تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 25 1234567891011 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 490

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي

    الحلقة (1)

    صــ3 إلى صــ 7



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

    [ ص: 3 ]

    الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَّفَنَا عَلَى الْأُمَمِ بِالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ ، وَدَعَانَا بِتَوْفِيقِهِ عَلَى الْحُكْمِ إِلَى الْأَمْرِ الرَّشِيدِ ، وَقَوَّمَ بِهِ نُفُوسَنَا بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، وَحَفِظَهُ مِنْ تَغْيِيرِ الْجَهُولِ ، وَتَحْرِيفِ الْعَنِيدِ ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ .

    أَحْمَدُهُ عَلَى التَّوْفِيقِ لِلتَّحْمِيدِ ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى التَّحْقِيقِ فِي التَّوْحِيدِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، شَهَادَةً يَبْقَى ذُخْرُهَا عَلَى التَّأْيِيدِ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ إِلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ ، بَشِيرًا لِلْخَلَائِقِ وَنَذِيرًا ، وَسِرَاجًا فِي الْأَكْوَانِ مُنِيرًا ، وَوُهَبَ لَهُ مِنْ فَضْلِهِ خَيْرًا كَثِيرًا ، وَجَعَلَهُ مُقَدَّمًا عَلَى الْكُلِّ كَبِيرًا ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَرْبَابِ جِنْسِهِ نَظِيرًا ، وَنَهَى أَنْ يُدْعَى بِاسْمِهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَتَوْقِيرًا ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كَلَامًا قَرَّرَ صِدْقَ قَوْلِهِ بِالتَّحَدِّي بِمِثْلِهِ تَقْرِيرًا فَقَالَ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الْإِسْرَاءِ: 88 ] فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَأَشْيَاعِهِ ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .

    لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ أَشْرَفَ الْعُلُومِ ، كَانَ الْفَهْمُ لِمَعَانِيهِ أَوْفَى الْفُهُومِ; لِأَنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ بِشَرَفِ الْمَعْلُومُ ، وَإِنِّي نَظَرْتُ فِي جُمْلَةٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ فَوَجَدْتُهَا بَيْنَ كَبِيرٍ قَدْ يَئِسَ الْحَافِظُ مِنْهُ ، وَصَغِيرٍ لَا يُسْتَفَادُ كُلُّ الْمَقْصُودِ مِنْهُ ، وَالْمُتَوَسِّط ِ مِنْهَا قَلِيلُ الْفَوَائِدِ ، عَدِيمُ التَّرْتِيبِ ، وَرُبَّمَا أُهْمِلَ فِيهِ الْمُشْكِلُ ، وَشُرِحَ غَيْرُ الْغَرِيبِ ، فَأَتَيْتُكَ بِهَذَا الْمُخْتَصَرِ الْيَسِيرِ ، مُنْطَوِيًا عَلَى الْعِلْمِ الْغَزِيرِ ، وَوَسَمْتُهُ بِـ: [ ص: 4 ] " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" .

    وَقَدْ بَالَغْتُ فِي اخْتِصَارِ لَفْظِهِ ، فَاجْتَهِدْ وَفَّقَكَ اللَّهُ فِي حِفْظِهِ ، وَاللَّهُ الْمُعِينُ عَلَى تَحْقِيقِهِ ، فَمَا زَالَ جَائِدًا بِتَوْفِيقِهِ .

    فَصْلٌ فِي فَضِيلَةِ عِلْمِ التَّفْسِيرِ

    رَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَتَعَلَّمُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَشْرَ ، فَلَا نُجَاوِزُهَا إِلَى الْعَشْرِ الْآَخَرِ حَتَّى نَعْلَمَ مَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ .

    وَرَوَى قَتَادَةُ عَنَ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آَيَةً إِلَّا أُحِبُّ أَنْ أَعْلَمَ فِيمَ أُنْزِلَتْ ، وَمَاذَا عَنَى بِهَا .

    وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: مَثَلُ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ يَعْلَمُ تَفْسِيرَهُ أَوْ لَا يَعْلَمُ ، مَثَلُ قَوْمٍ جَاءَهُمْ كِتَابٌ مَنْ صَاحِبٍ لَهُمْ لَيْلًا ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِصْبَاحٌ ، فَتُدَاخِلُهُمْ لِمَجِيءِ الْكِتَابِ رَوْعَةً لَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ ، فَإِذَا جَاءَهُمُ الْمِصْبَاحُ عَرَفُوا مَا فِيهِ .

    فَصْلٌ

    اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلِ التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ بِمَعْنًى ، أَمْ يَخْتَلِفَانِ؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ يَمِيلُونَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ إِلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِي نَ .

    وَذَهَبَ قَوْمٌ يَمِيلُونَ إِلَى الْفِقْهِ إِلَى اخْتِلَافِهِمَا ، فَقَالُوا: التَّفْسِيرُ: إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ مَقَامِ الْخَفَاءِ إِلَى مَقَامِ التَّجَلِّي .

    وَالتَّأْوِيلُ: نَقْلُ الْكَلَامِ عَنْ وَضْعِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَى دَلِيلٍ [لَوْلَاهُ ] مَا تُرِكَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ ، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ: آَلَ الشَّيْءُ إِلَى كَذَا ، أَيْ: صَارَ إِلَيْهِ .

    [ ص: 5 ] فَصْلٌ فِي مُدَّةِ نُزُولِ الْقُرْآنِ

    رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى بَيْتِ [الْعِزَّةِ ، ثُمَّ ] أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً .

    وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: فَرَقَ اللَّهُ تَنْزِيلَ الْقُرْآَنِ ، فَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عِشْرُونَ سَنَةً .

    وَقَالَ الْحَسَنُ: ذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً ، أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ سِنِينَ .

    فَصْلٌ

    وَاخْتَلَفُوا فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآَنِ ، فَأَثْبَتَ الْمَنْقُولُ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [ الْعَلَقِ: 1 ] .

    رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَأَبَو صَالِحٍ .

    وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [ الْمُدَّثِّرِ: 1 ] وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ رَجَعَ فَتَدَثَّرَ فَنَزَلَ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَ [فِي ] "الصحيحين" مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ ، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: "فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي ، فَإِذَا الْمَلِكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَجَثَثْتُ مِنْهُ رُعْبًا ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي ، زَمِّلُونِي ، فَدَثَّرُونِي ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وَمَعْنَى جَثَثْتُ: فَرَّقْتُ .

    يُقَالُ: رَجُلٌ مَجْؤُوثٌ [وَمَجْثُوثٌ ] وَقَدْ صَحَّفَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَقَالَ: جَبُنْتُ مِنَ الْجُبْنِ ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ .

    وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    فَصْلٌ
    [ ص: 6 ]

    وَاخْتَلَفُوا فِي آخِرِ مَا نَزَلَ ، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ: آَخِرُ آَيَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، آيَةُ الرِّبَا ، وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ عَنْهُ: آَخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ جَمِيعًا إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ النَّصْرُ: 1 ] .

    وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آَخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ: 281 ] وَهَذَا مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي صَالِحٍ .

    وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: آخِرُ آَيَةٍ نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [ النِّسَاءِ: 176 ] وَآَخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ (بَرَاءَةُ) وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ آَخِرَ آَيَةٍ نَزَلَتْ: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [ التَّوْبَةِ: 138 ] إِلَى آَخِرِ السُّورَةِ .

    فَصْلٌ

    لَمَّا رَأَيْتُ جُمْهُورَ كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَكَادُ الْكِتَابُ مِنْهَا يَفِي بِالْمَقْصُودِ كَشَفَهُ حَتَّى يَنْظُرَ لِلْآَيَةِ الْوَاحِدَةِ فِي كُتُبٍ ، فَرُبَّ تَفْسِيرٍ أَخَلَّ فِيهِ بِعِلْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ، أَوْ بِبَعْضِهِ ، فَإِنْ وُجِدَ فِيهِ لَمْ يُوجَدْ أَسْبَابُ النُّزُولِ ، أَوْ أَكْثَرَهَا ، فَإِنْ وُجِدَ لَمْ يُوجَدْ بَيَانُ الْمَكِّيِّ مِنَ الْمَدَنِيِّ ، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ لَمْ تُوجَدِ الْإِشَارَةُ إِلَى حُكْمِ الْآَيَةِ ، فَإِنْ وُجِدَ لَمْ يُوجَدْ جَوَابُ إِشْكَالٍ يَقَعُ فِي الْآَيَةِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُنُونِ الْمَطْلُوبَةِ .

    وَقَدْ أَدْرَجْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ هَذِهِ الْفُنُونِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ مَا لَمْ أَذْكُرْهُ مِمَّا [ ص: 7 ] لَا يَسْتَغْنِي التَّفْسِيرُ عَنْهُ مَا أَرْجُو بِهِ وُقُوعَ الْغَنَاءِ بِهَذَا الْكِتَابِ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُجَانِسُهُ .

    وَقَدْ حَذَّرْتُ مِنْ إِعَادَةِ تَفْسِيرِ كَلِمَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْإِشَارَةِ ، وَلَمْ أُغَادِرْ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي أَحَطْتُ بِهَا إِلَّا مَا تَبْعُدُ صِحَّتُهُ مَعَ الِاخْتِصَارِ الْبَالِغِ ، فَإِذَا رَأَيْتَ فِي فَرْشِ الْآيَاتِ مَا لَمْ يُذْكَرْ تَفْسِيرُهُ ، فَهُوَ لَا يَخْلُو مِنْ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ .

    وَقَدِ انْتَقَى كُتَّابُنَا هَذَا أَنْقَى التَّفَاسِيرِ ، فَأُخِذَ مِنْهَا الْأَصَحُّ وَالْأَحْسَنُ وَالْأَصْوَنُ ، فَنَظَّمَهُ فِي عِبَارَةِ الِاخْتِصَارِ .

    وَهَذَا حِينَ شُرُوعِنَا فِيمَا ابْتَدَأْنَا لَهُ ، وَاللَّهُ الْمُوَفَّقُ .

    فَصْلٌ فِي الِاسْتِعَاذَةِ

    قَدْ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالِاسْتِعَاذَ ةِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [ النَّحْلِ: 98 ] وَمَعْنَاهُ: إِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ .

    وَمَعْنَى أَعُوذُ: أَلْجَأُ وَأَلُوذُ .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي

    الحلقة (2)

    صــ8 إلى صــ 9

    فصل في بسم الله الرحمن الرحيم

    قال ابن عمر: نزلت في كل سورة .

    وقد اختلف العلماء: هل هي آية كاملة ، أم لا؟ وفيه [عن ] أحمد روايتان .

    واختلفوا: هل هي من الفاتحة ، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان أيضا .

    فأما من قال: إنها من الفاتحة ، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إذا قال بوجوب الفاتحة ، وأما من لم يرها من الفاتحة فإنه يقول: قراءتها في الصلاة سنة .

    ما عدا مالكا فإنه لا يستحب قراءتها في الصلاة .

    واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به ، فنقل جماعة عن أحمد: أنه لا يسن الجهر بها ، وهو قول أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وعمار بن ياسر ، [ ص: 8 ] وابن مغفل ، وابن الزبير ، وابن عباس ، وقال به من كبراء التابعين ومن بعدهم: الحسن ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة ، وعمر بن عبد العزيز ، والأعمش ، وسفيان الثوري ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وأبو عبيد في آخرين .

    وذهب الشافعي إلى أن الجهر مسنون ، وهو مروي عن معاوية بن أبي سفيان ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد .

    فأما تفسيرها:

    فقوله "بسم الله" اختصار ، كأنه قال: أبدأ بسم الله أو: بدأت باسم الله .

    وفي الاسم خمس لغات: "إسم" بكسر الألف ، و"أسم" بضم الألف إذا ابتدأت بها ، و"سم" بكسر السين ، و"سم" بضمها ، و"سما" .

    قال الشاعر:


    والله أسماك سما مباركا آثرك الله به إيثاركا


    وأنشدوا:


    باسم الذي في كل سورة سمه


    قال الفراء: بعض قيس [يقولون ] "سمه" ، يريدون: اسمه ، وبعض قضاعة يقولون: سمه .

    أنشدني بعضهم:


    وعامنا أعجبنا مقدمه يدعى أبا السمح وقرضاب سمه


    والقرضاب: القطاع ، يقال: سيف قرضاب .

    واختلف العلماء في اسم الله الذي هو "الله":

    فقال قوم: إنه مشتق ، وقال آخرون: إنه علم ليس بمشتق .

    وفيه عن الخليل [ ص: 9 ] روايتان .

    إحداهما: أنه ليس بمشتق ، ولا يجوز حذف الألف واللام منه كما يجوز من الرحمن .

    والثانية: رواها عنه سيبويه: أنه مشتق .

    وذكر أبو سليمان الخطابي عن بعض العلماء أن أصله في الكلام مشتق من: أله الرجل يأله: إذا فزع إليه من أمر نزل به .

    فأله ، أي: أجاره وأمنه ، فسمي إلها كما يسمى الرجل إماما .

    وقال غيره: أصله ولاه . فأبدلت الواو همزة فقيل: إله كما قالوا: وسادة و إسادة ، ووشاح وإشاح .

    واشتق من الوله ، لأن قلوب العباد توله نحوه . كقوله تعالى: ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون [ النحل: 53 ] .

    وكان القياس أن يقال: مألوه ، كما قيل: معبود ، إلا أنهم خالفوا به البناء ليكون علما ، كما قالوا للمكتوب: كتاب ، وللمحسوب: حساب .

    وقال بعضهم: أصله من: أله الرجل يأله إذا تحير; لأن القلوب تتحير عند التفكر في عظمته .

    وحكي عن بعض اللغويين: أله الرجل يأله إلاهة ، بمعنى: عبد يعبد عبادة .

    وروي عن ابن عباس أنه قال: ويذرك وآلهتك [ الأعراف: 127 ] أي: عبادتك .

    قال: والتأله: التعبد .

    قال رؤبة:


    لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تألهي


    فمعنى الإله: المعبود .

    فأما "الرحمن":

    فذهب الجمهور إلى أنه مشتق من الرحمة ، مبني على المبالغة ، ومعناه: ذو الرحمة التي لا نظير له فيها .

    وبناء فعلان في كلامهم للمبالغة ، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء: ملآن ، وللشديد الشبع: شبعان .

    قال الخطابي: فـ "الرحمن": ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم ، وعمت المؤمن والكافر .

    و"الرحيم": خاص للمؤمنين .

    قال عز وجل: وكان بالمؤمنين رحيما [ الأحزاب: 43 ] .

    والرحيم: بمعنى الراحم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    الحلقة (3)

    صــ10 إلى صــ 13

    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ .
    [ ص: 10 ]

    رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَقَرَأَ عَلَيْهِ أَبِيُّ بْنُ كَعْبٍ أُمَّ الْقُرْآنِ فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا أُنْزِلُ فِي التَّوْرَاةِ ، وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ ، وَلَا فِي الزَّبُورِ ، وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا ، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيَتَهُ" .

    فَمِنْ أَسْمَائِهَا: الْفَاتِحَةُ ، لِأَنَّهُ يُسْتَفْتَحُ الْكِتَابُ بِهَا تِلَاوَةً وَكِتَابَةً .

    وَمِنْ أَسْمَائِهَا: أُمُّ الْقُرْآَنِ ، وَأُمُّ الْكِتَابِ ، لِأَنَّهَا أَمَّتِ الْكِتَابَ بِالتَّقَدُّمِ .

    وَمِنْ أَسْمَائِهَا: السَّبْعُ الْمَثَانِي ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا سَنَشْرَحُهُ فِي (الْحِجْرِ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ .

    وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نُزُولِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةَ ، وَأَبِي مَيْسَرَةَ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيّ ِ . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالْقَوْلَيْنِ .

    فَصْلٌ

    فَأُمًّا تَفْسِيرُهَا:

    فَـ (الْحَمْدُ) رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ ، وَ (لِلَّهِ) الْخَبَرُ .

    وَالْمَعْنَى: الْحَمْدُ ثَابِتٌ لِلَّهِ ، وَمُسْتَقِرٌّ لَهُ ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى كَسْرِ لَامِ (لِلَّهِ) وَضَمَّهَا ابْنُ عَبْلَةَ ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةُ بَعْضِ [ ص: 11 ] بَنِي رَبِيعَةَ ، وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: (الْحَمْدُ) بِنَصْبِ الدَّالِ "لِلَّهِ" بِكَسْرِ اللَّامِ . وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ بِكَسْرِ الدَّالِ وَاللَّامِ جَمِيعًا .

    وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَمْدَ: ثَنَاءٌ عَلَى الْمَحْمُودِ ، وَيُشَارِكُهُ الشُّكْرُ ، إِلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا ، وَهُوَ: أَنَّ الْحَمْدَ قَدْ يَقَعُ ابْتِدَاءً لِلثَّنَاءِ ، وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ ، وَقِيلَ: لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ ، فَتَقْدِيرُهُ: قُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ .

    وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْحَمْدُ: الثَّنَاءُ عَلَى الرَّجُلِ بِمَا فِيهِ مِنْ كَرَمٍ أَوْ حَسَبٍ أَوْ شَجَاعَةٍ ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ .

    وَالشُّكْرُ: الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِمَعْرُوفٍ أَوْلَاكَهُ ، وَقَدْ يُوضَعُ الْحَمْدُ مَوْضِعَ الشُّكْرِ . فَيُقَالُ: حَمِدَتْهُ عَلَى مَعْرُوفِهِ عِنْدِي ، كَمَا يُقَالُ: شَكَرْتُ لَهُ عَلَى شَجَاعَتِهِ .

    فَأَمَّا (الرَّبُّ) فَهُوَ الْمَالِكُ ، وَلَا يُذْكَرُ هَذَا الِاسْمُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ إِلَّا بِالْإِضَافَةِ ، فَيُقَالُ: هَذَا رَبُّ الدَّارِ ، وَرَبُّ الْعَبْدِ .

    وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّرْبِيَةِ .

    قَالَ شَيْخُنَا أَبُو مَنْصُورٍ اللُّغَوِيُّ: يُقَالُ: رَبُّ فُلَانٍ صَنِيعَتُهُ يَرُبُّهَا رَبًّا: إِذَا أَتَمَّهَا وَأَصْلَحَهَا ، فَهُوَ رَبٌّ وَرَابٌ .

    قَالَ الشَّاعِرُ:


    يُرَبِّ الَّذِي يَأْتِي مِنَ الْخَيْرِ إِنَّهُ إِذَا سُئِلَ الْمَعْرُوفَ زَادَ وَتَمَّمَا


    قَالَ: وَالرَّبُّ يُقَالُ: عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ .

    أَحَدُهَا: الْمَالِكُ . يُقَالُ: رَبُّ الدَّارِ .

    وَالثَّانِي: الْمُصْلِحُ ، يُقَالُ: رَبُّ الشَّيْءِ .

    وَالثَّالِثُ: السَّيِّدُ الْمُطَاعُ ، قَالَ تَعَالَى: فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا [ يُوسُفَ: 41 ] .

    وَالْجُمْهُورُ عَلَى خَفْضِ بَاءِ "رَبٍّ" وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِنَصْبِهَا .

    وَقَرَأَ أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ ، وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ بِرَفْعِهَا .

    [ ص: 12 ] فَأَمَّا (الْعَالَمِينَ) فَجَمْعُ عَالَمٍ ، وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: اسْمٌ لِلْخَلْقِ مِنْ مَبْدَئِهِمْ إِلَى مُنْتَهَاهُمْ وَقَدْ سَمَّوْا أَهْلَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ عَالِمًا .

    فَقَالَ الْحَطِيئَةُ:


    تَنَحِّي فَاجْلِسِي مِنِّي بَعِيدًا أَرَاحَ اللَّهُ مِنْكَ الْعَالَمِينَا


    فَأَمَّا أَهْلُ النَّظَرِ ، فَالْعَالَمُ عِنْدَهُمُ: اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْكَوْنِ الْكُلِّيِّ الْمُحْدَثِ مِنْ فَلَكٍ ، وَسَمَاءٍ ، وَأَرْضٍ ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ .

    وَفِي اشْتِقَاقِ الْعَالَمِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْعِلْمِ ، وَهُوَ يُقَوِّي قَوْلَ أَهْلِ اللُّغَةِ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْعَلَامَةِ ، وَهُوَ يُقَوِّي قَوْلَ أَهْلِ النَّظَرِ ، فَكَأَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى خَالِقِهِ .

    وَلِلْمُفَسِّرِ ينَ فِي الْمُرَادِ بِ "العالمين" هَاهُنَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:

    أَحَدُهُمَا: الْخَلْقُ كُلُّهُ ، السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُونَ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ . رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    الثَّانِي: كُلُّ ذِي رُوحٍ دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ . رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ . رُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ ، وَمُقَاتِلٌ .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالْمَلَائِكَة ُ ، نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ .

    وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمُ الْمَلَائِكَةُ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا .
    قوله تعالى: الرحمن الرحيم .

    قرأ أبو العالية ، وابن السميفع ، وعيسى بن عمر بالنصب فيهما ، وقرأ أبو رزين العقيلي ، والربيع بن خيثم ، وأبو عمران الجوني بالرفع فيهما .

    [ ص: 13 ]



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    الحلقة (4)

    صــ13 إلى صــ 15

    قَوْلُهُ تَعَالَى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ .

    قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ ، وَخَلَفٌ ، وَيَعْقُوبُ: "مَالِكِ" بِأَلِفٍ . وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ كَذَلِكَ ، إِلَّا أَنَّهُمَا نَصَبَا الْكَافَ .

    وَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ: "مَلْكِ" بِإِسْكَانِ اللَّامِ مِنْ غَيْرِ الْأَلِفِ مَعَ كَسْرِ الْكَافِ ، وَقَرَأَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ "مَلِكَ" بِكَسْرِ اللَّامِ وَنَصْبِ الْكَافِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ .

    وَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَعَائِشَةُ ، وَمُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ: "مَلِكُ" مِثْلَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ رَفَعُوا الْكَافَ .

    وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ "مَلِيكِ" بِيَاءٍ بَعْدَ اللَّامِ مَكْسُورَةَ الْكَافِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ .

    وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ كَذَلِكَ ، إِلَّا أَنَّهُ ضَمَّ الْكَافَ .

    وَقَرَأَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو حَيْوَةَ " مَلَكَ" عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي ، وَيَوْمَ بِالنَّصْبِ .

    وَرَوَى عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: إِسْكَانَ اللَّامِ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَجُمْهُورِ الْقُرَّاءِ "مَلِكِ" بِفَتْحِ الْمِيمِ مَعَ كَسْرِ اللَّامِ ، وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمَدْحِ ، لِأَنَّ كُلَّ مَلِكٍ مَالِكٍ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَالِكٍ مَلِكًا .

    وَفِي "الدِّينِ" هَاهُنَا قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْحِسَابُ . قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ .

    وَالثَّانِي: الْجَزَاءُ . قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَلَمَّا أَقَرَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ مَالِكُ الدُّنْيَا ، دَلَّ بِقَوْلِهِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ عَلَى أَنَّهُ مَالِكُ الْأُخْرَى .

    وَقِيلَ: إِنَّمَا خَصَّ يَوْمَ الدِّينِ; لِأَنَّهُ يَنْفَرِدُ يَوْمَئِذٍ بِالْحُكْمِ فِي خَلْقِهِ .
    [ ص: 14 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ .

    وَقَرَأَ الْحَسَنُ ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ ، وَأَبُو مِجْلَزٍ "يُعْبَدُ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ .

    قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : الْمَعْنَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: إِيَّاكَ يُعْبَدُ ، وَالْعَرَبُ تَرْجِعُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ ، وَمِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [ يُونُسَ: 32 ] ، وَقَوْلُهُ: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً [ الدَّهْرِ: 21 -22 ] .

    وَقَالَ لَبِيدٌ:


    بَاتَتْ تَشْكِي إِلَيَّ النَّفْسُ مُجْهِشَةً وَقَدْ حَمَتْلَكَ سَبْعًا بَعْدَ سَبْعِينَا


    وَفِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى التَّوْحِيدِ .

    رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي آَخَرِينَ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى الطَّاعَةِ ، كَقَوْلِهِ: لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [ يس: 60 ] .

    الثَّالِثُ: أَنَّهُمَا بِمَعْنَى الدُّعَاءِ ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [ غَافِرٍ: 60 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: اهْدِنَا فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:

    أَحَدُهَا: ثَبِّتْنَا . قَالَهُ عَلِيٌّ ، وَأُبِيُّ . وَالثَّانِي: أَرْشِدْنَا . وَالثَّالِثُ: وُفِّقْنَا . وَالرَّابِعُ: أَلْهِمْنَا . رُوِيَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
    (وَالصِّرَاطَ) الطَّرِيقُ . وَيُقَالُ: إِنَّ أَصْلَهُ بِالسِّينِ ، لِأَنَّهُ مِنَ " الِاسْتِرَاطِ " وَهُوَ: الِابْتِلَاعُ فَالسِّرَاطُ كَأَنَّهُ يَسْتَرِطُ الْمَارِّينَ عَلَيْهِ ، فَمَنْ قَرَأَ بِالسِّينِ ، كَمُجَاهِدٍ ، وَابْنِ مُحَيْصِنٍ ، وَيَعْقُوبَ ، فَعَلَى أَصْلِ الْكَلِمَةِ ، وَمَنْ قَرَأَ بِالصَّادِّ ، كَأَبِي عَمْرٍو ، وَالْجُمْهُورِ ، فَلِأَنَّهَا أَخَفُّ عَلَى اللِّسَانِ ، وَمَنْ قَرَأَ بِالزَّايِ ، كَرِوَايَةِ الْأَصْمَعِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ الْعَرَبِ: "سَقْرٌ وَزَقْرٌ" ، وَرُوِيَ [ ص: 15 ] عَنْ حَمْزَةَ: إِشْمَامُ السِّينِ زَايًا ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِالصِّرَاطِ بَيْنَ الصَّادِ وَالزَّايِ .

