرة أمامهم... فقد عرفوا شخصية الهادي البشير في قوتها وعظمها وتأثيرها على الناس، وكمال القيادة وعظم الخلق والأمانة والصدق، كما عرفوا من أصحابه استعدادهم العظيم للفداء في سبيله وعزيمتهم الصادقة في التمسك بدينهم الجديد، كذلك عرفوا قوة ومنعة قبائل الأوس والخزرج الذين طرحوا حروبهم بينهم وبين بعضهم البعض والتي استمرت سنوات طويلة، طرحوها عن كاهلهم ونبذوا الأحقاد التي كانت بينهم.
كما عرفوا موقع المدينة الاستراتيجي حيث يتوسط الطريق التجاري من اليمن إلى الشام، وكان أهل مكة يتاجرون إلى الشام بما يوازي ربع مليون دينار ذهب سنويا.. هذا عدا ما كان لأهل الطائف وغيرها، ولا شك أن هذه التجارة تعتمد على تأمين هذا الطريق، واستقرار الأمن فيه[1].
فلما شعر المشركون بتفاقم الخطر الذي يهدد كيانهم أخذوا يبحثون عن أنجع الوسائل لدفع هذا الخطر، والذي أساسه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم. وفي «يوم الزحمة» اجتمعوا بعد شهرين ونصف تقريبا من بيعة العقبة الكبرى في يوم الخميس 26صفر عام 14 من النبوة الموافق 12 من سبتمبر عام 622م وعقدوا برلمانا في دار الندوة – وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها – وهذا البرلمان يعتبر أخطر برلمان في تاريخه، فقد توافد إليه جميع نواب القبائل القرشية، ليتدارسوا خطة حاسمة تكفل القضاء السريع على محمد صلى الله عليه وسلم، والدعوة الإسلامية التي يحمل لواءها[2].
وقد اجتمع صناديد قريش من نواب القبائل كلها، وكان أبرزهم: أبو جهل ابن هشام عن قبيلة بني مخزوم، وجبير بن مطعم، وطعيمة بن عدي، والحارث ابن عامر، عن بني نوفل بن عبد مناف، وشيبة وعتبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب عن بني عبد شمس بن عبد مناف. والنضر بن الحارث «الذي ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلا جزور» عن بني عبد الدار، وأبو البختري بن هشام، وزمعة ابن الأسود، وحكيم بن حزام، عن بني أسد بن عبد العزى، ونبيه ومنّبه ابنا الحجاج، عن بني سهم. وأمية بن خلف، عن بني جمح، وكان معهم وغيرهم ممن لا يُعد من قريش[3].
فلما حضروا دار الندوة اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، فوقف على الباب، فقالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يُعدمكم منه رأيا ونصحا، قالوا: أجل فادخل، فدخل معهم.
وهنا يقول ابن إسحاق في السيرة: فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا. قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربَّصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله، زُهير والنابغة، ومن مضى منهم، من هذا الموت، حتى يُصيبه ما أصابهم، فقال الشيخ النجديّ: لا والله، ما هذا لكم برأي. والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره، فتشاوروا.
ثم قال قائل منهم: نُخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا، فإذا أُخرج عنَّا فوالله ما نُبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، إذا غاب عنَّا وفرغنا منه، فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، ألم تروا حُسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحلّ على حي من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم، فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيا غير هذا.
قال: فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد؛ قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا[4] فنيا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، لم ليعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه. فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا. فرضوا منا بالعقل «أي الدية»، فعقلناه لهم. فقال الشيخ النجدّي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي. الذي لا أرى غيره، فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له[5].
وهنا يقول ابن كثير في البداية والنهاية[6]: وهذه القصة التي ذكرها ابن إسحاق قد رواها الواقدي بأسانيده عن عائشة، وابن عباس، وعلي، وسراقة بن مالك بن جعشم، وغيرهم دخل حديث بعضهم في بعض فذكر نحو ما تقدم.
هذا هو مكرهم الذي أنقذه الله تعالى منه، فلم يتخل عن جيبه وخليله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، بل أوحى إليه بما دبره له أعداؤه في دار الندوة وأمره أن يهاجر من مكة إلى المدينة متما لنوره ولو كره الكافرون. يقول تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ * أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
ويقول تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾ [الطور: 30][8].
وهنا لنا وقفة مع أستاذنا الفاضل أ.د. محمد الطيب النجار رحمه الله عن أسباب الهجرة حيث يذكرها بقوله[9]: ومما تقدم يتبين لنا أن أسباب الهجرة تتلخص فيما يأتي:
1– شدة إيذاء المشركين من قريش للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين. وقد بلغ هذا الأذى نهايته بعد وفاة خديجة رضي الله عنها وعمه أبو طالب، أي في الفترة الأخيرة.
2– بيعتا العقبة الأولى والثانية، حيث تبين للهادي البشير صلى الله عليه وسلم إخلاص الأوس والخزرج له وللإسلام، وعزمهم على الدفاع عنه ونصرته، وأن المدينة أصبحت بعد إسلام الكثيرين من الأوس والخزرج مكانا طيبا لنمو الدعوة الإسلامية وترعرعها.
3– المؤامرة الكبرى التي اتفق المشركون فيها على قتل الهادي البشير رسول الله صلى الله عليه وسلم والتخلص منه، ليخلو لهم الجوّ، ويعود السلطان والمجد لآلهتهم المزعومة ولهم.
---------------
[1] الرحيق المختوم ص158.
[2] السيرة ج2 ص221 مجلد مع الروض الأنف، ج2 ص480 طبعة ابن كثير، الرحيق المختوم ص158، 159.
[3] السيرة ج2 ص480، 481، ج2 ص222، مجلد مع الروض الأنف، الرحيق المختوم ص159.
[4] وسيطا: أي شريفا في قومه.
[5] السيرة ج2 ص481 – 482، طبعة ابن كثير، ج2 ص222 مجلد مع الروض الأنف، انظر أيضا طبقات ابن سعد ج1 ص227.
[6] ج3 ص190.
[7] يثبتوك: أي يقيدوك أو يحبسوك.
[8] السيرة ج2 ص223 مجلد مع الروض الأنف، ج2 ص481، 482 طبعة ابن كثير.
[9] القول المبين ص137.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/143027/#ixzz6dUZc09Vk