    قَالَ الْفَرَّاءُ: اللُّغَةُ الْجَيِّدَةُ بِالصَّادِّ ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ الْأُولَى ، وَعَامَّةُ الْعَرَبِ يَجْعَلُونَهَا سِينًا ، وَبَعْضُ قَيْسٍ يَشُمُّونَ الصَّادَ ، فَيَقُولُ "الصِّرَاطَ" بَيْنَ الصَّادِ وَالسِّينِ ، وَكَانَ حَمْزَةُ يَقْرَأُ "الزِّرَاطَ" بِالزَّايِ ، وَهِيَ لُغَةٌ لِعُذْرَةٍ وَكَلْبٍ وَبَنِي الْقَيْنِ . يَقُولُونَ فِي [أَصْدَقُ ] أَزْدَقُ .

    وَفِي الْمُرَادِ بِالصِّرَاطِ هَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ ، رَوَاهُ عَلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ دِينُ الْإِسْلَامِ . قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحُسْنُ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ فِي آَخَرِينَ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الطَّرِيقُ الْهَادِي إِلَى دِينِ اللَّهِ ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ طَرِيقُ الْجَنَّةِ ، نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا . فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى سُؤَالِ الْمُسْلِمِينَ الْهِدَايَةَ وَهُمْ مُهْتَدُونَ؟ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:

    أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى: اهْدِنَا لُزُومَ الصِّرَاطَ ، فَحَذَفَ اللُّزُومَ . قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .

    وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: ثَبِّتْنَا عَلَى الْهُدَى ، تَقُولُ الْعَرَبُ لِلْقَائِمِ: قُمْ حَتَّى آَتِيَكَ ، أَيِ: اثْبُتْ عَلَى حَالِكَ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى: زِدْنَا هُدًى .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
    الحلقة (5)

    صــ16 إلى صــ 18

    قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

    قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ النَّبِيُّونَ ، وَالصِّدِّيقُون َ ، وَالشُّهَدَاءُ ، وَالصَّالِحُونَ . وَقَرَأَ [ ص: 16 ] الْأَكْثَرُونَ "عَلَيْهِمْ" بِكَسْرِ الْهَاءِ ، وَكَذَلِكَ "لَدَيْهِمْ" وَ "إِلَيْهِمْ" وَقَرَأَهُنَّ حَمْزَةُ بِضَمِّهَا . وَكَانَ ابْنُ كَثِيرٍ يَصِلُ [ضَمَّ ] الْمِيمِ بِوَاوٍ . وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : حَكَى اللُّغَوِيُّونَ فِي "عَلَيْهِمْ" عَشْرَ لُغَاتٍ ، قُرِئَ بِعَامَّتِهَا "عَلَيْهُمْ" بِضَمِّ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ "وَعَلَيْهِمْ" بِكَسْرِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ ، وَ"عَلَيْهِمِي" بِكَسْرِ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وَإِلْحَاقِ يَاءٍ بَعْدَ الْكَسْرَةِ ، وَ"عَلَيْهِمُو" بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ وَزِيَادَةِ وَاوٍ بَعْدَ الضَّمَّةُ ، وَ"عَلَيْهُمُو" بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وَإِدْخَالِ وَاوٍ بَعْدَ الْمِيمِ وَ"عَلَيُهُمْ" بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ وَاوٍ ، وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ السِّتَّةُ مَأْثُورَةٌ عَنِ الْقُرَّاءِ ، وَأَوْجُهٌ أَرْبَعَةٌ مَنْقُولَةٌ عَنِ الْعَرَبِ "عَلَيْهُمِي" بِضَمِّ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَإِدْخَالِ يَاءٍ ، وَ"عَلَيْهُمِ" بِضَمِّ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ يَاءٍ ، و"عَلَيْهِمُ" بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ مِنْ غَيْرِ إِلْحَاقِ وَاوٍ ، و"عَلَيْهِمِ" بِكَسْرِ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وَلَا يَاءَ بَعْدَ الْمِيمِ .

    فَأَمَّا "الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ" فَهُمُ الْيَهُودُ; "وَالضَّالُّونَ" : النَّصَارَى .

    رَوَاهُ عُدَيُّ بْنُ حَاتِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

    قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَالضَّلَالُ: الْحِيرَةُ وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ .

    فَصْلٌ

    وَمِنَ السُّنَّةِ فِي حَقِّ قَارِئِ الْفَاتِحَةِ أَنْ يُعْقِبَهَا بِـ "آَمِينَ" . قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: وَسَوَاءٌ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَوْ فِيهَا ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا قَالَ الْإِمَامُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ فَقَالَ مِنْ خَلْفِهِ: آَمِينَ ، فَوَافَقَ ذَلِكَ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ ، غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" .

    [ ص: 17 ] وَفِي مَعْنَى آَمِينَ: ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَى آَمِينَ: كَذَلِكَ يَكُونُ . حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنِ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى: اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ . قَالَهُ الْحَسَنُ وَالزُّجَاجُ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى . قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَهِلَالُ بْنُ يُسَافٍ ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ .

    وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَعْنَاهَا: يَا آَمِينُ أَجِبْ دُعَاءَنَا ، فَسَقَطَتْ يَا ، كَمَا سَقَطَتْ فِي قَوْلِهِ: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [ يُوسُفَ: 29 ] تَأْوِيلُهُ يَا يُوسُفُ . وَمِنْ طَوَّلَ الْأَلِفَ فَقَالَ: آَمِينَ ، أَدْخَلَ أَلِفَ النِّدَاءِ عَلَى أَلِفِ أَمِينَ ، كَمَا يُقَالُ: آَزَيْدٌ أَقْبِلْ . وَمَعْنَاهُ: يَا زَيْدُ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ ; لِأَنَّهُ إِذَا أَدْخَلَ "يَا" عَلَى "آَمِينَ" كَانَ مُنَادَى مُفْرَدًا ، فَحُكْمُ آَخِرِهِ الرَّفْعُ ، فَلَمَّا أَجْمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى فَتْحِ نُونِهِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُنَادَى ، وَإِنَّمَا فُتِحَتْ نُونُ "آَمِينَ" لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ الْيَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا ، كَمَا تَقُولُالْعَرَب ُ: لَيْتَ ، وَلَعَلَّ . قَالَ: وَفِي "آَمِينَ" لُغَتَانِ "آَمِينَ" بِالْقَصْرِ ، وَ"آَمِينَ" بِالْمَدِّ ، وَالنُّونُ فِيهِمَا مَفْتُوحَةٌ .

    أَنْشَدَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ :


    سَقَى اللَّهُ حَيًّا بَيْنَ صَارَةِ وَالْحِمَى (حِمَى) فَيْدَ صَوْبِ الْمُدْجِنَاتِ الْمَوَاطِرِ

    أَمِينُ وَأَدَّى اللَّهُ رَكْبًا إِلَيْهِمُ
    بِخَيْرٍ وَوَقَاهُمْ حِمَامَ الْمُقَادَرِ


    وَأَنْشَدَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَيْضًا:


    تَبَاعَدَ مِنِّي فُطْحُلٌ وَابْنُ أُمِّهِ أَمِينٌ فَزَادَ اللَّهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدًا


    [ ص: 18 ] وَأَنْشَدَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَيْضًا:


    يَا رَبِّ لَا تَسْلُبْنِي حُبَّهَا أَبَدًا وَيَرْحَمُ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ آَمِينًا


    وَأَنْشَدَنِي أُبَيُّ:


    أَمِينٌ وَمَنْ أَعْطَاكَ مِنِّي هَوَادَةً رَمَى اللَّهُ فِي أَطْرَافِهِ فَاقْفَعَلَّتِ


    وَأَنْشَدَنِي أُبَيُّ:


    فَقُلْتُ لَهُ قَدْ هِجْتَ لِي بَارِحَ الْهَوَى أَصَابَ حِمَامُ الْمَوْتِ أَهُوَنَنَا وَجْدًا


    أَمِينَ وَأَضْنَاهُ الْهَوَى فَوْقَ مَا بِهِ [أَمِينَ ] وَلَاقَى مِنْ تَبَارِيحِهِ جُهْدًا


    فَصْلٌ

    نَقَلَ الْأَكْثَرُونَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْفَاتِحَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ ، فَمَنْ تَرَكَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَتَعَيَّنُ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، وَيَدُلُّ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَا رُوِيَ فِي "الصحيحين" مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" .

    وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (6)

    صــ19 إلى صــ 24


    سُورَةُ الْبَقَرَةِ

    فَصْلٌ فِي فَضِيلَتِهَا

    رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ ، فَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لَا يَدْخُلُهُ الشَّيْطَانُ" .

    وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْن ِ: الْبَقَرَةَ وَآَلَ عِمْرَانَ ، فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ ، أَوْ غَيَايَتَانِ ، أَوْ فَرْقَانِ ، مِنْ طَيْرِ صَوَّافٍ ، اقْرَؤُوا الْبَقَرَةَ ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ" .

    وَالْمُرَادُ بِالزَّهْرَاوَي ْنِ: الْمُنِيرَتَيْن ِ . يُقَالُ: لِكُلِّ مُنِيرٍ: زَاهِرٌ . وَالْغَيَايَةُ: كُلُّ شَيْءٍ أَظَلَّ إِنْسَانٍ فَوْقَ رَأْسِهِ ، مِثْلُ السَّحَابَةِ وَالْغَبَرَةِ . يُقَالُ: غَايَا الْقَوْمَ فَوْقَ رَأْسِ فُلَانٍ بِالسَّيْفِ ، كَأَنَّهُمْ أَظَلُّوهُ بِهِ . قَالَ لَبِيدٌ: .


    فَتَدَلَّيْتُ عَلَيْهِ قَافِلًا وَعَلَى الْأَرْضِ غَيَايَاتُ الطِّفْلِ


    وَمَعْنَى فَرْقَانِ: قِطْعَتَانِ . وَالْفَرْقُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ . قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [ الشُّعَرَاءِ: 63 ] وَالصَّوَّافُ: الْمُصْطَفَّةُ الْمُتَضَامَّةُ لِتُظِلَّ قَارِئَهَا . وَالْبَطَلَةُ: السَّحَرَةُ .
    فَصْلٌ فِي نُزُولِهَا

    قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، [ ص: 20 ] وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ . وَذَكَرَ قَوْمٌ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ سِوَى آَيَةٍ ، وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ: 281 ] فَإِنَّهَا أُنْزِلَتْ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ .
    فَصْلٌ وَأَمَّا التَّفْسِيرُ . فَقَوْلُهُ: "الـم" اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا وَفِي سَائِرِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ ، وَسِرُّ اللَّهِ فِي الْقُرْآَنِ أَوَائِلُ السُّوَرِ ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَأَبُو صَالِحٍ وَابْنُ زَيْدٍ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا حُرُوفٌ مِنْ أَسْمَاءٍ ، فَإِذَا أُلِّفَتْ ضَرْبًا مِنَ التَّأْلِيفِ كَانَتْ أَسْمَاءً مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هِيَ أَسْمَاءٌ مُقَطَّعَةٌ لَوْ عَلِمَ النَّاسُ تَأْلِيفَهَا عَلِمُوا اسْمَ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ .

    وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ "الر" و"حم" وَ"نُونِ" فَقَالَ: اسْمُ الرَّحْمَنِ عَلَى الْجِهَاءِ ، وَإِلَى نَحْوِ هَذَا ذَهَبَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا حُرُوفٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةُ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَقْسَمَ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ كُلِّهَا ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ بَعْضِهَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: تَعَلَّمْتُ "أ ب ت ث" وَهُوَ يُرِيدُ سَائِرَ الْحُرُوفِ ، وَكَمَا يَقُولُ: قَرَأْتُ الْحَمْدَ ، يُرِيدُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ ، فَيُسَمِّيهَا بِأَوَّلِ حَرْفٍ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا أَقْسَمَ بِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ لِشَرَفِهَا وَلِأَنَّهَا مَبَانِيَ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ ، وَبِهَا يُذْكَرُ وَيُوَحَّدُ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ ، تَقْدِيرُهُ: وَحُرُوفُ الْمُعْجَمِ لَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمُ السَّبِيلَ ، وَأَنْهَجْتُ لَكُمُ الدَّلَالَاتِ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ ، وَإِنَّمَا [ ص: 21 ] حُذِفَ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ ، وَلِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ أَشَارَ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْحُرُوفِ إِلَى سَائِرِهَا ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْحُرُوفُ أُصُولًا لِلْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ ، أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ إِنَّمَا هُوَ مُؤَلَّفٌ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ ، وَقَطْرُبٌ .

    فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ حُرُوفٌ ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إِعْلَامِهِمْ بِهَذَا؟ .

    فَالْجَوَابُ أَنَّهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِعْجَازِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي تُؤَلِّفُونَ مِنْهَا كَلَامَكُمْ ، فَمَا بَالُكُمْ تَعْجَزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ؟! فَإِذَا عَجَزْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ .

    وَالْخَامِسُ: أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ . رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، وَابْنِهِ ، وَأَبِي فَاخِتَةَ سَعِيدِ بْنِ عَلَاقَةَ مَوْلَى أَمِّ هَانِئٍ .

    وَالسَّادِسُ: أَنَّهَا مِنَ الرَّمْزِ الَّذِي تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي كَلَامِهَا . يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: هَلْ تَا؟ فَيَقُولُ لَهُ بَلَى ، يُرِيدُ هَلْ تَأْتِي؟ فَيَكْتَفِي بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهِ . وَأَنْشَدُوا:


    قُلْنَا لَهَا قِفِي [لَنَا ] فَقَالَتْ قَافُ [لَا تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الْإِيجَافَ ] .


    أَرَادَ قَالَتْ: أَقِفُ . وَمِثْلُهُ:


    نَادُوهُمْ أَلَا الْجَمُوا أَلَا تَا قَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ أَلَا فَا .


    يُرِيدُ: أَلَا تَرْكَبُونَ قَالُوا: بَلَى فَارْكَبُوا . وَمِثْلُهُ:


    بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٌ وَإِنَّ شَرًّا فَا وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا


    مَعْنَاهُ: وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَشَاءَ . وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ الْأَخْفَشُ ، وَالزُّجَاجُ ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .

    وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ عَطِيَّةُ بْنُ الْحَارِثِ الْهَمْدَانِيُّ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ [ ص: 22 ] كُلِّهَا وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ ، فَسَمِعُوهَا فَبَقُوا مُتَحَيِّرِينَ . وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِمَا لَا يَفْهَمُونَ لِيُقْبِلُوا عَلَى سَمَاعِهِ ، لِأَنَّ النَّفُوسَ تَتَطَلَّعُ إِلَى مَا غَابَ عَنْهَا مَعْنَاهُ . فَإِذَا أَقْبَلُوا إِلَيْهِ خَاطَبَهُمْ بِمَا يَفْهَمُونَ ، فَصَارَ ذَلِكَ كَالْوَسِيلَةِ إِلَى الْإِبْلَاغِ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْنًى يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ ، أَوْ يَكُونُ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ ، فَهَذَا الْكَلَامُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْحُرُوفِ .

    وَقَدْ خَصَّ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ "الم" بِخَمْسَةِ أَقْوَالٍ:

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ .

    وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ . رَوَاهُ أَبُو الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَسَمٌ . رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا حُرُوفٌ مِنْ أَسْمَاءٍ . ثُمَّ فِيهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَلِفَ مِنَ "اللَّهِ" وَاللَّامِ مِنْ "جِبْرِيلَ" وَالْمِيمَ مِنْ "مُحَمَّدٍ" قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .

    فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ قَدْ تُنُووِلَ مِنْ كُلِّ اسْمٍ حَرْفُهُ الْأَوَّلُ اكْتِفَاءً بِهِ ، فَلِمَ أُخِذَتِ اللَّامُ مِنْ جِبْرِيلَ وَهِيَ آَخِرُ الِاسْمِ؟! .

    فَالْجَوَابُ: أَنَّ مُبْتَدَأَ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِابْتِدَاءِ أَوَّلِ حَرْفٍ مِنِ اسْمِهِ ، وَجِبْرِيلُ انْخَتَمَ بِهِ التَّنْزِيلُ وَالْإِقْرَاءُ ، فَتُنُووِلَ مِنِ اسْمِهِ نِهَايَةُ حُرُوفِهِ ، و"مُحَمَّدٌ" مُبْتَدَأٌ فِي الْإِقْرَاءِ ، فَتُنُووِلَ أَوَّلُ حَرْفٍ فِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَلِفَ مِنَ "اللَّهِ" تَعَالَى ، وَاللَّامَ مِنْ "لَطِيفٍ" وَالْمِيمَ مِنْ "مَجِيدٍ" قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ .

    وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآَنِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ .

    [ ص: 23 ]
    قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ فِيهِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى هَذَا ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ ، وَالْأَخْفَشِ . وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بُقَوْلِ خِفَافِ بْنِ نُدْبَةَ .


    أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطُرُ مَتْنَهُ تَأَمَّلْ خِفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا


    أَيْ: أَنَا هَذَا . وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ . إِنَّمَا أَرَادَ: أَنَا ذَلِكَ الَّذِي تَعْرِفُهُ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ .

    ثُمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ إِنْزَالُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآَنِ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا وَعَدَهُ أَنْ يُوحِيَهُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا [الْمُزَّمِّلِ: 5 ] .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا وَعَدَ بِهِ أَهِلَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ ، لِأَنَّهُمْ وُعِدُوا بِنَبِيٍّ وَكِتَابٍ .

    وَ الْكِتَابُ . الْقُرْآَنُ . وَسُمِّيَ كِتَابًا ، لِأَنَّهُ جُمِعَ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ . وَمِنْهُ الْكَتِيبَةُ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ . وَمِنْهُ: كَتَبْتُ الْبَغْلَةَ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: لا رَيْبَ فِيهِ الرَّيْبُ: الشَّكُّ . وَالْهُدَى: الْإِرْشَادُ . وَالْمُتَّقُونَ : الْمُحْتَرِزُون َ مِمَّا اتَّقَوْهُ .

    وَفَرَّقَ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عَبِيدِ اللَّهِ بَيْنَ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ ، فَقَالَ: التَّقْوَى: أَخْذُ عِدَةٍ ، وَالْوَرَعُ: دَفَعُ شُبْهَةٍ ، فَالتَّقْوَى: مُتَحَقِّقُ السَّبَبِ ، وَالْوَرَعُ: مَظْنُونُ الْمُسَبِّبِ .

    وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَهَا النَّفْيُ ، وَمَعْنَاهَا النُّهَى ، وَتَقْدِيرُهَا: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرْتَابَ بِهِ لِإِتْقَانِهِ وَإِحْكَامِهِ . وَمِثْلُهُ: مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [ يُوسُفَ: 38 ] . أَيْ: مَا يَنْبَغِي لَنَا . وَمِثْلُهُ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [ الْبَقَرَةِ: 196 ] وَهَذَا مَذْهَبُ الْخَلِيلِ ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .

    [ ص: 24 ] وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهَا: لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . قَالَهُ الْمُبَرِّدُ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهَا: لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ فِي آَخَرِينَ .

    فَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ ارْتَابَ بِهِ قَوْمٌ . فَالْجَوَابُ أَنَّهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ ، فَمَنْ حَقَّقَ النَّظَرَ فِيهِ عَلِمَ .

    قَالَ الشَّاعِرُ:


    لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَامَةُ رَيْبٌ [إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الْكَذُوبُ ]


    فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُتَّقِي مُهْتَدٍ ، فَمَا فَائِدَةُ اخْتِصَاصِ الْهِدَايَةِ بِهِ؟

    فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْمُتَّقِينَ ، وَالْكَافِرِينَ ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [ النَّحْلِ: 81 ] . أَرَادَ: وَالْبَرْدُ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَصَّ الْمُتَّقِينَ لِانْتِفَاعِهِم ْ بِهِ ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [ النَّازِعَاتُ: 45 ] . وَكَانَ مُنْذِرًا لِمَنْ يَخْشَى وَلِمَنْ لَا يَخْشَى .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ: التَّصْدِيقُ ، وَالشَّرْعُ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَزَادَ فِيهِ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ . وَأَصِلُ الْغَيْبِ: الْمَكَانُ الْمُطَمْئِنُّ الَّذِي يَسْتَتِرُ فِيهِ لِنُزُولِهِ عَمَّا حَوْلَهُ ، فَسُمِّيَ كُلُّ مُسْتَتِرٍ: غَيْبًا .

    وَفِي الْمُرَادِ بِالْغَيْبِ هَاهُنَا سِتَّةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْوَحْيُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ جُرَيٍجٍ .

    وَالثَّانِي: الْقُرْآَنُ ، قَالَهُ أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ ، وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ .

    وَالثَّالِثُ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَهُ عَطَاءٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .

    وَالرَّابِعُ: مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْقُرْآَنِ . رَوَاهُ السَّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (7)

    صــ25 إلى صــ 30

    [ ص: 25 ] وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ قَدَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ .

    وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَرَهُ . قَالَ عَمْرُو بْنُ مَرَّةَ: قَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ لَهُ: طُوبَى لَكَ ، جَاهَدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَجَالَسْتُهُ . فَقَالَ: إِنَّ شَأْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُبَيِّنًا لِمَنْ رَآَهُ ، وَلَكِنْ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ: قَوْمٌ يَجِدُونَ كِتَابًا مَكْتُوبًا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَمْ يَرَوْهُ ، ثُمَّ قَرَأَ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ .
    قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ الصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ : الدُّعَاءُ . وَفِي الشَّرِيعَةِ: أَفْعَالٌ وَأَقْوَالٌ عَلَى صِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ . وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِالصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِرَفْعِ الصَّلَا ، وَهُوَ مَغْرَزُ الذَّنْبِ مِنَ الْفَرَسِ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ صَلِيَتُ الْعُودَ إِذَا لَيَّنْتُهُ ، فَالْمُصَلِّي يَلِينُ وَيَخْشَعُ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّؤَالِ وَالدُّعَاءِ ، وَالصَّلَاةِ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ . وَهِيَ فِي هَذَا الْمَكَانِ اسْمُ جِنْسٍ .

    قَالَ مُقَاتِلٌ: أَرَادَ بِهَا هَاهُنَا: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ .

    وَفِي مَعْنَى إِقَامَتِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَمَامُ فِعْلِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٍ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا وَوُضُوئِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ .

    وَالثَّالِثُ: إِدَامَتُهَا ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الشَّيْءِ الرَّاتِبِ: قَائِمٌ ، وَفُلَانٌ يُقِيمُ أَرْزَاقَ الْجُنْدِ ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ أَيْ: أَعْطَيْنَاهُمْ . يُنْفِقُونَ أَيْ: يُخْرِجُونَ . وَأَصْلُ الْإِنْفَاقِ الْإِخْرَاجُ . يُقَالُ: نَفَقَتِ الدَّابَّةُ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهَا .

    [ ص: 26 ] وَفِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ النَّفَقَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهَا النَّفَقَةُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْعِيَالِ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَحُذَيْفَةُ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةُ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الصَّدَقَاتُ النَّوَافِلُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَالضَّحَّاكُ .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا النَّفَقَةُ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةٌ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ، وَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ فَرْضٌ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُمْسِكَ مِمَّا فِي يَدِهِ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ ، وَيُفَرِّقُ بَاقِيهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ . فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ ، الْآَيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ ، وَغَيْرِ هَذَا الْقَوْلِ أُثْبِتَ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَهُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ ، وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَهِيَ فِعْلُ الْبَدَنِ ، وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ وَهُوَ تَكْلِيفٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ - أَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّكْلِيفِ قِسْمٌ رَابِعٌ ، إِذْ مَا عَدَا هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَهُوَ مُمْتَزِجٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنْهُمَا كَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَاخْتَارَهُ مُقَاتِلٌ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعَرَبِ الَّذِي آَمَنُوا بِالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ ، رَوَاهُ صَالِحٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : [الَّذِي أُنْزِلُ إِلَيْهِ ، الْقُرْآَنُ . وَقَالَ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: الْقُرْآَنُ ] وَغَيْرُهُ مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يَعْنِي الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَة َ وَالْوَحْيَ ، فَأَمَّا "الْآَخِرَةُ" فَهِيَ اسْمٌ لِمَا بَعْدَ الدُّنْيَا ، وَسُمِّيَتْ آَخِرَةٌ; لِأَنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَقَدَّمَتْهَا . وَقِيلَ: سُمِّيَتْ آَخِرَةٌ لِأَنَّهَا نِهَايَةُ الْأَمْرِ .

    [ ص: 27 ]
    قَوْلُهُ تَعَالَى: يُوقِنُونَ الْيَقِينُ: مَا حَصَلَتْ بِهِ الثِّقَةُ ، وَثَلَجَ بِهِ الصَّدْرُ ، وَهُوَ أَبْلَغُ عِلْمٍ مُكْتَسَبٍ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى أَيْ: عَلَى رَشَادٍ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى نُورٍ وَاسْتِقَامَةٍ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمُفْلِحُونَ: الْفَائِزُونَ بِبَقَاءِ الْأَبَدِ . وَأَصْلُ الْفَلَاحِ: الْبَقَاءُ . وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُ لَبِيدٍ:


    نَحِلُّ بِلَادًا كُلَّهَا حُلَّ قَبْلَنَا وَنَرْجُو الْفَلَاحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ .


    يُرِيدُ: الْبَقَاءَ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُفْلِحُ: الْفَائِزُ بِمَا فِيهِ غَايَةُ صَلَاحِ حَالِهِ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَمِنْهُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، مَعْنَاهُ: هَلُمُّوا إِلَى سَبِيلِ الْفَوْزِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي نُزُولِهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَخَمْسَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ .

    الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَمِنْهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ ، قَالَهُ: ابْنُ السَّائِبِ .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ ، كَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي طَالِبٍ ، وَأَبِي لَهَبٍ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمْ .

    قَالَ مُقَاتِلٌ: فَأَمَّا تَفْسِيرُهَا ، فَالْكُفْرُ فِي اللُّغَةِ: التَّغْطِيَةُ . تَقُولُ: كَفَرْتُ الشَّيْءَ إِذَا غَطَّيْتُهُ ، فَسُمِّيَ الْكَافِرُ كَافِرًا; لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْحَقَّ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَيْ: مُتَعَادِلٌ عِنْدَهُمُ الْإِنْذَارُ وَتَرْكُهُ ، وَالْإِنْذَارُ: إِعْلَامٌ مَعَ تَخْوِيفٍ ، وَتَنَاذَرَ بَنُو فُلَانٍ هَذَا الْأَمْرَ: إِذَا خَوَّفَهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا .

    قَالَ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: هَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الْعُمُومِ ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْخُصُوصُ; لِأَنَّهَا آَذَنَتْ بِأَنَّ الْكَافِرَ حِينَ إِنْذَارِهِ لَا يُؤْمِنُ ، وَقَدْ آَمَنَ كَثِيرٌ مِنَ الْكُفَّارِ عِنْدَ [ ص: 28 ] إِنْذَارِهِمْ ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي الْعُمُومِ ، لَكَانَ خَبَرُ اللَّهِ لَهُمْ خِلَافَ مُخْبِرِهِ ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ نَقْلُهَا إِلَى الْخُصُوصِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ الْخَتْمُ: الطَّبْعُ ، وَالْقَلْبُ: قِطْعَةٌ مِنْ دَمٍ جَامِدَةٍ سَوْدَاءَ ، وَهُوَ مُسْتَكِنٌ فِي الْفُؤَادِ ، وَهُوَ بَيْتُ النَّفْسِ ، وَمَسْكَنُ الْعَقْلِ ، وَسُمِّيَ قَلْبًا لِتَقَلُّبِهِ .

    وَقِيلَ: لِأَنَّهُ خَالِصُ الْبَدَنِ ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالْخَتْمِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْفَهْمِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى سَمْعِهِمْ يُرِيدُ: عَلَى أَسْمَاعِهِمْ ، فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ التَّوْحِيدِ ، وَمَعْنَاهُ: الْجَمْعُ ، فَاكْتَفَى بِالْوَاحِدِ عَنِ الْجَمِيعِ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا . [ الْحَجِّ : 5 ] .

    وَأَنْشَدُوا مِنْ ذَلِكَ:


    كُلُوا فِي نِصْفِ بَطْنِكُمْ تَعِيشُوا فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ .


    أَيْ: فِي أَنْصَافِ بُطُونِكُمْ . ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو عُبَيْدَةَ ، وَالزُّجَاجُ . وَفِيهِ وَجْهٌ آَخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ تَذْهَبُ بِالسَّمْعِ مَذْهَبَ الْمَصْدَرِ ، وَالْمَصْدَرُ يُوَحَّدُ ، تَقُولُ: يُعْجِبُنِي حَدِيثُكُمْ ، وَيُعْجِبُنِي ضَرْبُكُمْ . فَأَمَّا الْبَصَرُ وَالْقَلْبُ فَهُمَا اسْمَانِ لَا يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْمَصَادِرِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى . ذَكَرَهُ الزُّجَاجُ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ . وَقَدْ قَرَأَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: (وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ) .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ الْغِشَاوَةُ: الْغِطَاءُ .

    قَالَ الْفَرَّاءُ: أَمَّا قُرَيْشٌ وَعَامَّةُ الْعَرَبِ ، فَيَكْسِرُونَ الْغَيْنَ مِنْ "غِشَاوَةٌ" ، وَعُكْلٍ يَضُمُّونَ الْغَيْنَ ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَفْتَحُهَا ، وَأَظُنُّهَا لِرَبِيعَةَ . وَرَوَى الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ "غِشَاوَةً" بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: جَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً . فَأَمَّا الْعَذَابُ فَهُوَ الْأَلَمُ الْمُسْتَمِرُّ ، وَمَاءٌ عَذْبٌ إِذَا اسْتَمَرَّ فِي الْحَلْقِ سَائِغًا .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ .

    [ ص: 29 ] أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ ، ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ زَيْدٍ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا فِي مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ . رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا يَتَخَوَّفُونَ مِنْ هَذِهِ الْآَيَةِ . وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ الْآَيَةُ نَعْتُ الْمُنَافِقِ ، يَعْرِفُ بِلِسَانِهِ ، وَيُنْكِرُ بِقَلْبِهِ ، [وَ ]يُصَدِّقُ بِلِسَانِهِ ، وَيُخَالِفُ بِعَمَلِهِ وَيُصْبِحُ عَلَى حَالَةٍ ، وَيُمْسِي عَلَى غَيْرِهَا ، وَيَتَكَفَّأُ تَكْفُّأَ السَّفِينَةِ ، كُلَّمَا هَبَّتْ رِيحٌ هَبَّ مَعَهَا .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ .

    قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، وَالْجَدُّ بْنُ الْقَيْسِ; إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا: آمَنَّا ، وَنَشْهَدُ أَنَّ صَاحِبَكُمْ صَادِقٌ ، فَإِذَا خَلَوْا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ .

    فَأَمَّا التَّفْسِيرُ ، فَالْخَدِيعَةُ: الْحِيلَةُ وَالْمَكْرُ ، وَسُمِّيَتْ خَدِيعَةً ، لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي خَفَاءٍ .

    وَالْمَخْدَعُ: بَيْتٌ دَاخِلُ الْبَيْتِ تَخْتَفِي فِيهِ الْمَرْأَةُ ، وَرَجُلٌ خَادِعٌ: إِذَا فَعَلَ الْخَدِيعَةَ ، سَوَاءٌ حَصَلَ مَقْصُودُهُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ ، فَإِذَا حَصَلَ مَقْصُودُهُ قِيلَ: قَدْ خَدَعَ . وَانْخَدَعَ الرَّجُلُ: اسْتَجَابَ لِلْخَادِعِ ، سَوَاءٌ تَعَمَّدَ الِاسْتِجَابَةَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الدَّهْرَ خِدَاعًا ، لِتَلَوُّنِهِ بِمَا يُخْفِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ .

    وَفِي مَعْنَى خِدَاعِهِمُ اللَّهَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُخَادِعُونَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَكَأَنَّهُمْ خَادَعُوا اللَّهَ . رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ; وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يُخَادِعُونَ نَبِيَّ اللَّهِ فَأَقَامَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مَقَامَهُ كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ [ الْفَتْحُ: 10 ] ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .

    [ ص: 30 ] وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْخَادِعَ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْفَاسِدُ . وَأَنْشَدُوا:


    [أَبْيَضُّ اللَّوْنِ لَذِيذٌ طَعْمُهُ ] طَيِّبُ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعَ .


    أَيْ: فَسَدَ . رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ ثَعْلَبٍ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَتَأْوِيلُ يُخَادِعُونَ اللَّهَ: يُفْسِدُونَ مَا يُظْهِرُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا يُضْمِرُونَ مِنَ الْكُفْرِ .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لُو فَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ كَانَ خِدَاعًا .

    وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْفُونَ كُفْرَهُمْ وَيُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ بِهِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَافِعٌ ، وَأَبُو عَمْرٍو: (وَمَا يُخَادِعُونَ) وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ ، وَابْنُ عَامِرٍ: (يَخْدَعُونَ) ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ وَبَالَ ذَلِكَ الْخِدَاعُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ .

    وَمَتَى يَعُودُ وَبَالُ خِدَاعِهِمْ عَلَيْهِمْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: فِي دَارِ الدُّنْيَا ، وَذَلِكَ بِطَرِيقَيْنِ . أَحَدُهُمَا: بِالِاسْتِدْرَا جِ وَالْإِمْهَالِ الَّذِي يَزِيدُهُمْ عَذَابًا . بِاطِّلَاعِ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِين َ عَلَى أَحْوَالِهِمُ الَّتِي أَسَرُّوهَا .

    وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ عَوْدَ الْخِدَاعِ عَلَيْهِمْ فِي الْآَخِرَةِ . وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَعُودُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ ضَرْبِ الْحِجَابِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ [ الْحَدِيدُ: 13 ] .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعُودُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ اطِّلَاعِ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَيْهِمْ ، فَإِذَا رَأَوْهُمْ طَمِعُوا فِي نَيْلِ رَاحَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ ، فَقَالُوا: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [ الْأَعْرَافِ: 50 ] فَيُجِيبُونَهُم ْ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 51 ] .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (8)

    صــ31 إلى صــ 36

    [ ص: 31 ] قَوْلُهُ تَعَالِي: وَمَا يَشْعُرُونَ أَيْ: وَمَا يَعْلَمُونَ . وَفِي الَّذِي لَمْ يَشْعُرُوا بِهِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِطْلَاعُ اللَّهِ نَبِيَّهُ عَلَى كَذِبِهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِسْرَارُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ بِكُفْرِهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الْمَرَضُ هَاهُنَا: الشَّكُّ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ ، وَقَتَادَةُ .

    فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا هَذَا الْإِخْبَارُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ ، و"الْأَلِيمُ" بِمَعْنَى الْمُؤْلِمِ ، وَالْجُمْهُورُ يَقْرَؤُونَ (يُكَذِّبُونَ) بِالتَّشْدِيدِ ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ سِوَى أَبَانَ ، عَنْ عَاصِمٍ بِالتَّخْفِيفِ مَعَ فَتْحِ الْيَاءِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ .

    وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا قَوْمٌ لَمْ يَكُونُوا خُلِقُوا حِينَ نُزُولِهَا ، قَالَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ . وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَقْرَأُ بِضَمِّ الْقَافِ مِنْ "قِيلَ" وَالْحَاءِ مَنْ "حِيلَ" وَالْغَيْنِ مَنْ "غِيضَ" وَالْجِيمِ مَنْ "جِيءَ" وَالسِّينِ مِنْ "سِيءَ" وَ"سِيئَتْ" وَكَانَ ابْنُ عَامِرٍ يَضُمُّ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةً "حِيلَ" وَ"سِيقَ" وَ"سِيءَ" وَ"سِيئَتْ" . وَكَانَ نَافِعٌ يَضُمُّ "سِيءَ" وَ"سِيئَتْ" وَيَكْسِرُ الْبَوَاقِي ، وَالْآَخَرُونَ يَكْسِرُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ .

    وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ مِنْ قُرَيْشٍ وَمِنْ جَاوَرَهُمْ مِنْ بَنِي كَنَانَةَ يَكْسِرُونَ الْقَافَ فِي "قِيلَ" و"جِيءَ" و"غِيضَ" ، وَكَثِيرٌ مِنْ عَقِيلٍ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ وَعَامَّةُ أَسَدٍ ، يَشُمُّونَ إِلَى الضَّمِّ مِنْ "قِيلَ" و"جِيءَ" .

    [ ص: 32 ] وَفِي الْمُرَادِ بِالْفَسَادِ هَاهُنَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْكُفْرُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي: الْعَمَلُ بِالْمَعَاصِي ، قَالَهُ: أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُقَاتِلٌ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي ، قَالَهُ السَّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ تَرْكُ امْتِثَالِ الْأَوَامِرَ ، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .

    وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ النِّفَاقُ الَّذِي صَادَفُوا بِهِ الْكُفَّارَ ، وَأَطْلَعُوهُمْ عَلَى أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ ، ذَكَرَهُ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ إِنْكَارُ ، مَا عَرَفُوا بِهِ ، وَتَقْدِيرُهُ: مَا فَعَلْنَا شَيْئًا يُوجِبُ الْفَسَادَ .

    وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: إِنَّا نَقْصِدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ ، وَالْقَوْلَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ أَرَادُوا مُصَافَاةَ الْكُفَّارِ صَلَاحٌ ، لَا فَسَادٌ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ فِعْلَنَا هَذَا هُوَ الصَّلَاحُ ، وَتَصْدِيقُ مُحَمَّدٍ هُوَ الْفَسَادُ ، قَالَهُ السَّدِّيُّ .

    وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ مُصَافَاةَ الْكُفَّارِ صَلَاحٌ فِي الدُّنْيَا لَا فِي الدِّينِ; لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الدَّوْلَةَ إِنْ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَمَّنُوهُ بِمُبَايَعَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ لِلْكَفَّارِ فَقَدْ أَمِنُوهُمْ بِمُصَافَاتِهِم ْ ، ذَكَرَهُ شَيْخُنَا .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ قَالَ الزَّجَّاجَ: "أَلَا": كَلِمَةٌ يُبْتَدَأُ بِهَا ، يُنَبَّهُ بِهَا الْمُخَاطَبُ ، تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا بَعْدَهَا . و"هُمْ" تَأْكِيدٌ لِلْكَلَامِ .

    [ ص: 33 ] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُ نَبِيَّهُ عَلَى فَسَادِهِمْ .

    وَالثَّانِي: لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ فَسَادٌ ، لَا صَلَاحٌ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا فِي الْمَقُولِ لَهُمْ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْيَهُودُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُقَاتِلٌ .

    وَالثَّانِي: الْمُنَافِقُونَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَفِي الْقَائِلِينَ لَهُمْ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مُعَيَّنُونَ وَهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأَبُو لُبَابَةَ وَأُسَيْدُ ذَكَرَهُ مُقَاتِلٌ .

    وَفِي الْإِيمَانِ الَّذِي دُعُوا إِلَيْهِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ التَّصْدِيقُ بِالنَّبِيِّ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى مَا أَظْهَرُوهُ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ .

    وَفِي الْمُرَادِ بِالنَّاسِ هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: جَمِيعُ الصَّحَابَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ ، وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنَ الْيَهُودِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

    وَالثَّالِثُ: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ الْأَنْصَارِ ، عَدَّهُمُ الْكَلْبِيُّ . وَفِيمَنْ عَنَوْا بِالسُّفَهَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: جَمِيعُ الصَّحَابَةِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ ، قَالَهُ الْحَسَنُ . وَالثَّالِثُ: ابْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَفِيمَا عَنَوْهُ بِالْغَيْبِ مِنْ إِيمَانِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ السُّفَهَاءُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا دِينَ الْإِسْلَامِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ عَنَوْا مُكَاشَفَةَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْعَدَاوَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي عَاقِبَةِ ، وَهَذَا الْوَجْهُ وَالَّذِي قَبْلَهُ يَخْرُجُ عَلَى أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ ، وَالْأَوَّلُ يَخْرُجُ عَلَى أَنَّهُمُ الْيَهُودُ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَالسُّفَهَاءُ: الْجَهَلَةُ ، [ ص: 34 ] يُقَالُ: سَفَّهَ فَلَانٌ رَأْيَهُ إِذَا جَهِلَهُ ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبِذَاءِ: سَفَهٌ; لِأَنَّهُ جَهْلٌ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَصْلُ السَّفَهِ فِي اللُّغَةِ: خِفَّةُ الْحِلْمِ ، وَيُقَالُ: ثَوْبٌ سَفِيهٌ: إِذَا كَانَ رَقِيقًا بَالِيًا ، وَتَسَفَّهَتِ الرِّيحُ الشَّجَرَ: إِذَا مَالَتْ بِهِ قَالَ الشَّاعِرُ:


    مَشِينٌ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ أَعَالِيهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ .

    قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ .

    اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ . قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ مَا يَلْقُونَ رُؤَسَاءَهُمْ بِضِدِّهِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ .

    فَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَـ "إِلَى" بِمَعْنَى "مَعَ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ أَيْ: مَعَ اللَّهِ . وَالشَّيَاطِينُ : جَمْعُ شَيْطَانٍ ، قَالَ الْخَلِيلُ: كُلُّ مُتَمَرِّدٍ عِنْدَ الْعَرَبِ شَيْطَانٌ . وَفِي هَذَا الِاسْمِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ شَطَنَ ، أَيْ: بَعُدَ عَنِ الْخَيْرِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ النُّونُ أَصْلِيَّةً .

    قَالَ أُمِّيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي صِفَةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:


    أَيُّمَا شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ ثُمَّ يُلْقَى فِي السِّجْنِ وَالْأَغْلَالِ


    عَكَاهُ: أَوْثَقَهُ . وَقَالَ النَّابِغَةُ:

    [ ص: 35 ]
    نَأَتِ بِسُعَادَ عَنْكَ نَوَى شُطُونٍ فَبَانَتْ وَالْفُؤَادُ بِهَا رَهِينُ .


    وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ شَاطَ يَشِيطُ: إِذَا الْتَهَبَ وَاحْتَرَقَ ، فَتَكُونُ النُّونُ زَائِدَةً . وَأَنْشَدُوا:


    وَقَدْ يَشِيطُ عَلَى أَرْمَاحِنَا الْبَطَلُ


    أَيْ: يَهْلَكُ .

    وَفِي الْمُرَادِ بِشَيَاطِينِهِم ْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ رُؤُوسُهُمْ فِي الْكُفْرِ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ: كَهَنَتُهُمْ قَالَهُ الضَّحَّاكُ ، وَالْكَلْبِيُّ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا مَعَكُمْ .

    فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا: إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ . وَالثَّانِي: إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى النُّصْرَةِ وَالْمُعَاضَدَة ِ . وَالْهَزْءُ: السُّخْرِيَةُ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ .

    اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِاسْتِهْزَاءِ اللَّهِ بِهِمْ عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُمْ فِي النَّارِ ، فَيُسْرِعُونَ إِلَيْهِ فَيُغْلَقُ ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ آَخَرُ ، فَيُسْرِعُونَ فَيُغْلَقُ ، فَيَضْحَكُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ . رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَمَدَتِ النَّارُ لَهُمْ كَمَا تَجَمَدُ الْإِهَالَةُ فِي الْقَدْرِ ، فَيَمْشُونَ فَتَنْخَسِفُ بِهِمْ . رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِهِمْ: إِذَا ضُرِبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ ، بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ ، وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ، فَيَبْقَوْنَ فِي الظُّلْمَةِ ، فَيُقَالُ لَهُمْ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [ الْحَدِيدُ: 13 ] قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

    [ ص: 36 ] وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: يُجَازِيهِمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِم ْ ، فَقُوبِلَ اللَّفْظُ بِمِثْلِهِ لَفْظًا وَإِنْ خَالَفَهُ مَعْنًى ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٍ مِثْلُهَا [ الشُّورَى:40 ] وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [ الْبَقَرَةِ: 194 ] وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:


    أَلَا لَا يَجْهَلْنَ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا


    أَرَادَ: فَنُعَاقِبُهُ بَأَغْلَظَ مِنْ عُقُوبَتِهِ .

    وَالْخَامِسُ: أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ مِنَ اللهِ التَّخْطِئَةُ لَهُمْ ، وَالتَّجْهِيلُ ، فَمَعْنَاهُ: اللَّهُ يُخَطِّئُ فِعْلَهُمْ ، وَيُجَهِّلُهُمْ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ .

    وَالسَّادِسُ: أَنَّ اسْتِهْزَاءَهُ: اسْتِدْرَاجُهُ إِيَّاهُمْ .

    وَالسَّابِعُ أَنَّهُ إِيقَاعُ اسْتِهْزَائِهِم ْ بِهِمْ ، وَرَدَّ خِدَاعَهُمْ وَمَكْرَهُمْ عَلَيْهِمْ . ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَنْبَارِيِّ .

    وَالثَّامِنُ: أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِهِمْ أَنْ يُقَالَ لِأَحَدِهِمْ فِي النَّارِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الذُّلِّ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [ الدُّخَانُ: 49 ] ذَكَرَهُ شَيْخُنَا فِي كِتَابِهِ .

    وَالتَّاسِعُ: أَنَّهُ لَمَّا أَظْهَرُوا مِنْ أَحْكَامِ إِسْلَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا خِلَافَ مَا أُبْطِنَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ ، كَانَ كَالِاسْتِهْزَا ءِ بِهِمْ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ .

    فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: يُمْكِنُ لَهُمْ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ . وَالثَّانِي: يُمْلِي لَهُمْ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: يَزِيدُهُمْ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالرَّابِعُ: يُمْهِلُهُمْ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .

    وَالطُّغْيَانُ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْقَدْرِ ، وَالْخُرُوجُ عَنْ حَيِّزِ الِاعْتِدَالِ فِي الْكَثْرَةِ ، يُقَالُ: طَغَى الْبَحْرُ إِذَا هَاجَتْ أَمْوَاجُهُ ، وَطَغَى السَّيْلُ إِذَا جَاءَ بِمَاءٍ كَثِيرٍ . وَفِي الْمُرَادِ بِطُغْيَانِهِمْ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كُفْرُهُمْ ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ عُتُوُّهُمْ وَتَكَبُّرُهُمْ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ . و"يَعْمَهُونَ" بِمَعْنَى: يَتَحَيَّرُونَ ، يُقَالُ: رَجُلٌ عَمِهٌ وَعَامِهٌ ، أَيْ: مُتَحَيِّرٌ .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (9)

    صــ37 إلى صــ 42

    [ ص: 37 ] قَالَ الرَّاجِزُ:


    وَمُخْفَقٍ مِنْ لُهْلُهٍ وَلُهْلُهِ مِنْ مَهْمَهٍ يَجْتَبِنْهُ فِي مَهْمَهِ


    أَعْمَى الْهُدَى بِالْجَاهِلِينَ الْعُمَّهُ

    وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يَعْمَهُونَ: يَرْكَبُونَ رُؤُوسَهُمْ ، فَلَا يُبْصِرُونَ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى .

    فِي نُزُولِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَاشْتَرَوْا بِمَعْنَى اسْتَبْدَلُوا ، وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ مَنْ آَثَرَ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ مُشْتَرِيًا لَهُ ، وَبَائِعًا لِلْآَخِرِ . وَالضَّلَالَةُ وَالضَّلَالُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ .

    وَفِيهَا لِلْمُفَسِّرِين َ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا الْكُفْرُ ، وَالْمُرَادُ بِالْهُدَى: الْإِيمَانُ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا الشَّكُّ ، وَالْهُدَى: الْيَقِينُ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الْجَهْلُ ، وَالْهُدَى: الْعِلْمُ .

    وَفِي كَيْفِيَّةِ اسْتِبْدَالِهِم ُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْيَهُودَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ قَبْلَ مَبْعَثِهِ ، فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ ، [ ص: 38 ] قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ مِنَ الْهُدَى فَرَدُّوهُ وَاخْتَارُوا الضَّلَالَ ، كَانُوا كَمَنْ أَبْدَلَ شَيْئًا بِشَيْءٍ ، ذَكَرَهُ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ .

    مِنْ مَجَازِ الْكَلَامِ ، لِأَنَّ التِّجَارَةَ لَا تَرْبَحُ ، وَإِنَّمَا يُرْبَحُ فِيهَا ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [ سَبَأُ: 33 ] يُرِيدُ: بَلْ مَكْرُهُمْ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ . وَمِثْلُهُ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ [ مُحَمَّدُ: 21 ] أَيْ: عَزَمَ عَلَيْهِ وَأَنْشَدُوا:


    حَارِثٌ قَدْ فَرَّجْتَ عَنِّي هَمِّي فَنَامَ لَيْلِي وَتَجَلَّى غَمِّي


    وَاللَّيْلُ لَا يَنَامُ ، بَلْ يُنَامُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مِثْلُ هَذَا فِيمَا يَزُولُ فِيهِ الْإِشْكَالُ ، وَيُعْلَمُ مَقْصُودُ قَائِلِهِ ، فَأَمَّا إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَا يَصْلُحُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ ، وَأُرِيدَ بِهِ مَا سِوَاهُ ، لَمْ يَجُزْ ، مِثْلُ أَنْ تَقُولَ: رَبِحَ عَبْدُكَ ، وَتُرِيدُ: رَبِحْتُ فِي عَبْدِكَ . وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الْفَرَّاءُ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَالزَّجَّاجُ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ .

    فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: وَمَا كَانُوا فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ مُهْتَدِينَ . وَالثَّانِي: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ مِنَ الضَّلَالَةِ . وَالثَّالِثُ: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ إِلَى تِجَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ . وَالرَّابِعُ: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ فِي اشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ قَدْ لَا يَرْبَحُ التَّاجِرُ ، وَيَكُونُ عَلَى هُدًى مِنْ تِجَارَتِهِ ، غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لِلذَّمِّ فِيمَا اعْتَمَدَهُ ، فَنَفَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمُ الْأَمْرَيْنِ ، مُبَالَغَةً فِي ذَمِّهِمْ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا .

    هَذِهِ الْآَيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ . و"الْمَثَلُ" بِتَحْرِيكِ الثَّاءِ: مَا يُضْرَبُ وَيُوضَعُ لِبَيَانِ النَّظَائِرِ فِي الْأَحْوَالِ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْتَوْقَدَ قَوْلَانِ . [ ص: 39 ] أَحَدُهُمَا: أَنَّ السِّينَ زَائِدَةٌ وَأَنْشَدُوا:


    وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ


    أَرَادَ: فَلَمْ يُجِبْهُ ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، مِنْهُمُ الْأَخْفَشُ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ .

    وَالثَّانِي: أَنَّ السِّينَ دَاخِلَةٌ لِلطَّلَبِ ، أَرَادَ: كَمَنْ طَلَبَ مِنْ غَيْرِهِ نَارًا .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ .

    وَفِي "أَضَاءَتْ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي ، قَالَ الشَّاعِرُ:


    أَضَاءَتْ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ دُجَى اللَّيْلِ حَتَّى نَظَّمَ الْجِزْعَ ثَاقِبُهُ


    وَقَالَ آَخَرُ:


    أَضَاءَتْ لَنَا النَّارُ وَجْهًا أَغَرَّ مُلْتَبِسًا بِالْفُؤَادِ الْتِبَاسًا


    وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْفِعْلِ اللَّازِمِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يُقَالُ: أَضَاءَتِ النَّارُ ، وَأَضَاءَهَا غَيْرُهَا . وَقَالَ الزَّجَّاجَ: يُقَالُ: ضَاءَ الْقَمَرُ ، وَأَضَاءَ .

    وَفِي "مَا" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا زَائِدَةٌ ، تَقْدِيرُهُ: أَضَاءَتْ حَوْلَهُ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي . وَحَوْلَ الشَّيْءِ: مَا دَارَ مِنْ جَوَانِبِهِ . وَالْهَاءُ: عَائِدَةٌ عَلَى الْمُسْتَوْقَدِ . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَحَّدَ ، فَقَالَ: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ثُمَّ جَمَعَ فَقَالَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ ثَعْلَبًا حَكَى عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا ضُرِبَ الْمَثَلُ لِلْفِعْلِ ، لَا لِأَعْيَانِ الرِّجَالِ ، وَهُوَ مَثَلٌ لِلنِّفَاقِ . وَإِنَّمَا قَالَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ لِأَنَّ الْمَعْنَى ذَاهِبٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ ، فَجُمِعَ لِذَلِكَ . قَالَ ثَعْلَبٌ: وَقَالَ غَيْرُ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى الَّذِي: الْجَمْعُ ، وُحِّدَ أَوَّلًا لِلَفْظِهِ ، وَجُمِعَ بَعْدُ لِمَعْنَاهُ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

    [ ص: 40 ]
    فَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أَمَّ خَالِدٍ


    فَجَعَلَ "الَّذِي" جَمْعًا .

    فَصْلٌ

    اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ هَذَا الْمَثَلَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَرَبَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَلْفِظُونَ بِهَا ، وَنُورُهَا صِيَانَةُ النُّفُوسِ وَحَقْنُ الدِّمَاءِ ، فَإِذَا مَاتُوا سَلْبَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ الْعِزَّ ، كَمَا سَلَبَ صَاحِبَ النَّارِ ضَوْءَهُ . وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ ضَرَبَ لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَسَمَاعِهِمْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ، فَذَهَابُ نُورِهِمْ: إِقْبَالُهُمْ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالضَّلَالُ ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ .

    وَفِي الْمُرَادِ بِـ "الظُّلُمَاتِ" هَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: الْعَذَابُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: ظُلْمَةُ الْكُفْرِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ: ظُلْمَةٌ يُلْقِيهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا نِفَاقُهُمْ قَالَهُ السُّدِّيُّ .

    فَصْلٌ

    وَفِي ضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِالنَّارِ ثَلَاثُ حِكَمٍ .

    إِحْدَاهَا: أَنَّ الْمُسْتَضِيءَ بِالنَّارِ مُسْتَضِيءٌ بِنُورٍ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ ، لَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ، فَإِذَا ذَهَبَتْ تِلْكَ النَّارُ بَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ ، فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا أَقَرُّوا بِأَلْسِنَتِهِم ْ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ قُلُوبِهِمْ ، كَانَ نُورُ إِيمَانِهِمْ كَالْمُسْتَعَار ِ .

    وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ ضِيَاءَ النَّارِ يَحْتَاجُ فِي دَوَامِهِ إِلَى مَادَّةِ الْحَطَبِ ، فَهُوَ لَهُ كَغِذَاءِ الْحَيَوَانِ ، فَكَذَلِكَ نُورُ الْإِيمَانِ يَحْتَاجُ إِلَى مَادَّةِ الِاعْتِقَادِ لِيَدُومَ .

    [ ص: 41 ] وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الظُّلْمَةَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ الضَّوْءِ أَشَدُّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ ظُلْمَةٍ لَمْ يَجِدْ مَعَهَا ضِيَاءٌ ، فَشَبَّهَ حَالَهُمْ بِذَلِكَ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ .

    الصَّمَمُ: انْسِدَادُ مَنَافِذِ السَّمْعِ ، وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الطَّرَشِ . وَفِي الْبُكْمِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْخَرَسُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَابْنُ فَارِسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَيْبٌ فِي اللِّسَانِ لَا يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنَ النُّطْقِ ، وَقِيلَ: إِنَّ الْخَرَسَ يُحَدَّثُ عَنْهُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عَيْبٌ فِي الْفُؤَادِ يَمْنَعُهُ أَنْ يَعِيَ شَيْئًا فَيَفْهَمُهُ ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْفَسَادِ فِي مَحَلِّ الْفَهْمِ وَمَحَلِّ النُّطْقِ ، ذَكَرَ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ شَيْخُنَا .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ .

    فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: لَا يَرْجِعُونَ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَالثَّالِثُ: لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الصَّمَمِ وَالْبُكْمِ وَالْعَمَى ، وَإِنَّمَا أَضَافَ الرُّجُوعَ إِلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُمُ انْصَرَفُوا بِاخْتِيَارِهِم ْ ، لِغَلَبَةِ أَهْوَائِهِمْ عَنْ تَصَفُّحِ الْهُدَى بِآَلَاتِ التَّصَفُّحِ ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِمْ صَمَمٌ وَلَا بُكْمٌ حَقِيقَةً ، وَلِكَوْنِهِمْ لَمَّا الْتَفَتُوا عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ وَالنُّطْقِ بِهِ; كَانُوا كَالصُّمِّ الْبُكْمِ . وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمُعْرِضَ عَنِ الشَّيْءِ: أَعْمَى ، وَالْمُلْتَفِتَ عَنْ سَمَاعِهِ: أَصَمُّ ، قَالَ مِسْكِينُ الدَّارِمِيُّ:


    مَا ضَرَّ جَارًا لِي أُجَاوِرُهُ أَلَّا يَكُونَ لِبَابِهِ سِتْرُ

    أَعْمَى إِذَا مَا جَارَتِي خَرَجَتْ
    حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي الْخِدْرُ

    وَتُصِمَّ عَمَّا بَيْنَهُمْ أُذُنِي
    حَتَّى يَكُونَ كَأَنَّهُ وَقْرُ


    قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ

    "أَوْ" حَرْفٌ مَرْدُودٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [ الْبَقَرَةِ: 17 ] وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ . [ ص: 42 ] أَحَدُهَا: أَنَّهُ دَاخِلٌ هَاهُنَا لِلتَّخْيِيرِ ، تَقُولُ الْعَرَبُ جَالِسِ الْفُقَهَاءَ أَوِ النَّحْوِيِّينَ ، وَمَعْنَاهُ: أَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي مُجَالَسَةِ أَيِّ: الْفَرِيقَيْنِ شِئْتَ ، فَكَأَنَّهُ خَيَّرَنَا بَيْنَ أَنْ نَضْرِبَ لَهُمُ الْمَثَلَ الْأَوَّلَ أَوِ الثَّانِي .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَاخِلٌ لِلْإِبْهَامِ فِيمَا قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَحْصِيلَهُ ، فَأُبْهِمَ عَلَيْهِمْ مَا لَا يَطْلُبُونَ تَفْصِيلَهُ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَثَلُهُمْ كَأَحَدِ هَذَيْنِ . وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [ الْبَقَرَةِ: 74 ] وَالْعَرَبُ تُبْهِمُ مَا لَا فَائِدَةَ فِي تَفْصِيلِهِ . قَالَ لَبِيدُ:


    تَمَنَّى ابْنَتَايَ أَنْ يَعِيشَ أَبُوهُمَا وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرِ


    أَيْ: هَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ ، وَقَدْ فَنِيَا فَسَبِيلِي أَنْ أَفْنَى كَمَا فَنِيَا .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى بَلْ . وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ


    بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى وَصُورَتُهَا أَوْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ


    وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لِلتَّفْصِيلِ ، وَمَعْنَاهُ: بَعْضُهُمْ يُشَبَّهُ بِالَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ، وَبَعْضُهُمْ بِأَصْحَابِ الصَّيِّبِ . وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [ الْبَقَرَةِ: 135 ] مَعْنَاهُ: قَالَ بَعْضُهُمْ ، وَهُمُ الْيَهُودَ: كُونُوا هُودًا ، وَقَالَ النَّصَارَى: كُونُوا نَصَارَى . وَكَذَا قَوْلُهُ: فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ [ الْأَعْرَافِ: 4 ] مَعْنَاهُ: جَاءَ بَعْضُهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَجَاءَ بَعْضُهُمْ بَأْسُنَا وَقْتَ الْقَائِلَةِ .

    وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْوَاوِ . وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ [ النُّورِ: 61 ] قَالَ جَرِيرٌ:


    نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (10)

    صــ43 إلى صــ 48

    السَّادِسُ أَنَّهُ لِلشَّكِّ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِينَ ، إِذِ الشَّكُّ مُرْتَفِعٌ عَنِ الْحَقِّ عَزَّ وَجَلَّ ، وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [ الرُّومِ: 37 ] يُرِيدُ: فَالْإِعَادَةُ أَهْوَنُ مِنَ الِابْتِدَاءِ فِيمَا تَظُنُّونَ . [ ص: 43 ] فَأَمَّا التَّفْسِيرُ لِمَعْنَى الْكَلَامِ: أَوْ كَأَصْحَابِ صَيِّبٍ ، فَأَضْمَرَ الْأَصْحَابَ; لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ دَلِيلًا عَلَيْهِ .

    وَالصَّيِّبُ: الْمَطَرُ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هُوَ فَيْعَلٌ مِنْ صَابَ يُصُوبُ: إِذَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ نَازِلٍ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى اسْتِفَالٍ ، فَقَدْ صَابَ يَصُوبُ ، قَالَ الشَّاعِرُ:


    كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ


    وَفِي الرَّعْدِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَوْتُ مَلِكٍ يَزْجُرُ السَّحَابَ ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ صَوْتُ مَلِكٍ يَسْبَحُ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ مَلِكٌ يَسُوقُ السَّحَابَ كَمَا يَسُوقُ الْحَادِيَ الْإِبِلَ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ رِيحٌ تَخْتَنِقُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْجِلْدِ أَنَّهُ قَالَ: الرَّعْدِ: الرِّيحُ . وَاسْمُ أَبِي الْجِلْدِ: جِيلَانُ بْنُ أَبِي فَرْوَةَ الْبَصَرِيُّ ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ اصْطِكَاكُ أَجْرَامِ السَّحَابِ ، حَكَاهُ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ .

    وَفِي الْبَرْقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَخَارِيقٌ يَسُوقُ بِهَا الْمَلِكُ السَّحَابَ ، رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: هُوَ ضَرْبَةٌ بِمِخْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ ضَرْبَةٌ بِسَوْطٍ مِنْ نُورٍ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : الْمَخَارِيقُ: ثِيَابٌ تَلُفُّ ، وَيَضْرِبُ بِهَا الصِّبْيَانُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَشَبَّهَ السَّوْطَ الَّذِي يَضْرِبُ بِهِ السَّحَابَ بِذَلِكَ الْمِخْرَاقِ .

    [ ص: 44 ] قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:


    كَأَنَّ سُيُوفَنَا فِينَا وَفِيهِمْ مَخَارِيقٌ بِأَيْدِي لَاعِبِينَا


    وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْبَرْقُ مَصْعُ مَلَكَ ، وَالْمَصْعُ: الضَّرْبُ وَالتَّحْرِيكُ .

    الثَّانِي: أَنَّ الْبَرْقَ: الْمَاءُ ، قَالَهُ أَبُو الْجِلْدِ ، وَحَكَى ابْنُ فَارِسٍ أَنَّ الْبَرْقَ: تَلَأْلُؤُ الْمَاءِ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ نَارٌ تَتَقَدَّحُ مِنِ اصْطِكَاكِ أَجْرَامِ السَّحَابِ لِسَيْرِهِ ، وَضَرْبِ بَعْضِهِ لِبَعْضٍ ، حَكَاهُ شَيْخُنَا .

    وَالصَّوَاعِقُ: جُمْعُ صَاعِقَةٍ ، وَهِيَ صَوْتٌ شَدِيدٌ مِنْ صَوْتِ الرَّعْدِ يَقَعُ مَعَهُ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ تُحْرِقُ مَا تُصِيبُهُ ، وَرُوِيَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: أَنَّ الْمَلِكَ الَّذِي يَسُوقُ السَّحَابَ ، إِذَا اشْتَدَّ غَضَبُهُ ، طَارَ مِنْ فِيهِ النَّارُ ، فَهِيَ الصَّوَاعِقُ . وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ نَارٌ تَنْقَدِحُ مِنِ اصْطِكَاكِ أَجْرَامِ السَّحَابِ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ صَاعِقَةً ، لِأَنَّهَا إِذَا أَصَابَتْ قَتَلَتْ ، يُقَالُ: صَعَقَتْهُمْ أَيْ: قَتَلَتْهُمْ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ .

    فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ ، فَهُوَ جَامِعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [ الطَّلَاقُ: 12 ] قَالَهُ مُجَاهِدٌ .

    وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِحَاطَةَ: الْإِهْلَاكُ ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [ الْكَهْفِ: 42 ] .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَفْعَلُونَ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ يَكَادُ بِمَعْنَى: يُقَارِبُ ، وَهِيَ كَلِمَةٌ إِذَا أُثْبِتَتِ انْتَفَى الْفِعْلُ ، وَإِذَا نُفِيَتْ ثَبَتَ الْفِعْلُ . وَسُئِلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِي نَ فَقِيلَ لَهُ .


    أَنَحْوِيُّ هَذَا الْعَصْرِ مَا هِي كَلِمَةٌ جَرَتْ بِلِسَانَيَّ جُرْهُمٍ وَثَمُودَ

    إِذَا نَفَيْتَ وَاللَّهُ يَشْهَدُ أَثْبَتَتْ
    وَإِنْ أَثْبَتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ


    [ ص: 45 ] وَيَشْهَدُ لِلْإِثْبَاتِ عِنْدَ النَّفْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [ النِّسَاءِ: 87 ] وَقَوْلُهُ: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [ النُّورِ: 40 ] وَمِثْلُهُ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [ الزُّخْرُفُ: 52 ] وَيَشْهَدُ لِلنَّفْيِ عِنْدَ الْإِثْبَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَكَادُ الْبَرْقُ [ الْبَقَرَةِ: 20 ] وَ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ [ النُّورِ: 43 ] وَ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ [ النُّورِ: 35 ] . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَادَ: بِمَعْنَى هَمَّ وَلَمْ يَفْعَلْ . وَقَدْ جَاءَتْ بِمَعْنَى [الْإِثْبَاتِ ] قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:


    وَلَوْ أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ تَعَرَّضَتْ لِعَيْنَيْهِ مَيٌّ سَافِرًا كَادَ يَبْرَقُ


    أَيْ: لَوْ تَعَرَّضَتْ لَهُ لَبَرَقَ ، أَيْ: دَهِشَ وَتَحَيَّرَ .

    قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي الْمَنْفِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْإِثْبَاتِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ:


    إِذَا غَيَّرَ النَّأْيُ الْمُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ رَسِيسَ الْهَوَى مِنْ حُبِّ مِيَّةَ يَبْرَحُ


    أَرَادَ: لَمْ يَبْرَحْ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ .

    قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْيَاءِ ، وَسُكُونِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ . وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ ، وَأَبَانُ بْنُ يَزِيدَ كِلَاهُمَا عَنْ عَاصِمٍ ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ ، وَكَسْرِ الطَّاءِ مُخَفَّفًا . وَرَوَاهُ الْجَعْفِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْخَاءِ ، وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ كَذَلِكَ ، إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الْيَاءَ . وَعَنْهُ: فَتْحُ الْيَاءِ وَالْخَاءِ مَعَ كَسْرِ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ .

    وَمَعْنَى "يَخْطِفُ" يَسْتَلِبُ وَأَصْلُ الِاخْتِطَافِ: الِاسْتِلَابُ ، وَيُقَالُ لِمَا يَخْرُجُ بِهِ الدَّلْوُ: خُطَّافٌ ، لِأَنَّهُ يَخْتَطِفُ مَا عُلِّقَ بِهِ . قَالَ النَّابِغَةُ:


    خَطَاطِيفُ حُجْنٌ فِي حِبَالٍ مَتِنَةٍ تَمُدُّ بِهَا أَيْدٍ إِلَيْكَ نَوَازِعُ


    وَالْحَجْنُ: الْمُتَعَقِّفَة ُ ، وَجَمَلٌ خَيْطَفٍ: سَرِيعُ الْمَرِّ ، وَتِلْكَ السُّرْعَةُ الْخَطْفَى .
    [ ص: 46 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ .

    قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ: ضَاءَ الشَّيْءَ يَضُوءُ ، وَأَضَاءَ يُضِيءُ ، وَهَذِهِ اللُّغَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْمُخْتَارَةُ .

    فَصْلٌ

    وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مَا الَّذِي يُشْبِهُ الرَّعْدَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ التَّخْوِيفُ الَّذِي فِي الْقُرْآَنِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا يَخَافُونَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ إِذَا عَلِمَ النَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُون َ بِنِفَاقِهِمْ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَا يَخَافُونَهُ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى الْجِهَادِ وَقِتَالِ مَنْ يُبْطِنُونَ مَوَدَّتَهُ ، ذَكَرَهُ شَيْخُنَا .

    وَاخْتَلَفُوا مَا الَّذِي يُشْبِهُ الْبَرْقَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ مِنْ مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ وَحِكَمِهِ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا يُضِيءُ لَهُمْ مِنْ نُورِ إِسْلَامِهِمُ الَّذِي يُظْهِرُونَهُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَثَلٌ لِمَا يَنَالُونَهُ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ ، فَإِنَّهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا ذَخَرَ لَهُمْ فِي الْأَجَلِ كَالْبَرْقِ .

    وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَفِرُّونَ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآَنِ لِئَلَّا يَأْمُرُهُمْ بِالْجِهَادِ مُخَالَفَةَ الْمَوْتِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَثَلٌ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْقُرْآَنِ كَرَاهِيَةً لَهُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

    وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: كُلَّمَا أَتَاهُمُ الْقُرْآنُ بِمَا يُحِبُّونَ تَابَعُوهُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ .

    [ ص: 47 ] وَالثَّانِي: أَنَّ إِضَاءَةَ الْبَرْقِ حُصُولُ مَا يَرْجُونَهُ مِنْ سَلَامَةِ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، فَيُسْرِعُونَ إِلَى مُتَابَعَتِهِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَكَلُّمُهُمْ بِالْإِسْلَامِ ، وَمَشْيُهُمْ فِيهِ ، اهْتِدَاؤُهُمْ بِهِ ، فَإِذَا تَرَكُوا ذَلِكَ وَقَفُوا فِي ضَلَالَةٍ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّ إِضَاءَتَهُ لَهُمْ: تَرْكُهُمْ بِلَا ابْتِلَاءٍ وَلَا امْتِحَانٍ ، وَمَشْيُهُمْ فِيهِ: إِقَامَتُهُمْ عَلَى الْمُسَالَمَةِ بِإِظْهَارِ مَا يُظْهِرُونَهُ . ذَكَرَهُ شَيْخُنَا .

    فَأَمَّا
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ فَمَنْ قَالَ: إِضَاءَتُهُ: إِتْيَانُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا يُحِبُّونَ ، قَالَ: إِظْلَامُهُ: إِتْيَانُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَ . وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِالْعَكْسِ .

    وَمَعْنَى (قَامُوا): وَقَفُوا .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ: لَوْ شَاءَ لَأَذْهَبَ أَسْمَاعَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عُقُوبَةً لَهُمْ . قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ أَرْبَعُ آيَاتٍ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَآيَتَانِ فِي نَعْتِ الْكَافِرِينَ ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ فِي نَعْتِ الْمُنَافِقِينَ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .

    اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ عُنِيَ بِهَذَا الْخِطَابِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِين َ وَالْيَهُودِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَ"النَّاسُ" اسْمٌ لِلْحَيَوَانِ الْآَدَمِيِّ . وَسُمُّوا بِذَلِكَ لِتَحَرُّكِهِمْ فِي مُرَادَاتِهِمْ . وَالنَّوْسُ: الْحَرَكَةُ . وَقِيلَ: سُمُّوا أُنَاسًا لِمَا يَعْتَرِيهِمْ مِنَ النِّسْيَانِ . [ ص: 48 ] وَفِي الْمُرَادِ بِالْعِبَادَةِ هَاهُنَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: التَّوْحِيدُ ، . وَالثَّانِي: الطَّاعَةُ ، رُوِيَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالْخَلْقُ: وَالْإِيجَادُ . وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَنْ قَبْلَهُمْ ، لِأَنَّهُ أَبْلُغُ فِي التَّذْكِيرِ ، وَأَقْطَعُ لِلْجَحْدِ ، وَأَحْوَطُ فِي الْحُجَّةِ . وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَ مَنْ قَبْلَهُمْ ، لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِهِمْ مِنْ إِثَابَةِ مُطِيعٍ ، وَمُعَاقِبَةِ عَاصٍ .

    وَفِي "لَعَلَّ" قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى كَيْ ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ:


    وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مُوَثِّقِ

    فَلْمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ
    كَلَمْعِ سَرَابٍ فِي الْمَلَا مُتَأَلِّقِ


    يُرِيدُ: لِكَيْ نَكُفَّ ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ مُقَاتِلٌ وَقُطْرُبٌ وَابْنُ كَيْسَانَ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى التَّرَجِّي ، وَمَعْنَاهَا: اعْبُدُوا اللَّهَ رَاجِينَ لِلتَّقْوَى ، وَلِأَنْ تَقُوا أَنْفُسَكُمْ بِالْعِبَادَةِ - عَذَابُ رَبِّكُمْ . وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الشِّرْكَ ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ النَّارَ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَعَلَّكُمْ تُطِيعُونَ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا .

    إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْأَرْضُ أَرْضًا لِسِعَتِهَا ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرِضَتِ الْقُرْحَةُ: إِذَا اتَّسَعَتْ .

    وَقِيلَ: لِانْحِطَاطِهَا عَنِ السَّمَاءِ ، وَكُلُّ مَا سَفَلَ: أَرْضٌ ، وَقِيلَ: لِأَنَّ النَّاسَ يَرُضُّونَهَا بِأَقْدَامِهِمْ ، وَسُمِّيَتِ السَّمَاءُ سَمَاءً لِعُلُوِّهَا . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَكُلُّ مَا عَلَا عَلَى الْأَرْضِ فَاسْمُهُ بِنَاءً ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبِنَاءُ هَاهُنَا بِمَعْنَى السَّقْفِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ يَعْنِي مِنَ السَّحَابِ .

    مَاءً يَعْنِي: الْمَطَرَ .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (11)

    صــ49 إلى صــ 54

    فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا يَعْنِي: شُرَكَاءَ ، أَمْثَالًا . يُقَالُ: هَذَا نِدُّ هَذَا ، وَنِدِيدُهُ . وَفِيمَا أُرِيدَ بِالْأَنْدَادِ هَاهُنَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: الْأَصْنَامُ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ ، . وَالثَّانِي: رِجَالٌ كَانُوا يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

    فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهُمَا: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاءَ ، وَأَنْزَلَ الْمَاءَ ، وَفَعَلَ مَا شَرَحَهُ فِي هَذِهِ الْآَيَاتِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ .

    الثَّانِي: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ، وَهُوَ يَخْرُجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ .

    وَالثَّالِثُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْعِلْمُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْعَقْلِ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ .

    وَالْخَامِسُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلٍ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ سِوَاهُ . ذَكَرَهُ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ .

    وَالسَّادِسُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا حِجَارَةٌ ، سَمِعْتُهُ مِنَ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ الْخَشَّابِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ .

    سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا بِهِ مُحَمَّدٌ لَا يُشْبِهُ الْوَحْيَ ، وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٍ . و"إِنَّ" هَاهُنَا لِغَيْرِ شَكٍّ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُمْ مُرْتَابُونَ ، وَلَكِنَّ هَذَا عَادَةُ الْعَرَبِ ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِابْنِهِ: إِنْ كُنْتَ ابْنِي فَأَطِعْنِي . وَقِيلَ: إِنَّهَا هَاهُنَا بِمَعْنَى إِذْ ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ الْبَقَرَةِ: 278 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: السُّورَةُ تُهْمَزُ وَلَا تُهْمَزُ ، فَمَنْ هَمَزَهَا جَعَلَهَا مِنْ أَسْأَرَتْ ، يَعْنِي [أَفْضَلَتْ ] لِأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الْقُرْآَنِ ، وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْهَا جَعَلَهَا مِنْ سُورَةِ الْبِنَاءِ ، أَيْ: مَنْزِلَةٌ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ . قَالَ النَّابِغَةُ فِي النُّعْمَانِ:


    أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً تَرَى كُلَّ مَلِكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ


    وَالسُّورَةُ فِي هَذَا الْبَيْتِ: سُورَةُ الْمَجْدِ ، وَهِيَ مُسْتَعَارَةٌ مِنْ سُورَةِ الْبِنَاءِ . وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ السُّورَةُ سُورَةً لِأَنَّهُ يَرْتَفِعُ فِيهَا مِنْ مَنْزِلَةٍ إِلَى مَنْزِلَةٍ ، مِثْلُ سُورَةِ الْبِنَاءِ . مَعْنَى: أَعْطَاكَ سُورَةً ، أَيْ: مَنْزِلَةَ شَرَفٍ ارْتَفَعَتْ إِلَيْهَا عَنْ مَنَازِلِ الْمُلُوكِ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُمِّيَتْ سُورَةً لِشَرَفِهَا ، تَقُولُ الْعَرَبُ: لَهُ سُورَةٌ فِي الْمَجْدِ ، أَيْ: شَرَفٌ وَارْتِفَاعٌ ، أَوْ لِأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الْقُرْآَنِ مِنْ قَوْلِكَ: أَسَأَرْتُ سُؤْرًا ، أَيْ: أَبْقَيْتُ بَقِيَّةً ، وَفِي هَاءِ "مِثْلِهِ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى الْقُرْآَنِ الْمُنَزَّلِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَالْفَرَّاءُ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْعَبْدِ الْأُمِّيِّ ، ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ ، وَالزَّجَّاجُ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ . فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: تَكُونُ "مِنْ" لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: تَكُونُ زَائِدَةً .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ .

    فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: اسْتَعِينُوا مِنَ الْمَعُونَةِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَالْفَرَّاءُ . وَالثَّانِي: اسْتُغِيثُوا مِنَ الِاسْتِغَاثَةِ ، وَأَنْشَدُوا:


    فَلَمَّا الْتَقَتْ فُرْسَانُنَا وَرِجَالُهُمْ دَعَوْا يَا لَ كَعْبٍ وَاعْتَزَيْنَا لِعَامِرِ


    وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ: [ ص: 51 ] وَفِي شُهَدَائِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ آَلِهَتُهُمْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلٌ ، وَالْفَرَّاءُ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَسُمُّوا شُهَدَاءَ ، لِأَنَّهُمْ يُشْهِدُونَهُمْ ، وَيُحْضِرُونَهُ مْ . وَقَالَ غَيْرُهُ: لِأَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ لِيَشْهَدُوا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَعْوَانُهُمْ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ: فَأْتُوا بِنَاسٍ يَشْهَدُونَ أَنَّ مَا تَأْتُونَ بِهِ مِثْلَ الْقُرْآَنِ ، رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَيْ: فِي قَوْلِكُمْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فِي هَذِهِ الْآَيَةِ مُضْمَرٌ مُقَدَّرٌ ، يَقْتَضِي الْكَلَامُ تَقْدِيمَهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِمَا فِي الْآَيَةِ الْمَاضِيَةِ مِنَ التَّحَدِّي ، فَسَكَتُوا عَنِ الْإِجَابَةِ; قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ تَفْعَلُوا أَعْظَمُ دَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ، وَلَمْ يَفْعَلُوا .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ .

    وَالْوَقُودُ: بِفَتْحِ الْوَاوِ: الْحَطَبُ ، وَبِضَمِّهَا: التَّوَقُّدُ ، كَالْوَضُوءِ بِالْفَتْحِ: الْمَاءُ ، وَبِالضَّمِّ: الْمَصْدَرُ ، وَهُوَ: اسْمُ حَرَكَاتِ الْمُتَوَضِّئِ . وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: وَقُودُهَا ، بِضَمِّ الْوَاوِ ، وَالِاخْتِيَارُ الْفَتْحُ . وَالنَّاسُ أَوْقَدُوا فِيهَا بِطَرِيقِ الْعَذَابِ ، وَالْحِجَارَةِ ، لِبَيَانِ قُوَّتِهَا وَشِدَّتِهَا ، إِذْ هِيَ مُحْرِقَةٌ لِلْحِجَارَةِ . وَفِي هَذِهِ الْحِجَارَةِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَصْنَامُهُمُ الَّتِي عَبَدُوهَا ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ ، وَهِيَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ حَرًّا ، إِذَا أُحْمِيَتْ يُعَذَّبُونَ بِهَا . وَمَعْنَى "أُعِدَّتْ": هُيِّئَتْ . وَإِنَّمَا خَوْفُهُمْ بِالنَّارِ إِذَا لَمْ يَأْتُوا بِمِثْلِ الْقُرْآَنِ ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَذَّبُوهُ ، وَعَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، ثَبَتَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ ، وَصَارَ الْخِلَافُ عِنَادًا ، وَجَزَاءُ الْمُعَانِدِينَ النَّارُ .

    [ ص: 52 ]
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا .

    الْبِشَارَةُ: أَوَّلُ خَبَرٍ يَرِدُ عَلَى الْإِنْسَانِ ، وَسُمِّيَ بِشَارَةً ، لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي بَشْرَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا ، أَثَرُ الْمَسَرَّةِ وَالِانْبِسَاطِ ، وَإِنَّ شَرًّا ، أَثَرُ الْانْجِمَاعِ وَالْغَمِّ ، وَالْأَغْلَبُ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ تَكُونَ الْبِشَارَةُ بِالْخَيْرِ ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [ النِّسَاءِ: 138 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .

    يَشْمَلُ كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ قَالَ: أَخْلِصُوا الْأَعْمَالَ .

    وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَقَامُوا الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ . فَأَمَّا الْجَنَّاتُ ، فَجَمْعُ جَنَّةٍ . وَسَمِّيَتِ الْجَنَّةُ جَنَّةً ، لِاسْتِتَارِ أَرْضِهَا بِأَشْجَارِهَا ، وَسُمِّيَ الْجِنُّ جِنًّا ، لِاسْتِتَارِهِم ْ ، وَالْجَنِينُ مِنْ ذَلِكَ ، وَالدِّرْعُ جَنَّةٌ ، وَجَنَّ اللَّيْلُ: إِذَا سَتَرَ ، وَذَكَرَ عَنِ الْمُفَضَّلِ أَنَّ الْجَنَّةَ: كُلُّ بُسْتَانٍ فِيهِ نَخْلٌ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ نَبْتٍ كَثَفَ وَكَثُرَ وَسَتَرَ بَعْضُهُ بَعْضًا ، فَهُوَ جَنَّةٌ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أَيْ: مِنْ تَحْتِ شَجَرِهَا لَا مِنْ تَحْتِ أَرْضِهَا .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

    أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: هَذَا الَّذِي طُعِمْنَا مِنْ قَبْلُ ، فَرِزْقُ الْغَدَاةِ كَرِزْقِ الْعَشِيِّ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ .

    وَالثَّانِي: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّ ثَمَرَ الْجَنَّةِ إِذَا جُنِيَ خَلَفَهُ مِثْلُهُ ، فَإِذَا رَأَوْا مَا خَلَفَ الْجَنَى ، اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ قَالَهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ .
    [ ص: 53 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا .

    فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُتَشَابِهٌ فِي الْمَنْظَرِ وَاللَّوْنِ ، مُخْتَلِفٌ فِي الطَّعْمِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلٌ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَشَابِهٌ فِي جَوْدَتِهِ ، لَا رُدِئَ فِيهِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُشْبِهُ ثِمَارَ الدُّنْيَا فِي الْخِلْقَةِ وَالِاسْمِ ، غَيْرَ أَنَّهُ أَحْسَنُ فِي الْمَنْظَرِ وَالطَّعْمِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَابْنُ زَيْدٍ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا وَجْهُ الِامْتِنَانِ بِمُتَشَابِهِهِ ، وَكُلَّمَا تَنَوَّعَتِ الْمَطَاعِمُ وَاخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُا كَانَ أَحْسَنَ؟! فَالْجَوَابُ: أَنَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُتَشَابِهُ الْمَنْظَرِ مُخْتَلِفُ الطَّعْمِ ، كَانَ أَغْرَبَ عِنْدَ الْخُلُقِ وَأَحْسَنَ ، فَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ تُفَّاحَةً فِيهَا طَعْمُ سَائِرِ الْفَاكِهَةِ ، كَانَ نِهَايَةً فِي الْعَجَبِ . وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُتَشَابِهٌ فِي الْجَوْدَةِ; جَازَ اخْتِلَافُهُ فِي الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ . وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يُشْبِهُ صُورَةَ ثِمَارِ الدُّنْيَا مَعَ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي; كَانَ أَطْرَفَ وَأَعْجَبَ وَكُلُّ هَذِهِ مَطَالِبٌ مُؤَثِّرَةٌ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ أَيْ: فِي الْخُلُقِ ، فَإِنَّهُنَّ لَا يَحِضْنَ وَلَا يَبُلْنَ ، وَلَا يَأْتِينَ الْخَلَاءَ . وَفِي الْخُلُقِ ، فَإِنَّهُنَّ لَا يَحْسُدْنَ ، وَيَغِرْنَ ، وَلَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ .

    قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَقِيَّةٌ عَنِ الْقَذَى وَالْأَذَى . قَالَ الزَّجَّاجُ: و"مُطَهَّرَةٌ" أَبْلَغُ مِنْ طَاهِرَةٍ ، لِأَنَّهُ لِلتَّكْثِيرِ . وَالْخُلُودُ: الْبَقَاءُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لَهُ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا .

    فِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ الْحَجُّ 73 وَنَزَلَ قَوْلُهُ: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ [ ص: 54 ] اتَّخَذَتْ بَيْتًا [ الْعَنْكَبُوتُ: 41 ] . قَالَتِ الْيَهُودَ: وَمَا هَذَا مِنَ الْأَمْثَالِ؟! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحُسْنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ ، وَالْفَرَّاءُ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَي ْنِ ، وَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [ الْبَقَرَةِ: 17 ] وَقَوْلُهُ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [ الْبَقَرَةِ: 19 ] قَالَ الْمُنَافِقُونَ : اللَّهُ أَجْلُّ وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يَضْرِبَ هَذِهِ الْأَمْثَالَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ ، وَمُجَاهِدٍ نَحْوُهُ .

    وَالْحَيَاءُ بِالْمَدِّ: الِانْقِبَاضُ وَالِاحْتِشَامُ ، غَيْرَ أَنَّ صِفَاتِ الْحَقِّ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَطَّلِعُ لَهَا عَلَى مَاهِيَةٍ ، وَإِنَّمَا تَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ" وَقِيلَ: مَعْنَى لَا يَسْتَحْيِي: لَا يَتْرُكُ . وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ أَنَّ مَعْنَى لَا يَسْتَحْيِي: لَا يَخْشَى . وَمَثَلُهُ: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [ الْأَحْزَابِ: 37 ] أَيْ: تَسْتَحْيِي مِنْهُ . فَالِاسْتِحْيَا ءُ وَالْخَشْيَةُ يَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآَخَرِ . وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: لَا يَسْتَحِي بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ لُغَةٌ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا .

    قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْ يَذْكُرَ شَبَهًا ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ الْمَثَلِ أَنْ يَبِينَ لِلْمَضْرُوبِ لَهُ الْأَمْرُ الَّذِي ضَرَبَ لِأَجَلِهِ ، فَيَنْجَلِي غَامِضُهُ .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (12)

    صــ55 إلى صــ 60

    قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا بَعُوضَةً .

    مَا زَائِدَةٌ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ وَالْبَصْرِيِّي نَ . وَأَنْشَدُوا لِلنَّابِغَةِ:


    [قَالَتْ ]: أَلَا لَيْتَمَا هَذَا الْحَمَامُ لَنَا [إِلَى حَمَامَتِنَا أَوْ نِصْفِهِ فَقَدَ ]


    وَذَكَر أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْمَعْنَى مَا بَيْنَ بَعُوضَةٍ إِلَى مَا فَوْقَهَا ، ثُمَّ حَذَفَ ذِكْرَ "بَيْنَ" و"إِلَى" إِذْ كَانَ فِي نَصْبِ الْبَعُوضَةِ ، وَدُخُولِ الْفَاءِ فِي "مَا" الثَّانِيَةِ; دَلَالَةٌ عَلَيْهِمَا ، كَمَا قَالَتْ [ ص: 55 ] الْعَرَبُ: مُطِرْنَا مَازِبَالَةَ فَالثَّعْلَبِيّ َةُ ، وَلَهُ عِشْرُونَ مَا نَاقَةً فَجَمَلًا ، وَهِيَ أَحْسَنُ النَّاسِ مَا قَرَنَا فَقَدَّمَا [يَعْنُونَ: مَا بَيْنَ قَرْنِهَا إِلَى قَدَمِهَا ] . وَقَالَ غَيْرُهُ: نَصَبَ الْبَعُوضَةَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمَثَلِ .

    وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ: "بَعُوضَةٌ" بِالرَّفْعِ ، عَلَى إِضْمَارِ هُوَ . وَالْبَعُوضَةُ: صَفِيرَةُ الْبَقِّ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا فَوْقَهَا فِيهِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: فَمَا فَوْقَهَا فِي الْكِبَرِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ ، وَالْفَرَّاءُ .

    وَالثَّانِي: فَمَا فَوْقَهَا فِي الصِّغَرِ ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: فَمَا دُونَهَا ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ .

    قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَقَدْ يَكُونُ الْفَوْقُ بِمَعْنَى: دُونَ ، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ ، وَمِثْلُهُ: الْجَوْنُ; يُقَالُ: لِلْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ . وَالصَّرِيمِ: الصُّبْحُ ، وَاللَّيْلُ . وَالسُّدْفَةُ: الظُّلْمَةُ ، وَالضَّوْءُ . وَالْحُلَلُ: الصَّغِيرُ ، وَالْكَبِيرُ . وَالنَّاهِلُ: الْعَطْشَانُ ، وَالرَّيَّانُ . وَالْمَاثِلُ: الْقَائِمُ ، وَاللَّاطِئُ بِالْأَرْضِ وَالصَّارِخُ: الْمُغِيثُ ، وَالْمُسْتَغِيث ُ . وَالْهَاجِدُ: الْمُصَلِّي بِاللَّيْلِ ، وَالنَّائِمُ . وَالرَّهْوَةُ: الِارْتِفَاعُ ، وَالِانْحِدَارُ . وَالتَّلْعَةُ: مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ ، وَمَا انْهَبَطَ مِنَ الْأَرْضِ . وَالظَّنُّ: يَقِينٌ ، وَشَكٌّ . وَالْأَقْرَاءُ: الْحَيْضُ ، وَالِاطِّهَارُ . وَالْمُفَرَّعُ فِي الْجَبَلِ: الْمِصْعَدُ ، وَالْمُنْحَدَرُ . وَالْوَرَاءُ: خَلْفًا ، وَقَدَّامًا . وَأَسْرَرْتُ الشَّيْءَ: أَخْفَيْتُهُ ، وَأَعْلَنْتُهُ . وَأَخْفَيْتُ الشَّيْءَ: أَظْهَرْتُهُ وَكَتَمَتْهُ . وَرَتَوْتُ الشَّيْءَ: شَدَدْتُهُ ، وَأَرْخَيْتُهُ . وَشَعَّبْتُ الشَّيْءَ: جَمَعْتُهُ ، وَفَرَّقْتُهُ . وَبِعْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى: بِعْتُهُ ، وَاشْتَرَيْتُهُ . وَشَرَيْتُ الشَّيْءَ: اشْتَرَيْتُهُ ، وَبِعْتُهُ . وَالْحَيُّ خُلُوفٌ: غُيَّبٌ ، وَمُخْتَلِفُونَ .
    وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا هَلْ هُوَ مِنْ تَمَامِ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا [ الْبَقَرَةِ: 26 ] أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .

    [ ص: 56 ] أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ . قَالَ الْفَرَّاءُ: كَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِمَثَلٍ لَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ ، يَضِلُّ بِهِ هَذَا ، وَيَهْدِي بِهِ هَذَا؟! [ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ وَالْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ ] فَقَالَ اللَّهُ: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ [ الْبَقَرَةِ: 26 ] .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ .

    فَأَمَّا الْفِسْقُ; فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ ، يُقَالُ: فَسَقَتِ الرُّطْبَةُ: إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا . فَالْفَاسِقُ: الْخَارِجُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ .

    وَفِي الْمُرَادِ بِالْفَاسِقِينَ هَاهُنَا ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْيَهُودُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: الْمُنَافِقُونَ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّالِثُ: جَمِيعُ الْكُفَّارِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ .

    هَذِهِ صِفَةٌ لِلْفَاسِقِينَ ، وَقَدْ سَبَقَتْ فِيهِمُ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ . وَالنَّقْضُ: ضِدُّ الْإِبْرَامِ ، وَمَعْنَاهُ: حِلُّ الشَّيْءِ بَعْدَ عَقْدِهِ . وَيَنْصَرِفُ النَّقْضُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ ، فَنَقْضُ الْبِنَاءِ: تَفْرِيقُ جَمْعِهِ بَعْدَ إِحْكَامِهِ . وَنَقُضُ الْعَهْدِ: الْإِعْرَاضُ عَنِ الْمَقَامِ عَلَى أَحْكَامِهِ .

    وَفِي هَذَا الْعَهْدِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَا عَهِدَ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْوَصِيَّةُ بِاتِّبَاعِهِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا عَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي الْقُرْآَنِ ، فَأَقَرُّوا بِهِ ثُمَّ كَفَرُوا ، قَالَهُ السُّدِّيُّ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آَدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .

    وَنَحْنُ وَإِنْ لَمْ نَذْكُرْ ذَلِكَ الْعَهْدَ فَقَدْ ثَبَتَ بِخَبَرِ الصَّادِقِ ، فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ .

    وَفِي "مِنْ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا زَائِدَةٌ ، . وَالثَّانِي: أَنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ، كَأَنَّهُ قَالَ: ابْتِدَاءُ نَقْضِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ . وَفِي هَاءِ "مِيثَاقِهِ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، . وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْعَهْدِ ، فَتَقْدِيرُهُ: بَعْدَ إِحْكَامِ التَّوْفِيقِ فِيهِ .

    [ ص: 57 ] وَفِي: الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُوصِلَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: الرَّحِمُ وَالْقَرَابَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَطَعُوهُ بِالتَّكْذِيبِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ . وَالثَّالِثُ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ ، وَأَنْ لَا يُفَرَّقَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ، فَآَمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

    وَفِي فَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ اسْتِدْعَاؤُهُم ُ النَّاسَ إِلَى الْكُفْرِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْعَمَلُ بِالْمَعَاصِي ، قَالَهُ السُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَطْعُهُمُ الطَّرِيقَ عَلَى مَنْ جَاءَ مُهَاجِرًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لِيَمْنَعُوا النَّاسَ مِنَ الْإِسْلَامِ .

    وَالْخُسْرَانُ فِي اللُّغَةِ: النُّقْصَانُ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ فِي كَيْفَ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى التَّعَجُّبِ ، وَهَذَا التَّعَجُّبُ لِلْمُؤْمِنِينَ ، أَيِ: اعْجَبُوا مِنْ هَؤُلَاءِ كَيْفَ يَكْفُرُونَ ، وَقَدْ ثَبَتَتْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ خَارِجٌ مَخْرَجَ التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ . تَقْدِيرُهُ: وَيَحْكُمُ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ قَالَ الْعَجَّاجُ:


    أَطْرَبَا وَأَنْتَ قَنَسْرِي [وَالدَّهْرُ بِالْإِنْسَانِ دَوَّارِي ]


    أَرَادَ: أَتَطْرَبُ وَأَنْتَ شَيْخٌ كَبِيرٌ؟! قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا .

    قَالَ الْفَرَّاءُ أَيْ: وَقَدْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا . وَمِثْلُهُ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [ النِّسَاءِ: 90 ] أَيْ: قَدْ حَصِرَتْ . وَمِثْلُهُ: وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ [ يُوسُفَ: 26 ] أَيْ: فَقَدْ كَذَبَتْ ، وَلَوْلَا إِضْمَارُ "قَدْ" لَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ .

    وَفِي الْحَيَاتَيْنِ ، وَالْمَوْتَتَيْ نِ أَقْوَالٌ . أَصَحُّهَا: أَنَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى ، كَوْنُهُمْ نُطَفًا وَعُلَقًا [ ص: 58 ] وَمُضَغًا ، فَأَحْيَاهُمْ فِي الْأَرْحَامِ ، ثُمَّ يُمِيتُهُمْ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا ، ثُمَّ يُحْيِيهِمْ لِلْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُقَاتِلٍ ، وَالْفَرَّاءِ ، وَثَعْلَبٍ ، وَالزَّجَّاجِ ، وَابْنِ قُتَيْبَةَ ، وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا أَيْ: لِأَجْلِكُمْ ، فَبَعْضُهُ لِلِانْتِفَاعِ ، وَبَعْضُهُ لِلِاعْتِبَارِ .

    ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ أَيْ: عَمَدَ إِلَى خُلُقِهَا ، وَالسَّمَاءِ: لَفْظُهَا لَفْظُ الْوَاحِدِ ، وَمَعْنَاهَا ، مَعْنَى الْجَمْعِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَسَوَّاهُنَّ .

    وَأَيُّهُمَا أَسْبَقُ فِي الْخَلْقِ: الْأَرْضُ ، أَمِ السَّمَاءُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: الْأَرْضُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي: السَّمَاءُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

    وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَكْمِيلِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَدَأَ بِخَلْقِ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ فِي يَوْمَيْنِ ، وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي يَوْمَيْنِ . وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: جَمَعَ خَلْقَ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ فِي يَوْمَيْنِ .

    وَالْعَلِيمُ: جَاءَ عَلَى بِنَاءِ: فَعِيلٍ ، لِلْمُبَالَغَةِ فِي وَصْفِهِ بِكَمَالِ الْعِلْمِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ .

    كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولُ: "إِذْ" مُلْغَاةٌ ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَقَالَ رَبُّكَ ، وَتَابَعَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَعَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا الزَّجَّاجُ وَابْنُ الْقَاسِمِ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِذْ مَعْنَاهَا: الْوَقْتُ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: ابْتِدَاءُ خَلْقِكُمْ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ .

    وَالْمَلَائِكَة ُ: مِنَ الْأُلُوكِ ، وَهِيَ الرِّسَالَةُ ، قَالَ لَبِيَدُ:


    وَغُلَامٌ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلَ


    وَوَاحِدُ الْمَلَائِكَةِ: مَلَكٌ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ: مَلْأَكُ . وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: [ ص: 59 ]
    فَلَسْتُ لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ تَنْزِلُ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ


    قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَمَعْنَى مَلْأَكِ: صَاحِبُ رِسَالَةٍ ، يُقَالُ: مَأْلَكَةٌ وَمَأْلُكَةٌ وَمَلْأَكَةٌ . وَمَآَلُكٌ: جَمْعُ مَأْلُكَةٍ . قَالَ الشَّاعِرُ:


    أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلُكًا أَنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي


    وَفِي هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ حِينَ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ ، ذَكَرَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَنُقِلَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ آَدَمَ خَلْقٌ ، فَأَفْسَدُوا ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِبْلِيسَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَأَهْلَكُوهُمْ .

    وَاخْتَلَفُوا مَا الْمَقْصُودُ فِي إِخْبَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمَلَائِكَةَ بِخَلْقِ آَدَمَ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ كِبْرًا ، فَأَحَبَّ أَنْ يُطْلِعَ الْمَلَائِكَةَ عَلَيْهِ ، وَأَنْ يُظْهِرَ مَا سَبَقَ عَلَيْهِ فِي عِلْمِهِ ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالسُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَ طَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ النَّارَ خَافَتِ الْمَلَائِكَةُ ، فَقَالُوا: رَبُّنَا لِمَنْ خَلَقْتَ هَذِهِ؟ قَالَ: لِمَنْ عَصَانِي ، فَخَافُوا وُجُودَ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِوُجُودِ خَلْقٍ سِوَاهُمْ ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [ الْبَقَرَةِ: 30 ] قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ أَرَادَ إِظْهَارَ عَجْزِهِمْ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِهِ ، فَأَخْبَرَهُمْ حَتَّى قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا؟ فَأَجَابَهُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ .

    وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ أَرَادَ تَعْظِيمَ آَدَمَ بِذِكْرِهِ بِالْخِلَافَةِ قَبْلَ وُجُودِهِ ، لِيَكُونُوا مُعَظِّمِينَ لَهُ إِنْ أَوْجَدَهُ . [ ص: 60 ] وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ أَرَادَ إِعْلَامَهُمْ بِأَنَّهُ خَلَقَهُ لِيُسْكِنَهُ الْأَرْضَ ، وَإِنْ كَانَتِ ابْتِدَاءَ خَلْقِهِ فِي السَّمَاءِ .

    وَالْخَلِيفَةُ: هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَ غَيْرِهِ ، يُقَالُ: هَذَا خَلْفُ فُلَانٍ وَخَلِيفَتُهُ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَالْأَصْلُ فِي الْخَلِيفَةِ خَلِيفٌ ، بِغَيْرِ هَاءٍ ، فَدَخَلَتِ الْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي مَدْحِهِ بِهَذَا الْوَصْفِ ، كَمَا قَالُوا: عَلَّامَةٌ وَنَسَّابَةٌ وَرَاوِيَةٌ . وَفِي مَعْنَى خِلَافَةِ آَدَمَ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَلِيفَةٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِقَامَةِ شَرْعِهِ ، وَدَلَائِلِ تَوْحِيدِهِ ، وَالْحُكْمِ فِي خَلْقِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَلَفُ مَنْ سَلَفَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَهُ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (13)

    صــ61 إلى صــ 66

    قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا .

    فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْأَلِفِ الِاسْتِفْهَامُ ، دَخَلَ عَلَى مَعْنَى الْعِلْمِ لِيَقَعَ بِهِ تَحْقِيقٌ قَالَ جَرِيرٌ:


    أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ


    مَعْنَاهُ: أَنْتُمْ خَيْرُ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوهُ لِاسْتِعْلَامِ وَجْهِ الْحِكْمَةِ ، لَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ . ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ حَالِ أَنْفُسِهِمْ ، فَتَقْدِيرُهُ: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أَمْ لَا؟

    وَهَلْ عَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ بِتَوْقِيفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، أَمْ قَاسُوا عَلَى حَالِ مَنْ قَبْلَهُمْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِتَوْقِيفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ زَيْدٍ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ: أَنَّهُمْ قَالُوا: رَبُّنَا وَمَا يَكُونُ [ ص: 61 ] ذَلِكَ الْخَلِيفَةِ قَالَ: يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةً يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَتَحَاسَدُون َ ، وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَاسُوهُ عَلَى أَحْوَالِ مَنْ سَلَفَ قَبْلَ آَدَمَ ، رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَمُقَاتِلٍ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ .

    قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْفَاءِ ، وَضَمَّهَا ابْنُ مُصَرِّفِ ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ ، وَهُمَا لُغَتَانِ ، وَرُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ وَابْنِ مِقْسَمٍ: وَيُسَفِّكُ: بِضَمِّ الْيَاءِ ، وَفَتْحِ السِّينِ ، وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ مَعَ كَسْرِهَا ، وَهِيَ لِتَكْثِيرِ الْفِعْلِ وَتَكْرِيرِهِ . وَسَفْكُ الدَّمِ: صَبُّهُ وَإِرَاقَتُهُ وَسَفْحُهُ ، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي كُلِّ مُضَيَّعٍ ، إِلَّا أَنَّ السَّفْكَ يَخْتَصُّ الدَّمَ ، وَالصَّبَّ وَالسَّفْحَ وَالْإِرَاقَةَ يُقَالُ فِي الدَّمِ وَفِي غَيْرِهِ .

    وَفِي مَعْنَى تَسْبِيحِهِمْ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الصَّلَاةُ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَوْلُهُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ التَّعْظِيمُ وَالْحَمْدُ ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ الْخُضُوعُ وَالذُّلُّ ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَنْبَارِيِّ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُقَدِّسُ لَكَ .

    الْقُدْسُ: الطَّهَارَةُ ، وَفِي مَعْنَى تَقْدِيسِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: نَتَطَهَّرُ لَكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: نُعَظِّمُكَ وَنَكْبُرُكُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ: نُصَلِّي لَكَ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ .

    فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ مِنَ الْبَغْيِ وَالْمَعْصِيَةِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالسُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّانِي: أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْخَلِيفَةِ أَنْبِيَاءٌ [ ص: 62 ] وَصَالِحُونَ قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: أَعْلَمُ أَنِّي أَمْلَأُ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .

    وَالرَّابِعُ: أَعْلَمُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ ، فَأَنَا أَبْتَلِي مَنْ تَظُنُّونَ أَنَّهُ مُطِيعٌ ، فَيُؤَدِّيهِ الِابْتِلَاءُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ كِإِبْلِيسَ ، وَمَنْ تَظُنُّونَ بِهِ الْمَعْصِيَةَ فَيُطِيعُ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .

    الْإِشَارَةُ إِلَى خَلْقِ آَدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ

    رَوَى أَبُو مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ ، عَزَّ وَجَلَّ ، خَلَقَ آَدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ ، فَجَاءَ بَنُو آَدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ ، مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ [وَالْأَبْيَضُ ] وَالْأَسْوَدُ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزَنُ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ" قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى آَدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا" . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ آَدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمْعَةَ آَخِرَ الْخَلْقِ فِي آَخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمْعَةِ ، مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ ، أَتَتْهُ النَّفْخَةُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ، فَجَعَلَتْ لَا تَجْرِي مِنْهُ فِي شَيْءٍ إِلَّا صَارَ لَحْمًا وَدَمًا .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا .

    فِي تَسْمِيَةِ آَدَمَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ جُبَيْرٍ ، وَالزَّجَّاجُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْأُدْمَةِ فِي اللَّوْنِ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ ، وَالنَّضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ ، وَقُطْرُبٌ .

    وَفِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّمَهُ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَّمَهُ كُلَّ الْأَسْمَاءِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، [ ص: 63 ] وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ مَعْدُودَةً لِمُسَمَّيَاتٍ مَخْصُوصَةٍ . ثُمَّ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ دُونَ أَنْوَاعِهَا ، كَقَوْلِكَ: إِنْسَانٌ وَمَلِكٌ وَجِنِّيٌّ وَطَائِرٌ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ مَا خَلَقَ مِنَ الْأَرْضِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْهَوَامِّ وَالطَّيْرِ ، قَالَ الْكَلْبِيُّ ، وَمُقَاتِلٌ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ .

    يُرِيدُ أَعْيَانَ الْخَلْقِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَلَائِكَةُ هَاهُنَا: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ خَاصَّةً .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْبِئُونِي أَخْبَرُونِي .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .

    فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا هُوَ أَفْضَلُ مِنْكُمْ وَأَعْلَمُ ، قَالَهُ الْحَسَنُ . وَالثَّانِي: أَنِّي أَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا سُبْحَانَكَ .

    قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ التَّسْبِيحَ هُوَ: التَّنْزِيهُ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ سُوءٍ . وَالْعَلِيمُ بِمَعْنَى: الْعَالِمِ ، جَاءَ عَلَى بِنَاءِ "فَعِيلٍ" لِلْمُبَالَغَةِ . وَفِي الْحَكِيمِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالثَّانِي: الْمُحْكِمُ لِلْأَشْيَاءِ ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ أَيْ: أَخْبَرَهُمْ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْبِئْهِمْ بِكَسْرِ الْهَاءِ ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عَلَى الْأَصْلِ ، لِأَنَّ أَصْلَ هَذَا الضَّمِيرِ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ مَضْمُومَةً فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: ضَرْبَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ ، وَهَذَا لَهُمْ . وَمَنْ كَسَرَ أَتْبَعَ كَسْرَ الْهَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ كَسْرَةُ الْبَاءِ . وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ تَعُودُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ . وَفِي الْهَاءِ وَالْمِيمِ [ ص: 64 ] مِنْ "أَسْمَائِهِم " قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي عَرَضَهَا ، قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ .

    وَفِي الَّذِي أَبْدُوهُ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ حَيْثُ مَرُّوا عَلَى جَسَدِ آَدَمَ ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: إِنَّ فَضْلَ هَذَا عَلَيْكُمْ مَا تَصْنَعُونَ؟ فَقَالُوا: نُطِيعُ رَبَّنَا ، فَقَالَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ: لَئِنْ فُضِّلْتُ عَلَيْهِ لَأُهْلِكْنَهُ ، وَلَئِنْ فُضِّلَ عَلَيَّ لَأَعْصِيَنَّهُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

    وَفِي الَّذِي كَتَمُوهُ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اعْتِقَادُ الْمَلَائِكَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ خَلْقًا أَكْرَمَ مِنْهُمْ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا أَسَرَّهُ إِبْلِيسُ مِنَ الْكِبَرِ وَالْعِصْيَانِ ، رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ ، وَابْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُقَاتِلٌ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا .

    عَامَّةُ الْقُرَّاءِ عَلَى كَسْرِ التَّاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْمَشُ بِضَمِّهَا فِي الْوَصْلِ ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ لُغَةٌ أَزْدَشَنُوءَةَ .

    وَفِي هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .

    وَالسُّجُودُ فِي اللُّغَةِ: التَّوَاضُعُ وَالْخُضُوعُ ، وَأَنْشَدُوا:


    سَاجِدُ الْمَنْخَرِ مَا يَرْفَعُهُ خَاشِعُ الطَّرْفِ أَصَمُّ الْمُسْتَمِعِ


    وَفِي صِفَةِ سُجُودِهِمْ لِآَدَمَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى صِفَةِ سُجُودِ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ الِانْحِنَاءُ وَالْمَيْلُ الْمُسَاوِي لِلرُّكُوعِ .

    [ ص: 65 ]
    قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلا إِبْلِيسَ .

    فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجِنْسِ ، فَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، ثُمَّ مَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى شَيْطَانًا . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ، فَهُوَ مِنَ الْجِنِّ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ ، وَكَانَ يُدِيرُ أَمْرَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اسْتُثْنِيَ وَلَيْسَ مِنَ الْجِنْسِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ أُمِرَ بِالسُّجُودِ مَعَهُمْ ، فَاسْتُثْنِيَ مِنْهُمْ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: أَمَرْتُ عَبْدِي وَإِخْوَتِي فَأَطَاعُونِي إِلَّا عَبْدِي ، هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ .

    وَفِي إِبْلِيسَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ لَيْسَ بِمُشْتَقٍّ ، وَلِذَلِكَ لَا يُصْرَفُ ، هَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ ، وَالزَّجَّاجِ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِبْلَاسِ ، وَهُوَ: الْيَأْسُ ، رُوِيَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، وَذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُصْرَفْ ، لِأَنَّهُ لَا سَمِيَّ لَهُ ، فَاسْتُثْقِلَ . قَالَ شَيْخُنَا أَبُو مَنْصُورٍ اللُّغَوِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الْإِبْلَاسِ لَصُرِفَ ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ سَمَّيْتَ رَجُلًا: بِإِخْرِيطٍ وَإِجْفِيلٍ; لِصُرِفَ فِي الْمَعْرِفَةِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: أَبَى مَعْنَاهُ: امْتَنَعَ ، وَاسْتَكْبَرَ اسْتَفْعَلَ مِنَ: الْكِبْرِ ، وَفِي " وَكَانَ " قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى: صَارَ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى الْمَاضِي ، فَمَعْنَاهُ: كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَافِرًا ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ زَوْجُهُ: حَوَّاءُ ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ لِامْرَأَةِ الرَّجُلِ: زَوْجٌ ، وَيَجْمَعُونَهَ ا: الْأَزْوَاجَ . وَتَمِيمٌ وَكَثِيرٌ مِنْ قِيسٍ وَأَهْلِ نَجْدٍ يَقُولُونَ: زَوْجَةٌ ، وَيَجْمَعُونَهَ ا: زَوْجَاتٌ . [ ص: 66 ] قَالَ الشَّاعِرُ:


    فَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى يُحِرِّشُ زَوْجَتِي كَمَاشٍ إِلَى أَسَدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا


    وَأَنْشَدَنِي أَبُو الْجَرَّاحِ:


    يَا صَاحِ بَلِّغْ ذَوِي الزَّوْجَاتِ كُلِّهِمُ أَنْ لَيْسَ وَصْلٌ إِذَا انْحَلَّتْ عُرَى الذَّنَبِ


    وَفِي الْجَنَّةِ الَّتِي أَسْكَنَهَا آَدَمَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: جَنَّةُ عَدْنٍ . وَالثَّانِي: جَنَّةُ الْخُلْدِ .

    وَالرَّغَدُ: الرِّزْقُ الْوَاسِعُ الْكَثِيرُ ، يُقَالُ: أَرْغَدَ فُلَانٌ: إِذَا صَارَ فِي خِصْبٍ وَسِعَةٍ .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (14)

    صــ67 إلى صــ 72

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ أَيْ: بِالْأَكْلِ لَا بِالدُّنُوِّ مِنْهَا .

    فِي الشَّجَرَةِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ:

    أَحَدُهَا: أَنَّهَا السُّنْبُلَةُ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ ، وَوَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ ، وَمُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ ، وَمُقَاتِلٍ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْكَرَمُ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَجَعْدَةَ وَبْنِ هُبَيْرَةَ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا التِّينُ ، رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، وَابْنِ جُرَيْجٍ .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا شَجَرَةٌ يُقَالُ: لَهَا شَجَرَةُ الْعِلْمِ ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالْخَامِسُ: أَنَّهَا شَجَرَةُ الْكَافُورِ ، نُقِلَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ .

    وَالسَّادِسُ: أَنَّهَا النَّخْلَةُ ، رُوِيَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ .

    وَقَدْ ذَكَرُوا وَجْهًا سَابِعًا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ شَجَرَةُ الْخُلْدِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى جِنْسِهَا . [ ص: 67 ]
    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ .

    قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : الظُّلْمُ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَيُقَالُ: ظَلَمَ الرَّجُلُ سِقَاءَهُ إِذَا سَقَاهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ زُبْدُهُ وَقَالَ الشَّاعِرُ:


    وَصَاحِبُ صِدْقٍ لَمْ تَرِبْنِي شَكَاتُهُ ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ


    أَرَادَ بِالصَّاحِبِ: وَطْبُ اللَّبَنِ ، وَظُلْمُهُ إِيَّاهُ: أَنْ يَسْقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ زُبْدُهُ .

    وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هُوَ أَظْلَمُ مِنْ حَيَّةٍ ، لِأَنَّهَا تَأْتِي الْحَفْرَ الَّذِي لَمْ تَحْفِرْهُ فَتَسْكُنُهُ ، وَيُقَالُ: قَدْ ظَلَمَ الْمَاءُ الْوَادِي: إِذَا وَصَلَ مِنْهُ إِلَى مَكَانٍ لَمْ يَكُنْ يَصِلُ إِلَيْهِ فِيمَا مَضَى . فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي تَخْصِيصِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ بِالنَّهْيِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا أَرَادَ .

    وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ لَهَا ثِقَلٌ مِنْ بَيْنِ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ ، فَلَمَّا أَكَلَ مِنْهَا ، قِيلَ: اخْرُجْ إِلَى الدَّارِ الَّتِي تَصْلُحُ لِمَا يَكُونُ مِنْكَ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ .

    أَزَلَّهُمَا بِمَعْنَى: اسْتَزَلَّهُمَا ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ: (فَأَزَالُهُمَا) ، أَرَادَ: نَحَّاهُمَا . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَمَّا كَانَ مَعْنَى اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ اثْبُتَا فِيهَا ، فَثَبَتَا; قَابَلَ حَمْزَةُ الثَّبَاتَ بِالزَّوَالِ الَّذِي يُخَالِفُهُ ، وَيُقَوِّي قِرَاءَتَهُ: فَأَخْرَجَهُمَا .

    وَالشَّيْطَانُ: إِبْلِيسُ ، وَأُضِيفَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ ، لِأَنَّهُ السَّبَبُ . وَفِي هَاءِ (عَنْهَا) ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى الْجَنَّةِ . وَالثَّانِي: تَرْجِعُ إِلَى الطَّاعَةِ . وَالثَّالِثُ: تَرْجِعُ إِلَى الشَّجَرَةِ . فَمَعْنَاهُ: فَأَزَلَّهُمَا بِزِلَّةٍ صَدَرَتْ عَنِ الشَّجَرَةِ .

    وَفِي كَيْفِيَّةِ إِزْلَالِهِ لَهُمَا ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ احْتَالَ حَتَّى دَخَلَ إِلَيْهِمَا الْجَنَّةَ ، وَكَانَ الَّذِي أَدْخَلَهُ الْحَيَّةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، وَنَادَاهُمَا ، قَالَهُ الْحَسَنُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَسْوَسَ إِلَيْهِمَا ، وَأَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُخَاطِبَةٍ [ ص: 68 ] وَلَا مُشَاهَدَةٍ ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ ، وَفِيهِ بَعْدُ . قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَجْوَدُ: أَنْ يَكُونَ خَاطَبَهَا ، لِقَوْلِهِ: (وَقَاسَمَهُمَا) .

    وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْصِيَةِ آَدَمَ بِالْأَكْلِ ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ نُهِيَ عَنْ شَجَرَةٍ بِعَيْنِهَا ، فَأَكَلَ مِنْ جِنْسِهَا . وَقَالَ آخَرُونَ: تَأَوَّلَ الْكَرَاهَةَ فِي النَّهْيِ دُونَ التَّحْرِيمِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ الْهُبُوطُ بِضَمِّ الْهَاءِ: الِانْحِدَارُ مِنْ عُلُوٍّ ، وَبِفَتْحِ الْهَاءِ: الْمَكَانُ الَّذِي يَهْبِطُ فِيهِ ، وَإِلَى مَنِ انْصَرَفَ هَذَا الْخِطَابُ؟ فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ انْصَرَفَ إِلَى آَدَمَ وَحَوَّاءَ وَالْحَيَّةِ ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: إِلَى آَدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ وَالْحَيَّةِ ، حَكَاهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: إِلَى آَدَمَ وَإِبْلِيسَ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالرَّابِعُ: إِلَى آَدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالْخَامِسُ: إِلَى آَدَمَ وَحَوَّاءَ وَذُرِّيَّتِهِم َا ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ . وَالسَّادِسُ: إِلَى آَدَمَ وَحَوَّاءَ فَحَسْبُ ، وَيَكُونُ لَفْظُ الْجَمْعِ وَاقِعًا عَلَى التَّثْنِيَةِ ، كَقَوْلِهِ: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 78 ] ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ، وَهُوَ الْعِلَّةُ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ أَيْضًا .

    وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ أُهْبِطُوا جُمْلَةً أَوْ مُتَفَرِّقِينَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أُهْبِطُوا جُمْلَةً ، لَكِنَّهُمْ نَزَلُوا فِي بِلَادٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، قَالَهُ كَعْبٌ ، وَوَهْبٌ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أُهْبِطُوا مُتَفَرِّقِينَ ، فَهَبَطَ إِبْلِيسُ قَبْلَ آَدَمَ ، وَهَبَطَ آَدَمُ بِالْهِنْدِ ، وَحَوَّاءُ بِجَدَّةٍ ، وَإِبْلِيسُ بِالْأَبُلَّةِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أُهْبِطَتِ الْحَيَّةُ بِنَصِيبَيْنِ ، قَالَ: وَأَمَرَ اللَّهِ تَعَالَى جِبْرِيلُ بِإِخْرَاجِ آَدَمَ ، فَقَبَضَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَخَلَّصَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي قَبَضَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ ارْفُقْ بِي . قَالَ جِبْرِيلُ: إِنِّي لَا أَرْفُقُ بِمَنْ عَصَى اللَّهَ ، فَارْتَعَدَ آَدَمُ وَاضْطَرَبَ ، وَذَهَبَ كَلَامُهُ ، وَجِبْرِيلُ يُعَاتِبُهُ فِي مَعْصِيَتِهِ ، وَيُعَدِّدُ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ، قَالَ: [ ص: 69 ] وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ ضَحْوَةً ، وَاخْرُجْ مِنْهَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، فَمَكَثَ فِيهَا نِصْفَ يَوْمٍ ، خَمْسَمِائَةِ عَامٍ مِمَّا يَعُدُّ أَهْلُ الدُّنْيَا .

    وَفِي الْعَدَاوَةِ الْمَذْكُورَةِ هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّ ذَرِّيَّةَ بَعْضِهِمْ أَعْدَاءٌ لِبَعْضٍ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي: أَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوٌّ لِآَدَمَ وَحَوَّاءَ ، وَهَمَا لَهُ عَدُوٌّ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَهُمْ أَعْدَاؤُهُ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .

    وَفِي الْمُسْتَقَرِّ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقُبُورُ ، حَكَاهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: مَوْضِعٌ الِاسْتِقْرَارِ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَابْنُ زَيْدٍ ، وَالزَّجَّاجُ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَهُوَ أَصَحُّ .

    وَالْمَتَاعُ: الْمَنْفَعَةُ . وَالْحِينُ: الزَّمَانُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (إِلَى حِينٍ) ، أَيْ: إِلَى فِنَاءِ الْأَجَلِ بِالْمَوْتِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .

    تَلَقَّى: بِمَعْنَى أَخَذَ ، وَقَبِلَ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ [وَسَيَتَقْبِلَه ُ ] بِكَلَامٍ مِنْ عِنْدِهِ ، فَفَعَلَ [ذَلِكَ آَدَمُ ] فَتَابَ عَلَيْهِ . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: " فَتَلَقَّى آدَمَ " بِالنَّصْبِ ، " كَلِمَاتٌ " : بِالرَّفْعِ; عَلَى أَنَّ الْكَلِمَاتِ هِيَ الْفَاعِلَةُ .

    وَفِي الْكَلِمَاتِ أَقْوَالٌ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 23 ] . قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَابْنُ زَيْدٍ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: أَيْ: رَبِّ; أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ؟ قَالَ: بَلَى . قَالَ: أَلَمْ تَنْفُخْ فِيَّ مِنْ رُوحِكَ؟ قَالَ: بَلَى ، قَالَ: أَلَمْ تَسْبِقْ رَحْمَتُكَ إِلَيَّ قَبْلَ غَضَبِكَ؟ قَالَ: بَلَى . قَالَ: أَلَمْ [ ص: 70 ] تُسْجِدْ لِي مَلَائِكَتَكَ ، وَتُسْكِنِّي جَنَّتَكَ؟ قَالَ: بَلَى . قَالَ: أَيْ: رَبِّ [أَرَأَيْتَ ] إِنْ تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ ، أَرَاجِعِي أَنْتَ إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ . حَكَاهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ، إِنَّكَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ، اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي ، فَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ، [اللَّهُمَّ ] لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَدْ ذُكِرَتْ أَقْوَالٌ مِنْ كَلِمَاتِ الِاعْتِذَارِ تُقَارِبُ هَذَا الْمَعْنَى .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَابَ عَلَيْهِ .

    أَصْلُ التَّوْبَةِ: الرُّجُوعُ ، فَالتَّوْبَةُ مِنْ آَدَمَ: رُجُوعُهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ ، وَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: رُجُوعُهُ عَلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ ، وَالثَّوَابُ الَّذِي كُلَّمَا تَكَرَّرَتْ تَوْبَةُ الْعَبْدِ تَكَرَّرَ قَبُولُهُ ، وَإِنَّمَا لَمْ تُذْكَرْ حَوَّاءُ فِي التَّوْبَةِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِرْ لَهَا ذِكْرٌ ، لَا أَنَّ تَوْبَتَهَا لَمْ تُقْبَلْ . وَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا كَانَ مَعْنَى فِعْلِ الِاثْنَيْنِ وَاحِدًا; جَازَ أَنْ يُذْكَرَ أَحَدُهُمَا وَيَكُونُ الْمَعْنَى لَهُمَا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [ التَّوْبَةِ: 63 ] وَقَوْلُهُ: فَلا يُخْرِجَنَّكُمَ ا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [ طه: 117 ] .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ :

    فِي إِعَادَةِ ذِكْرِ الْهُبُوطِ- وَقَدْ تَقَدَّمَ- قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أُعِيدَ لِأَنَّ آَدَمَ أُهْبِطَ إِهْبَاطَيْنِ ، أَحَدُهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ ، وَالثَّانِي مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ . وَأَيُّهُمَا الْإِهْبَاطُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآَيَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا كَرَّرَ الْهُبُوطَ تَوْكِيدًا .

    [ ص: 71 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِمَّا قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ "إِنَّ" الَّتِي لِلْجَزَاءِ ، ضُمَّتْ إِلَيْهَا "مَا" وَالْأَصْلُ فِي اللَّفْظِ "إِنَّ مَا" مَفْصُولَةٌ ، وَلَكِنَّهَا مُدْغَمَةٌ ، وَكُتِبَتْ عَلَى الْإِدْغَامِ ، فَإِذَا ضُمَّتْ "مَا" إِلَى "إِنْ" لَزِمَ الْفِعْلُ النُّونَ الثَّقِيلَةَ أَوِ الْخَفِيفَةَ . وَإِنَّمَا تَلْزَمُهُ النُّونُ لِأَنَّ "مَا" تَدْخُلُ مُؤَكَّدَةً ، وَدَخَلَتِ النُّونُ مُؤَكَّدَةً أَيْضًا ، كَمَا لَزِمَتِ اللَّامُ النُّونَ فِي الْقَسَمِ فِي قَوْلِكَ: وَاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ ، وَجَوَابُ الْجَزَاءِ الْفَاءُ .

    وَفِي الْمُرَادِ بِـ "الْهُدَى" هَاهُنَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الرَّسُولُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُقَاتِلٌ .

    وَالثَّانِي: الْكِتَابُ ، حَكَاهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ .

    وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: فَلَا خَوْفَ: بِفَتْحِ الْفَاءِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ الْفَاءِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ . وَالْمَعْنَى: فَلَا خَوْفَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنَ الْعَذَابِ ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ . وَالْخَوْفُ لِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ ، وَالْحُزْنُ لِأَمْرٍ مَاضٍ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فِي مَعْنَى الْآَيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْعَلَامَةُ ، فَمَعْنَى آَيَةٍ: عَلَامَةٌ لِانْقِطَاعِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا ، وَالَّذِي بَعْدَهَا ، قَالَ الشَّاعِرُ:


    أَلَا أَبْلِغْ لَدَيْكَ بَنِي تَمِيمٍ بِآَيَةِ مَا يُحِبُّونَ الطَّعَامَا


    وَقَالَ النَّابِغَةُ:


    تَوَهَّمْتُ آَيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامِ سَابِعُ


    وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا سُمِّيَتْ آَيَةً ، لِأَنَّهَا جَمَاعَةُ حُرُوفٍ مِنَ الْقُرْآَنِ ، وَطَائِفَةٌ مِنْهُ . قَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ : يُقَالُ: خَرَجَ الْقَوْمُ بِآَيَاتِهِمْ ، أَيْ: بِجَمَاعَتِهِمْ . وَأَنْشَدُوا:


    خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لَا حَيَّ مِثْلُنَا بِآَيَاتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلَا
    [ ص: 72 ] . وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا سُمِّيَتْ آَيَةً ، لِأَنَّهَا عَجَبٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ قَارِئَهَا يَسْتَدِلُّ إِذَا قَرَأَهَا عَلَى مُبَايَنَتِهَا كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: فَلَانٌ آَيَةً مِنَ الْآَيَاتِ; أَيْ: عَجَبٌ مِنَ الْعَجَائِبِ . ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .

    فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآَيَاتِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: آيَاتُ الْكُتُبِ الَّتِي تُتْلَى . وَالثَّانِي: مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ ، . وَالثَّالِثُ: الْقُرْآَنُ . وَالرَّابِعُ: دَلَائِلُ اللَّهِ فِي مَصْنُوعَاتِهِ . وَأَصْحَابُ النَّارِ: سُكَّانُهَا ، سُمُّوا أَصْحَابًا ، لِصُحْبَتِهِمْ إِيَّاهَا بِالْمُلَازَمَة ِ .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (15)

    صــ73 إلى صــ 78

    قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ .

    إِسْرَائِيلُ: هُوَ يَعْقُوبُ ، وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَعْنَاهُ: عَبْدُ اللَّهِ . وَقَدْ لَفَظَتْ بِهِ الْعَرَبُ عَلَى أَوْجُهٍ ، فَقَالَتْ: إِسْرَائِلُ ، وَإِسْرَالُ ، وَإِسْرَائِيلُ ، وَإِسْرَائِينُ .

    قَالَ أُمَيَّةُ:


    إِنَّنِي زَارِدُ الْحَدِيدِ عَلَى النَّا سِ دُرُوعًا سَوَابِغَ الْأَذْيَالِ لَا أَرَى مَنْ يُعِينُنِي فِي حَيَاتِي
    غَيْرُ نَفْسِي إِلَّا بَنِي إِسْرَالِ


    وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ صَادَ ضَبًّا ، فَأَتَى بِهِ أَهْلَهُ:


    يَقُولُ أَهْلُ السُّوقِ لَمَّا جِينَا: هَذَا وَرَبِّ الْبَيْتِ إِسْرَائِينَا


    أَرَادَ: هَذَا مِمَّا مُسِخَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ .

    وَالنِّعْمَةُ: الْمِنَّةُ ، مِثْلُهَا: النَّعْمَاءُ . وَالنَّعْمَةُ ، بِفَتْحِ النُّونِ: التَّنَعُّمُ ، وَأَرَادَ بِالنِّعْمَةِ: النِّعَمُ فَوَحَّدَهَا ، لِأَنَّهُمْ يَكْتَفُونَ بِالْوَاحِدِ مِنَ الْجَمِيعِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ التَّحْرِيمُ: أَيْ: ظُهَرَاءَ .

    وَفِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهَا مَا اسْتَوْعَدَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي [ ص: 73 ] فِيهَا صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى آَبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ إِذْ أَنْجَاهُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ ، وَأَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ ، وَأَعْطَاهُمُ التَّوْرَاةُ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالزَّجَّاجُ .

    وَإِنَّمَا مَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَا أَعْطَى آَبَاءَهُمْ ، لِأَنَّ فَخْرَ الْآَبَاءِ فَخْرٌ لِلْأَبْنَاءِ ، وَعَارُ الْآَبَاءِ عَارٌ عَلَى الْأَبْنَاءِ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا جَمْعُ نِعْمَةٍ عَلَى تَصْرِيفِ الْأَحْوَالِ .

    وَالْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِهَا: شُكْرُهَا ، إِذْ مَنْ لَمْ يَشْكُرْ فَمَا ذَكَرَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا .

    قَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: أَوْفَيْتُ ، وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ: وَفَيْتُ ، بِغَيْرِ أَلِفٍ .

    قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ: وَفَى بِالْعَهْدِ ، وَأَوْفَى بِهِ وَأَنْشَدَ:


    أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ كَمَا وَفَّى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا


    وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ: وَفَيْتُ بِالْعَهْدِ ، وَأَوْفَيْتُ بِهِ ، وَأَوْفَيْتُ الْكَيْلَ لَا غَيْرَ .

    وَفِي الْمُرَادِ بِعَهْدِهِ: أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا عَهِدَهُ إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ ، وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْإِسْلَامُ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ الْعَهْدُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا [ الْمَائِدَةِ: 13 ] قَالَهُ قَتَادَةُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُدْخِلُكُمُ الْجَنَّةَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أَيْ: خَافُونِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ يَعْنِي الْقُرْآَنَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ يَعْنِي التَّوْرَاةَ أَوِ الْإِنْجِيلَ ، فَإِنَّ الْقُرْآَنَ يُصَدِّقُهُمَا أَنَّهُمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَيُوَافِقُهُمَ ا فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

    [ ص: 74 ] وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ .

    إِنَّمَا قَالَ: أَوَّلُ كَافِرٍ ، لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ إِلَى الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنَ الْكُفْرِ بَعْدَ ذَلِكَ ، إِذِ الْمُبَادِرُ لَمْ يَتَأَمَّلِ الْحُجَّةَ ، وَإِنَّمَا بَادَرَ بِالْعِنَادِ ، فَحَالُهُ أَشَدُّ . وَقِيلَ: وَتَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ بَعْدَ أَنْ آَمَنَ ، وَالْخِطَابُ لِرُؤَسَاءِ الْيَهُودِ .

    وَفِي هَائِهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى الْمَنْزِلِ ، قَالَهُ ابْنُ مسُعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى مَا مَعَهُمْ ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَتَمُوا وَصْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَعَهُمْ ، فَقَدْ كَفَرُوا بِهِ ، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ .

    أَيْ: لَا تَسْتَبْدِلُوا [بِآَيَاتِي ] ثَمَنًا قَلِيلًا . وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا . وَالثَّانِي: بَقَاءُ رِئَاسَتِهِمْ عَلَيْهِمْ . وَالثَّالِثُ: أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الدِّينِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

    تَلْبِسُوا: بِمَعْنَى تَخْلِطُوا . يُقَالُ: لَبَّسْتُ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ ، أُلْبِسُهُ: إِذَا عَمَيْتُهُ عَلَيْهِمْ ، وَتَخْلِيطُهُمْ : أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ مِنَ الْعَرَبِ .

    وَفِي الْمُرَادِ بِالْحَقِّ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْإِسْلَامُ ، قَالَهُ الْحَسَنُ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ .

    يُرِيدُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ، وَهِيَ هَاهُنَا اسْمُ جِنْسٍ ، وَالزَّكَاةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الزَّكَاءِ ، وَهُوَ النَّمَاءُ ، وَالزِّيَادَةُ . يُقَالُ: زَكَا الزَّرْعُ يَزْكُو زُكَاءً . وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : مَعْنَى الزَّكَاةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الزِّيَادَةُ وَالنَّمَاءُ ، فَسُمِّيَتْ زَكَاةً ، لِأَنَّهَا تَزِيدُ فِي الْمَالِ الَّذِي تَخْرُجُ مِنْهُ ، وَتُوَفِّرُهُ ، وَتَقِيهِ مِنَ الْآَفَاتِ . وَيُقَالُ: هَذَا أَزْكَى مِنْ ذَاكَ ، أَيْ: أَزْيَدُ فَضْلًا مِنْهُ .

    [ ص: 75 ]
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ .

    أَيْ: صَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالصَّحَابَةَ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَ الرُّكُوعَ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي صَلَاتِهِمْ رُكُوعٌ ، وَالْخِطَابُ لِلْيَهُودِ . وَفِي هَذِهِ الْآَيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ ، كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِقَرَابَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي السِّرِّ: اثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ . وَالْأَلِفُ فِي "أتامرون" أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ ، وَمَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ .

    وَفِي "الْبَرِّ" هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ التَّمَسُّكُ بِكِتَابِهِمْ ، كَانُوا يَأْمُرُونَ بِاتِّبَاعِهِ وَلَا يَقُومُونَ بِهِ . وَالثَّانِي: اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، رُوِيَ الْقَوْلَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: الصَّدَقَةُ ، كَانُوا يَأْمُرُونَ بِهَا ، وَيَبْخَلُونَ . ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَنْسَوْنَ أَيْ: تَتْرُكُونَ . وَفِي "الْكِتَابِ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ التَّوْرَاةُ ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْقُرْآَنُ ، فَلَا يَكُونُ الْخِطَابُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِلْيَهُودِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ الْأَصْلُ فِي الصَّبْرِ: الْحَبْسُ ، فَالصَّابِرُ حَابِسٌ لِنَفْسِهِ عَنِ الْجَزَعِ . وَسُمِّيَ الصَّائِمُ صَابِرًا لِحَبْسِهِ نَفْسَهُ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ ، وَالْمَصْبُورَة ُ: الْبَهِيمَةُ تُتَّخَذُ غَرَضًا . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّبْرُ هَاهُنَا: الصَّوْمُ .

    وَفِيمَا أُمِرُوا بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَرْكُ الْمَعَاصِي ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: عَدَمُ الرِّئَاسَةِ ، وَهُوَ خِطَابٌ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ ، وَوَجْهُ الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ أَنَّهُ يُتْلَى فِيهَا مَا يُرَغِّبُ فِي الْآَخِرَةِ ، وَيُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا .

    [ ص: 76 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهَا فِي الْمُكَنَّى عَنْهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الصَّلَاةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالْجُمْهُورُ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْكَعْبَةُ وَالْقِبْلَةُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الصَّلَاةَ ، دَلَّتْ عَلَى الْقِبْلَةِ ، ذَكَرَهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الِاسْتِعَانَةُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَاسْتَعِينُوا دَلَّ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ النَّحْوِيُّ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: لَكَبِيرَةٌ قَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: الْكَبِيرَةُ: الثَّقِيلَةُ ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [ الشُّورَى: 13 ] أَيْ: ثِقَلٌ ، وَالْخُشُوعُ فِي اللُّغَةِ: التَّطَامُنُ وَالتَّوَاضُعُ ، وَقِيلَ: السُّكُونُ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .

    الظَّنُّ هَاهُنَا: بِمَعْنَى الْيَقِينِ ، وَلَهُ وُجُوهٌ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ "الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ" .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ يَعْنِي: عَلَى عَالِمِي زَمَانِهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَابْنُ زَيْدٍ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ .

    قَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَزْعُمُ أَنَّ آَبَاءَهَا الْأَنْبِيَاءَ تَشْفَعُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَآَيَسَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآَيَةِ مِنْ ذَلِكَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْمًا [فِيهِ ] إِضْمَارٌ ، تَقْدِيرُهُ: اتَّقُوا عَذَابَ يَوْمٍ ، أَوْ مَا فِي يَوْمٍ . وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَ"تَجْزِي" بِمَعْنَى تَقْضِي . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ: جَزَى الْأَمْرَ عَنِّي يَجْزِي ، بِغَيْرِ هَمْزٍ ، أَيْ: قَضَى عَنِّي ، وَأَجْزَأَنِي بُجْزِئُنِي ، مَهْمُوزٌ ، أَيْ: كَفَانِي .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: نَفْسٌ عَنْ نَفْسٌ قَالُوا الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ هَاهُنَا: النَّفْسُ الْكَافِرَةُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ .

    [ ص: 77 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَلَا تَقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ) .

    قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّاءِ ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ ، إِلَّا أَنَّ قَتَادَةَ فَتَحَ الْيَاءَ ، وَنَصَبَ الشَّفَاعَةَ ، لِيَكُونَ الْفِعْلُ لِلَّهِ تَعَالَى . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ ، فَلِأَنَّ الِاسْمَ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِ هَذَا الْفِعْلَ مُؤَنَّثٌ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُلْحِقَ الْمُسْنَدَ أَيْضًا عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ ، فَلِأَنَّ التَّأْنِيثَ فِي الِاسْمِ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ ، فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى ، كَمَا أَنَّ الْوَعْظَ وَالْمَوْعِظَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ . وَفِي الْآَيَةِ إِضْمَارٌ ، تَقْدِيرُهُ: لَا يُقْبَلُ مِنْهَا فِيهِ شَفَاعَةٌ . وَالشَّفَاعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الشَّفْعِ الَّذِي يُخَالِفُ الْوِتْرَ ، وَذَلِكَ أَنَّ سُؤَالَ الشَّفِيعِ يَشْفَعُ سُؤَالُ الْمَشْفُوعِ لَهُ .

    فَأَمَّا "الْعَدْلُ" فَهُوَ الْفِدَاءُ ، وَسُمِّيَ عَدْلًا ، لِأَنَّهُ يُعَادِلُ الْمُفَدَّى . وَاخْتَلَفَ اللُّغَوِيُّونَ : هَلِ "الْعَدْلُ" وَ"الْعِدْلُ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا ، يَخْتَلِفَانِ ، أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَدْلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ: مَا عَادَلَ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَالْعِدْلُ بِكَسْرِهَا: مَا عَادَلَ الشَّيْءَ مِنْ جِنْسِهِ ، فَهُوَ الْمَثَلُ ، تَقُولُ: عِنْدِي عَدْلُ غُلَامِكَ ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ: إِذَا أَرَدْتَ قِيمَتَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَعِنْدِي عِدْلُ غُلَامِكَ ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ: إِذَا كَانَ غُلَامٌ يَعْدِلُ غُلَامًا . وَحَكَى الزَّجَّاجُ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْعَدْلَ وَالْعِدْلَ فِي مَعْنَى الْمَثَلِ ، وَأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَثَلُ مِنَ الْجِنْسِ أَوْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أَيْ: يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرُوا إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ ، وَهَذِهِ النِّعَمُ عَلَى آَبَائِهِمْ كَانَتْ . وَفِي آَلِ فِرْعَوْنَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَهْلُ مِصْرَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَهْلُ بَيْتِهِ خَاصَّةً ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ . وَالثَّالِثُ: أَتْبَاعُهُ عَلَى دِينِهِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ . وَهَلِ الْآَلُ وَالْأَهْلُ بِمَعْنًى ، أَوْ يَخْتَلِفَانِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: وَقَدْ شَرَحْتُ مَعْنَى الْآَلِ فِي كِتَابِ "النَّظَائِرِ" وَفِرْعَوْنُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ ، وَقِيلَ: هُوَ لَقَبُهُ . وَفِي اسْمِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: الْوَلِيدُ بْنُ [ ص: 78 ] مُصْعَبٍ ، قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ . وَالثَّانِي: فَيَطُوسُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: مُصْعَبُ بْنُ الرَّيَّانِ ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ . وَالرَّابِعُ: مُغِيثٌ ، ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسُومُونَكُمْ أَيْ: يُوَلُّونَكُمْ . يُقَالُ: فَلَانٌ يَسُومُكَ خَسْفًا ، أَيْ: يُوَلِّيكَ ذُلًّا وَاسْتِخْفَافًا . وَسُوءُ الْعَذَابِ: شَدِيدُهُ . وَكَانَ الزَّجَّاجُ يَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ، وَأَبَى هَذَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فَقَالَ: قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي مَوْضِعٍ آَخَرَ ، فَقَالَ: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ [ إِبْرَاهِيمَ: 6 ] وَإِنَّمَا سُوءُ الْعَذَابِ: اسْتِخْدَامُهُم ْ فِي أَصْعَبِ الْأَعْمَالِ ، وَقَالَ: الْفَرَّاءُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي طُرِحَتْ فِيهِ الْوَاوُ ، تَفْسِيرٌ لِصِفَاتِ الْعَذَابِ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الْوَاوُ ، يُبَيِّنُ أَنَّهُ قَدْ مَسَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ غَيْرُ الذَّبْحِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يُعَذِّبُونَكُم ْ بِغَيْرِ الذَّبْحِ وَبِالذَّبْحِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ أَيْ: يَسْتَبِقُونَ نِسَاءَكُمْ ، أَيْ: بَنَاتَكُمْ . وَإِنَّمَا اسْتَبَقُوا نِسَاءَهُمْ لِلِاسْتِذْلَال ِ وَالْخِدْمَةِ .

    وَفِي الْبَلَاءِ هَهُنَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَأَبُو مَالِكٍ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَالزَّجَّاجُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ النِّقْمَةُ ، رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ "ذَا" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمْ عَائِدًا عَلَى سَوْمِهِمْ سُوءَ الْعَذَابِ ، وَذَبْحِ أَبْنَائِهِمْ وَاسْتِحْيَاءِ نِسَائِهِمْ ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُعُودُ عَلَى النَّجَاةِ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ ، أَنَّ الْكَهَنَةَ قَالَتْ لِفِرْعَوْنَ: سَيُولَدُ الْعَامُ بِمِصْرَ غُلَامٌ يَكُونُ هَلَاكُكَ عَلَى يَدَيْهِ ، فَقَتَلَ الْأَبْنَاءَ . قَالَ الزَّجَّاجُ: فَالْعَجَبُ مِنْ حُمْقِ فِرْعَوْنَ ، إِنْ كَانَ الْكَاهِنُ عِنْدَهُ صَادِقًا ، فَمَا يَنْفَعُ الْقَتْلُ؟! وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا; فَمَا مَعْنَى الْقَتْلِ؟!

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (16)

    صــ79 إلى صــ 84


    قوله تعالى: وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون الفرق الفصل بين الشيئين و"بكم" بمعنى "لكم" . وإنما ذكر آل فرعون دونه ، لأنه [ ص: 79 ] قد علم كونه فيهم . وفي قوله تعالى: وأنتم تنظرون قولان . أحدهما: أنه من نظر العين ، معناه: وأنتم ترونهم يغرقون . والثاني: أنه بمعنى: العلم ، كقوله تعالى: ألم تر إلى ربك كيف مد الظل [ الفرقان: 45 ] قاله الفراء .

    الإشارة إلى قصتهم .

    روى السدي عن أشياخه: أن الله تعالى أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل ، وألقى على القبط الموت ، فمات بكر كل رجل منهم ، فأصبحوا يدفنونه ، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس ، قال عمرو بن ميمون: فلما خرج موسى بلغ ذلك فرعون ، فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك ، ليلتئذ . قال أبو السليل: لما انتهى موسى إلى البحر قال: هيه أبا خالد ، فأخذه أفكل ، يعني: رعدة ، قال مقاتل: تفرق الماء يمينا وشمالا كالجبلين المتقابلين ، وفيهما كوى ينظر كل سبط إلى الآخر . قال السدي: فلما رآه فرعون متفرقا قال: ألا ترون البحر فرق مني ، فانفتح لي؟! فأتت خيل فرعون فأبت أن تقتحم ، فنزل جبريل على ماذيانة ، فتشامت الحصن ريح الماذيانة ، فاقتحمت في إثرها ، حتى إذا هم أولهم أن يخرج ، ودخل آخرهم أمر البحر أن يأخذهم ، فالتطم عليهم .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً .

    قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: "وَعَدْنَا" بِغَيْرِ أَلِفٍ هَاهُنَا ، وَفِي (الْأَعْرَافِ) وَ(طَهَ) وَوَافَقَهُمَا أَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ فِي (الْبَقَرَةِ) خَاصَّةً . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ "وَاعَدْنَا" بِأَلِفٍ . وَوَجْهُ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: إِفْرَادُ الْوَعْدِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ لَمَّا قَبِلَ مُوسَى وَعْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، صَارَ ذَلِكَ مُوَاعَدَةً بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى . وَمِثْلُهُ: لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا [ الْبَقَرَةِ: 235 ] .

    وَمَعْنَى الْآَيَةِ: وَعَدْنَا مُوسَى تَتِمَّةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، أَوِ انْقِضَاءِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً . وَمُوسَى: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ ، أَصْلُهُ بِالْعِبْرَانِي َّةِ: مُوشَا ، فَمُو: هُوَ الْمَاءُ ، وَشَا: هُوَ الشَّجَرُ ، لِأَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَ [ ص: 80 ] الْمَاءِ وَالشَّجَرِ ، فَعَرَّبَ بِالسِّينِ . وَلِمَاذَا كَانَ هَذَا الْوَعْدُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: لِأَخْذِ التَّوْرَاةِ .

    وَالثَّانِي: لِلتَّكْلِيمِ . وَفِي هَذِهِ الْمُدَّةِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا ذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: كَانَ الْوَعْدُ لِإِعْطَاءِ التَّوْرَاةِ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا ذُو الْحِجَّةِ وَعَشْرٌ مِنَ الْمُحَرَّمِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: كَانَ الْوَعْدُ لِلتَّكْلِيمِ ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ اللَّيَالِي دُونَ الْأَيَامِ ، لِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ التَّأْرِيخُ بِاللَّيَالِي ، لِأَنَّ أَوَّلَ شَهْرٍ لَيْلُهُ ، وَاعْتِمَادُ الْعَرَبِ عَلَى الْأَهِلَّةِ ، فَصَارَتِ الْأَيَّامُ تَبَعًا لِلَّيَالِي . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ: إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّيَالِي ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ هَذِهِ الْأَيَّامَ وَيُوَاصِلُهَا بِاللَّيَالِي ، فَلِذَلِكَ ذَكَرَ اللَّيَالِيَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ مِنْ بَعْدِهِ ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ انْطِلَاقِهِ إِلَى الْجَبَلِ .

    الْإِشَارَةُ إِلَى اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ .

    رَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَنَّهُ لَمَّا انْطَلَقَ مُوسَى ، وَاسْتَخْلَفَ هَارُونَ ، قَالَ هَارُونُ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَ الْغَنِيمَةَ لَا تَحِلُّ لَكُمْ ، وَإِنَّ حُلِيَّ الْقِبْطِ غَنِيمَةٌ فَاجْمَعُوهُ وَاحْفُرُوا لَهُ حَفِيرَةً ، فَادْفِنُوهُ ، فَإِنْ أَحَلَّهُ مُوسَى فَخُذُوهُ ، وَإِلَّا كَانَ شَيْئًا لَمْ تَأْكُلُوهُ ، فَفَعَلُوا . قَالَ السُّدِّيُّ: وَكَانَ جِبْرِيلُ قَدْ أَتَى إِلَى مُوسَى لِيَذْهَبَ بِهِ إِلَى رَبِّهِ ، فَرَآَهُ السَّامِرِيُّ ، فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ: إِنَّ لِهَذَا شَأْنًا ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ حَافِرِ الْفَرَسِ ، فَقَفَهَا فِي الْحَفِيرَةِ ، فَظَهَرَ الْعِجْلُ . وَقِيلَ: إِنَّ السَّامِرِيَّ أَمَرَهُمْ بِإِلْقَاءِ ذَلِكَ الْحُلِيِّ ، وَقَالَ إِنَّمَا طَالَتْ غَيْبَةُ مُوسَى عَنْكُمْ لِأَجْلِ مَا مَعَكُمْ مِنَ الْحُلِيِّ ، فَاحْفُرَا لَهَا حَفِيرَةً وَقَرِّبُوهُ إِلَى اللَّهِ ، يَبْعَثْ لَكُمْ نَبِيَّكُمْ ، فَإِنَّهُ كَانَ عَارِيَةً ، ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ .

    وَفِي سَبَبِ اتِّخَاذِ السَّامِرِيِّ عِجْلًا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّامِرِيَّ كَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، . وَالثَّانِي: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا مَرُّوا عَلَى قَوْمٍ [ ص: 81 ] يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ ، أَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ ، فَلَمَّا سَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِلَهًا وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ; أَخْرَجَ السَّامِرِيُّ لَهُمْ فِي غَيْبَتِهِ عِجْلًا لِمَا رَأَى مِنِ اسْتِحْسَانِهِم ْ ذَلِكَ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .

    وَفِي كَيْفِيَّةِ اتِّخَاذِ الْعِجْلِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّامِرِيَّ كَانَ صَوَّاغًا ، فَصَاغَهُ وَأَلْقَى فِيهِ الْقَبْضَةَ ، قَالَهُ عَلَيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ حَفَرُوا حَفِيرَةً ، وَأَلْقَوْا فِيهَا حُلِيَّ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَعُوَارِيهِمْ تُنَزُّهًا عَنْهَا ، فَأَلْقَى السَّامِرِيُّ الْقَبْضَةَ مِنَ التُّرَابِ ، فَصَارَ عِجْلًا . رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَارَ لَحْمًا وَدَمًا وَجَسَدًا ، فَقَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى قَدْ جَاءَ ، وَأَخْطَأَ مُوسَى الطَّرِيقَ فَعَبَدُوهُ وَدَفَنُوا حَوْلَهُ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ . وَفِي الْفُرْقَانِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ النَّصْرُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زَيْدٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، فَيَكُونُ الْفُرْقَانُ نَعْتًا لِلتَّوْرَاةِ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْكِتَابُ ، فَكَرَّرَهُ بِغَيْرِ اللَّفْظِ . قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:

    فَأَلْقَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا

    وَقَالَ عَنْتَرَةُ:


    أَقْوَى وَأَفْقَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ


    هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ ، وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ فَرَقَ الْبَحْرَ لَهُمْ ، ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ ، وَالزَّجَّاجُ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ الْقُرْآَنُ . وَمَعْنَى الْكَلَامِ: لَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ، وَمُحَمَّدًا الْفُرْقَانَ ، ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ ، وَهُوَ قَوْلُ قُطْرُبٍ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ ص: 82 ] الْقَوْمُ: اسْمٌ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٌ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٌ [ الْحُجُرَاتُ: 11 ] . وَقَالَ زُهَيْرٌ:


    وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي أُقَوْمٌ آَلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ؟!


    وَإِنَّمَا سُمُّوا قَوْمًا ، لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ بِالْأُمُورِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كَانَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَكْسِرُونَ الْهَمْزَةَ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَاسٍ وَلَا تَخْفِيفٍ . وَرَوَى الْيَزِيدِيُّ وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: (بَارِئِكُمْ) بِجَزْمِ الْهَمْزَةِ . رَوَى عَنْهُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ: "بَارِئِكُمْ" مَهْمُوزَةً غَيْرَ مُثَقَّلَةٍ . وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: كَانَ أَبُو عُمَرَ يَخْتَلِسُ الْحَرَكَةَ فِي: "بَارِئِكُمْ" وَ: "يَأْمُرُكُمْ" وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا تَتَوَالَى فِيهِ الْحَرَكَاتُ ، فَيَرَى مِنْ سَمْعِهِ أَنَّهُ قَدْ أَسْكَنَ وَلَمْ يَسْكُنْ .

    وَالْبَارِئُ: الْخَالِقُ . وَمَعْنَى فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ لِيَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ .

    وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ خُوطِبَ بِهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكُلِّ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ لَمْ يَعْبُدْ لِيَقْتُلَ مَنْ عَبَدَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْعَابِدِينَ فَحَسْبُ ، أَمَرُوا أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ . وَفِيٌّ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ "ذَا" فِي "ذَلِكُمْ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْقَتْلِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى التَّوْبَةِ .

    الْإِشَارَةُ إِلَى قِصَّتِهِمْ فِي ذَلِكَ .

    قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالُوا لِمُوسَى: كَيْفَ يَقْتُلُ الْآَبَاءُ الْأَبْنَاءَ ، وَالْإِخْوَةُ الْإِخْوَةَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ظُلْمَةً لَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَقَالُوا: فَمَا آَيَةُ تَوْبَتِنَا؟ [ ص: 83 ] قَالَ أَنْ يَقُومَ السِّلَاحُ فَلَا يَقْتُلُ ، وَتُرْفَعَ الظُّلْمَةُ . فَقَتَلُوا حَتَّى خَاضُوا فِي الدِّمَاءِ ، وَصَاحَ الصِّبْيَانُ: يَا مُوسَى : الْعَفْوَ الْعَفْوَ . فَبَكَى مُوسَى ، فَنَزَلَتِ التَّوْبَةُ ، وَقَامَ السِّلَاحُ ، وَارْتَفَعَتِ الظُّلْمَةُ . قَالَ مُجَاهِدٌ: بَلَغَ الْقَتْلَى سَبْعِينَ أَلْفًا . قَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَ الْقَتْلَ لِلْقَتِيلِ شَهَادَةً ، وَلِلْحَيِّ تَوْبَةً .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .

    فِي الْقَائِلِينَ لِمُوسَى ذَلِكَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ السَّبْعُونَ الْمُخْتَارُونَ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّهُ أَتَاهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَأْخُذُ بِقَوْلِكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً; فَيَقُولُ هَذَا كِتَابِي . وَفِي "جَهْرَةً" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِمْ ، أَيْ: جَهَرُوا بِذَلِكَ الْقَوْلِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا الرُّؤْيَةُ الْبَيِّنَةُ ، أَيْ: أَرَنَاهُ غَيْرَ مُسْتَتِرٍ عَنَّا بِشَيْءٍ ، يُقَالُ: فَلَانٌ يَتَجَاهَرُ بِالْمَعَاصِي ، أَيْ: لَا يَسْتَتِرُ مِنَ النَّاسِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ . وَمَعْنَى "الصَّاعِقَةِ" : مَا يُصْعَقُونَ مِنْهُ ، أَيْ: يَمُوتُونَ . وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُمْ مَاتُوا ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَمُوتُوا ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ ، فَقَالَ هُنَاكَ: فَلَمَّا أَفَاقَ وَقَالَ هَاهُنَا: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ وَالْإِفَاقَةُ لِلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ ، وَالْبَعْثِ لِلْمَيِّتِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: يَنْظُرُ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ كَيْفَ يَقَعُ مَيِّتًا . وَالثَّانِي: يَنْظُرُ بَعْضُكُمْ إِلَى إِحْيَاءِ بَعْضٍ . وَالثَّالِثُ: تَنْظُرُونَ الْعَذَابَ كَيْفَ يَنْزِلُ بِكُمْ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ نَارٌ فَأَحْرَقَتْهُم ْ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [ ص: 84 ] (الْغَمَامَ): السَّحَابُ ، سُمِّيَ غَمَامًا ، لِأَنَّهُ يَغِمُّ السَّمَاءَ ، أَيْ: يَسْتُرُهَا ، وَكُلُّ شَيْءٍ غَطَّيْتَهُ فَقَدْ غَمَمْتَهُ ، وَهَذَا كَانَ فِي التِّيهِ . وَفِي الْمَنِّ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الَّذِي يَقَعُ عَلَى الشَّجَرِ فَيَأْكُلُهُ النَّاسُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالضَّحَّاكُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ التَّرَنْجَبِين ُ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ صَمْغُهُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يُشْبِهُ الرُّبَّ الْغَلِيظَ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ شَرَابٌ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ . وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ خُبْزُ الرُّقَاقِ مِثْلُ الذُّرَةِ ، أَوْ مِثْلُ النَّقِيِّ ، قَالَهُ وَهْبٌ . وَالسَّابِعُ: أَنَّهُ عَسَلٌ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ . وَالثَّامِنُ: أَنَّهُ الزَّنْجَبِيلُ قَالَهُ السُّدِّيُّ .

    وَفِي السَّلْوَى قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَائِرٌ ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يُشْبِهُ السُّمَانَى ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ السُّمَانَى . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْعَسَلُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ، وَأَنْشَدَ:


    وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا


    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا ظَلَمُونَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا نَقَصُونَا وَضَرُّونَا ، بَلْ ضَرُّوا أَنْفُسَهُمْ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ .

    فِي الْقَائِلِ لَهُمْ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُوسَى بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعِينَ سَنَةً . وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى . وَالْقَرْيَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْجَمْعِ ، وَمِنْهُ: قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ . وَالْمِقْرَاةُ: الْحَوْضُ يُجْمَعُ فِيهِ الْمَاءُ . وَفِي الْمُرَادِ بِ: هَذِهِ الْقَرْيَةِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا أَرِيحَا . قَالَ السُّدِّيُّ: وَأَرِيحَا: هِيَ أَرْضٌ بَيْنَ الْمَقْدِسِ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا قَرْيَةٌ مِنْ أَدَانِي قُرَى الشَّامِ ، قَالَهُ وَهْبٌ .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (17)

    صــ85 إلى صــ 90


    [ ص: 85 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ أَحَدُ أَبْوَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَهُوَ يُدْعَى: بَابَ حِطَّةٍ . وَقَوْلُهُ: (سُجَّدًا) أَيْ: رُكَّعًا . قَالَ وَهْبٌ: أَمَرُوا بِالسُّجُودِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى إِذْ رَدَّهُمْ إِلَيْهَا .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُولُوا حِطَّةٌ وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ (حِطَّةً) بِالنَّصْبِ .

    وَفِي مَعْنَى حِطَّةٍ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: اسْتَغْفِرُوا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبٌ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهِيَ كَلِمَةٌ [أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوهَا ] فِي مَعْنَى الِاسْتِغْفَارِ ، مِنْ حَطَطْتُ ، أَيْ: حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا .

    وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهَا: قُولُوا: هَذَا الْأَمْرُ حَقٌّ كَمَا قِيلَ لَكُمْ ، ذَكَرَهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: فَيَكُونُ الْمَعْنَى: قُولُوا الَّذِي يَحُطُّ عَنْكُمْ خَطَايَاكُمْ . [وَهُوَ قَوْلُ: "إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" . ] .

    وَلِمَاذَا أُمِرُوا بِدُخُولِ الْقَرْيَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ لِذُنُوبٍ رَكِبُوهَا فَقِيلَ: ( ادْخُلُوا الْقَرْيَةَ ) ، ( وَادْخُلُوا الْبَاب سُجَّدًا نَغْفِرُ لَكُمْ خطايكم ) قَالَهُ وَهْبٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مَلُّوا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ، فَقِيلَ: اهْبِطُوا مِصْرًا فَكَانَ أَوَّلُ مَا لَقِيَهُمْ أَرِيحَا ، فَأُمِرُوا بِدُخُولِهَا .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ .

    قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَعَاصِمٌ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ : (نَغْفِرُ لَكُمْ) بِالنُّونِ مَعَ كَسْرِ الْفَاءِ . وَقَرَأَ نَافِعٌ ، وَأَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ (يَغْفِرُ) بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتَحِ الْفَاءِ . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ مَعَ فَتْحِ الْفَاءِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ .

    اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ ، عَزَّ وَجَلَّ ، أَمَرَهُمْ فِي دُخُولِهِمْ بِفِعْلٍ وَقَوْلٍ ، فَالْفِعْلُ السُّجُودُ ، وَالْقَوْلُ: حِطَّةٌ ، فَغَيَّرَ الْقَوْمُ الْفِعْلَ وَالْقَوْلَ .

    [ ص: 86 ] فَأَمَّا تَغْيِيرُ الْفِعْلِ; فَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ دَخَلُوا مُتَزَحِّفِينَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ دَخَلُوا مِنْ قِبَلِ أَسْتَاهِهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ دَخَلُوا مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى حُرُوفِ عُيُونِهِمْ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمْ دَخَلُوا مُسْتَلْقِينَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

    وَأَمَّا تَغْيِيرُ الْقَوْلِ; فَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا مَكَانَ "حِطَّةٍ" حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: حِنْطَةٌ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَوَهْبٌ ، وَابْنُ زَيْدٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ فِيهَا شَعْرَةٌ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: حَبَّةُ حِنْطَةٍ مَثْقُوبَةٍ فِيهَا شُعَيْرَةٌ سَوْدَاءُ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: سَنْبَلَاثَا ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ .

    فَأَمَّا الرِّجْزُ; فَهُوَ الْعَذَابُ ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ ، وَالزَّجَّاجُ . وَأَنْشَدُوا لِرُؤْيَةٍ:


    حَتَّى وَقُمْنَا كَيْدَهُ بِالرِّجْزِ


    وَفِي مَاهِيَّةِ هَذَا الْعَذَابُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ ظُلْمَةٌ وَمَوْتٌ ، مَاتَ مِنْهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ ، أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا ، وَهَلَكَ سَبْعُونَ أَلْفًا عُقُوبَةً ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَصَابَهُمُ الطَّاعُونُ ، عُذِّبُوا بِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ مَاتُوا ، قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الثَّلْجُ ، هَلَكَ بِهِ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
    [ ص: 87 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ .

    اسْتَسْقَى بِمَعْنَى: اسْتَدْعَى ذَلِكَ ، كَقَوْلِكَ: اسْتَنْصَرَ .

    وَفِي الْحَجَرِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَجَرٌ مَعْرُوفٌ عَيْنٌ لِمُوسَى ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ جُبَيْرٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَعَطِيَّةُ ، وَابْنُ زَيْدٍ ، وَمُقَاتِلٌ . وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ حَجَرًا مُرَبَّعًا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: كَانَ مِثْلَ رَأْسِ الثَّوْرِ ، قَالَهُ عَطِيَّةُ . وَالثَّالِثُ: مِثْلُ رَأْسِ الشَّاةِ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : هُوَ الَّذِي ذَهَبَ بِثِيَابِ مُوسَى ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَكَ: ارْفَعْ هَذَا الْحَجَرَ ، فَلِي فِيهِ قُدْرَةٌ ، وَلَكَ فِيهِ مُعْجِزَةٌ ، فَكَانَ إِذَا احْتَاجَ إِلَى الْمَاءِ ضَرَبَهُ .

    وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِضَرْبِ أَيِّ: حَجَرٍ كَانَ ، وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ .

    تَقْدِيرُ مَعْنَاهُ: فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ ، فَلَمَّا عَرَّفَ بِقَوْلِهِ: "فانفجرت" أَنَّهُ قَدْ ضَرَبَ ، اكْتَفَى بِذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ الضَّرْبِ . وَمِثْلُهُ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ . [ الشُّعَرَاءِ: 63 ] قَالَهُ الْفَرَّاءُ . وَلَمَّا كَانَ الْقَوْمُ اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا ، أَخْرَجَ اللَّهُ لَهُمُ اثْنَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا ، وَلِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ تَشَاحَنٌ فَسَلِمُوا بِذَلِكَ مِنْهُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَعْثَوْا .

    الْعَثْوُ: أَشَدُّ الْفَسَادِ ، يُقَالُ: عَثِيَ ، وَعَثَا ، وَعَاثَ . قَالَ ابْنُ الرِّقَاعِ


    لَوْلَا الْحَيَاءُ وَأَنَّ رَأْسِيَ قَدْ عَثَا فِيهِ الْمَشِيبُ لَزُرْتُ أُمَّ الْقَاسِمِ
    [ ص: 88 ]
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ . أَيِ: الْزَمُوهَا ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الذِّلَّةُ وَالذُّلُّ: بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الْجِزْيَةُ . وَفِي الْمَسْكَنَةِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْفَقْرُ وَالْفَاقَةُ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ ، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: هِيَ فَقْرُ النَّفْسِ .

    وَالثَّانِي: الْخُضُوعُ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَاءُوا أَيْ: رَجَعُوا . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْغَضَبِ .

    وَقِيلَ إِلَى جَمِيعِ مَا أَلْزَمُوهُ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَغَيْرِهَا .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ .

    كَانَ نَافِعٌ يَهْمِزُ "النبيين" وَ"الانبياء" وَ"النُّبُوَّةَ" وَمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ ، إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ فِي الْأَحْزَابِ: تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ 53 إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ 50 . وَإِنَّمَا تَرَكَ الْهَمْزَ فِي هَذَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ لِاجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ مَكْسُورَتَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، وَبَاقِي الْقُرَّاءِ لَا يَهْمِزُونَ جَمِيعَ الْمَوَاضِعِ . قَالَ الزَّجَّاجَ: الْأَجْوَدُ تَرْكُ الْهَمْزِ . وَاشْتِقَاقُ النَّبِيِّ مِنْ: نَبَّأَ ، وَأَنْبَأَ ، أَيْ: أَخْبَرَ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ: نَبَا يَنْبُو: إِذَا ارْتَفَعَ ، فَيَكُونُ بِغَيْرِ هَمْزٍ: فَعِيلًا ، مِنَ الرِّفْعَةِ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَقْتُلُ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَمِائَةَ نَبِيٍّ ، ثُمَّ يُقِيمُونَ سُوقَ بَقْلِهِمْ فِي آَخِرِ النَّهَارِ .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (18)

    صــ91 إلى صــ 96

    قَوْلُهُ تَعَالَى: بِغَيْرِ الْحَقِّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: بِغَيْرِ جُرْمٍ ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَوْكِيدٌ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الصِّفَةِ لِقَتْلِهِمْ أَنَّهُ ظُلْمٌ ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: [ ص: 91 ] رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ فَوَصَفَ حُكْمَهُ بِالْحَقِّ ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانُوا يَعْتَدُونَ الْعُدْوَانُ: أَشَدُّ الظُّلْمِ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الِاعْتِدَاءُ: مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ فِي كُلٍّ شَيْءٍ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا فِيهِمْ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قَوْمٌ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِعِيسَى قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِمُوسَى ، وَعَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ عِيسَى ، فَآَمَنُوا بِهِ وَعَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ مُحَمَّدٌ ، وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ ، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ الْإِسْلَامَ ، كَقِسِّ بْنِ سَاعِدَةَ ، وَبُحَيْرَا ، وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، وَسَلْمَانَ . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هَادُوا قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ هَادَوْا فِي اللُّغَةِ: تَابُوا . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْيَهُودَ سُمُّوا بِذَلِكَ ، لِقَوْلِ مُوسَى : هُدْنَا إِلَيْكَ ، وَالنَّصَارَى لِقَوْلِ عِيسَى: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ . وَقِيلَ سُمُّوا النَّصَارَى لِقَرْيَةٍ ، نَزَلَهَا الْمَسِيحُ ، اسْمُهَا: نَاصِرَةُ ، وَقِيلَ: لِتَنَاصُرِهِمْ .

    فَأَمَّا "الصَّابِئُون " فَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْهَمْزِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآَنِ . وَكَانَ نَافِعٌ يَهْمِزُ كُلَّ الْمَوَاضِعِ . قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الصَّابِئِينَ: الْخَارِجُونَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ ، يُقَالُ: صَبَأَ فَلَانٌ: إِذَا خَرَجَ مِنْ دِينِهِ . وَصَبَأَتِ النُّجُومُ: إِذَا طَلَعَتْ [وَصَبَأَ نَابُهُ: إِذَا خَرَجَ ] .

    وَفِي الصَّابِئِينَ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ [ ص: 92 ] أَحَدُهَا: أَنَّهُ صِنْفٌ مِنَ النَّصَارَى أَلْيَنُ قَوْلًا مِنْهُمْ ، وَهُمُ السَّائِحُونَ الْمُحَلِّقَةُ أَوْسَاطُ رُؤُوسِهِمْ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَوْمٌ بَيْنَ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ ، لَيْسَ لَهُمْ دِينٌ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَوْمٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .

    وَالرَّابِعُ: قَوْمٌ كَالْمَجُوسِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالْحَكَمُ .

    وَالْخَامِسُ: فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَؤُونَ الزَّبُورَ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ .

    وَالسَّادِسُ: قَوْمٌ يُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ ، وَيَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ ، وَيَقْرَؤُونَ الزَّبُورَ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

    وَالسَّابِعُ: قَوْمٌ يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَقَطْ ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ وَكِتَابٌ وَنَبِيٌّ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ آمَنَ فِي إِعَادَةِ ذِكْرِ الْإِيمَانِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ طَوَائِفَ مِنَ الْكُفَّارِ رَجَعَ قَوْلُهُ: (مَنْ آمَنَ) إِلَيْهِمْ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى مَنْ أَقَامَ عَلَى إِيمَانِهِ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِيمَانَ الْأَوَّلَ نُطْقُ الْمُنَافِقِينَ بِالْإِسْلَامِ . وَالثَّانِي: اعْتِقَادُ الْقُلُوبِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَمِلَ صَالِحًا .

    قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَقَامَ الْفَرَائِضَ .

    فَصْلٌ

    وَهَلْ هَذِهِ الْآَيَةُ مُحْكَمَةٌ أَمْ مَنْسُوخَةٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ فِي آَخَرِينَ ، وَقَدَّرُوا فِيهَا: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ، وَمَنْ آَمَنَ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا . وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ، ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

    الْخِطَابُ بِهَذِهِ الْآَيَةِ لِلْيَهُودِ . وَالْمِيثَاقُ: مِفْعَالٌ مِنَ التَّوَثُّقِ بِيَمِينٍ أَوْ عَهْدٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُؤَكِّدُ الْقَوْلَ .

    وَفِي هَذَا الْمِيثَاقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ ، فَكَرِهُوا الْإِقْرَارَ بِمَا فِيهَا ، فَرَفَعَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: أَعْطُوا اللَّهَ عَهْدًا لِيَعْمَلُنَّ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ ، فَلَمَّا جَاءَ بِهَا مُوسَى قَرَءُوا مَا فِيهَا مِنَ التَّثْقِيلِ ، امْتَنَعُوا مِنْ أَخْذِهَا ، فَرَفَعَ الطُّورَ عَلَيْهِمْ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الرُّسُلِ وَتَابِعِيهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ . وَالثَّالِثُ: ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ أَيْضًا ، فَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمِيثَاقُ يَوْمَ أَخَذَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ ظَهْرِ آَدَمَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الطَّوْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْجَبَلُ . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الطَّوْرُ: الْجَبَلُ بِالسُّرْيَانِي َّةِ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أُنْبِتَ مِنَ الْجِبَالِ فَهُوَ طُورٌ ، وَمَا لَمْ يَنْبُتْ فَلَيْسَ بِطُورٍ .

    وَأَيُّ الْجِبَالِ هُوَ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهُمَا: جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ فِلِسْطِينَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: جَبَلٌ نَزَلُوا بِأَصْلِهِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: الْجَبَلُ الَّذِي تَجَلَّى لَهُ رَبُّهُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .

    وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا رَفَعَ الْجَبَلَ عَلَيْهِمْ لِإِبَائِهِمُ التَّوْرَاةَ . وَقَالَ السُّدِّيُّ: لِإِبَائِهِمُ دُخُولَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ .

    وَفِي الْمُرَادِ بِالْقُوَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: الْجِدُّ وَالِاجْتِهَادُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: الطَّاعَةُ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالثَّالِثُ: الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالرَّابِعُ: الصِّدْقُ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .

    [ ص: 94 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: اذْكُرُوا مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ: ادْرُسُوا مَا فِيهِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَتَّقُونَ الْعُقُوبَةَ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أَيْ: أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ مِنْ بَعْدِ إِعْطَاءِ الْمَوَاثِيقِ لَتَأْخُذُنَّهُ بِجِدٍّ ، فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ بِالْعُقُوبَةِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ السَّبْتُ: الْيَوْمُ الْمَعْرُوفُ ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَمَعْنَى السَّبْتِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْقَطْعُ يُقَالُ: قَدْ سَبَتَ رَأْسَهُ: إِذَا حَلَقَهُ وَقَطَعَ الشَّعْرَ مِنْهُ ، وَيُقَالُ: نَعْلٌ سَبْتِيَّةٌ: إِذَا كَانَتْ مَدْبُوغَةً بِالْقَرْظِ مَحْلُوقَةَ الشَّعْرِ ، فَسُمِّيَ السَّبْتُ سَبْتًا ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَدَأَ الْخَلْقَ فِيهِ ، وَقَطَعَ فِيهِ بَعْضَ خَلْقِ الْأَرْضِ ، أَوْ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيهِ بِقَطْعِ الْأَعْمَالِ وَتَرْكِهَا . قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُمِّيَ سَبْتًا ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالْاسْتِرَاحَ ةِ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّهُ يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: سَبَتَ بِمَعْنَى: اسْتَرَاحَ .

    وَفِي صِفَةِ اعْتِدَائِهِمْ فِي السَّبْتِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْحِيتَانَ يَوْمَ السَّبْتِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ حَبَسُوهَا يَوْمَ السَّبْتِ وَأَخَذُوهَا يَوْمَ الْأَحَدِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَحْفِرُ الْحَفِيرَةَ; وَيَجْعَلُ لَهَا نَهْرًا إِلَى الْبَحْرِ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ فَتَحَ النَّهْرَ ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ يَوْمَ السَّبْتِ ، فَيُقْبِلُ الْمَوْجُ بِالْحِيتَانِ حَتَّى يُلْقِيَهَا فِي الْحَفِيرَةِ ، فَيُرِيدُ الْحُوتُ الْخُرُوجَ فَلَا يُطِيقُ ، فَيَأْخُذُهَا يَوْمَ الْأَحَدِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ .

    [ ص: 95 ] الْإِشَارَةُ إِلَى قِصَّةِ مَسْخِهِمْ .

    رَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نُودِيَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ . نُودُوا يَا أَهْلَ الْقَرْيَةِ ، فَانْتَبَهَتْ طَائِفَةٌ أَكْثَرُ مِنَ الْأُولَى ، ثُمَّ نُودُوا: يَا أَهْلَ الْقَرْيَةِ ، فَانْتَبَهَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلَ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ أَلَمْ نَنْهَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ بِرُؤُوسِهِمْ: بَلَى . قَالَ قَتَادَةُ: فَصَارَ الْقَوْمُ قِرَدَةً تَعَاوَى ، لَهَا أَذْنَابٌ بَعْدَمَا كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً .

    وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قَتَادَةَ: صَارَ الشُّبَّانُ قِرَدَةً ، وَالشُّيُوخُ خَنَازِيرَ ، وَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا ، وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ . وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانُوا نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْعُلَمَاءُ ، غَيْرَ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ تُمْسَخْ أَبْدَانُهُمْ ، وَهُوَ قَوْلٌ بَعِيدٌ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يُحْيَوْا عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَلَمْ يَحْيَاْ مَسْخٌ فِي الْأَرْضِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَنْسِلْ . وَزَعَمَ مُقَاتِلٌ أَنَّهُمْ عَاشُوا سَبْعَةَ أَيَّامٍ ، وَمَاتُوا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ ، وَهَذَا كَانَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: خَاسِئِينَ : الْخَاسِئُ فِي اللُّغَةِ: الْمُبْعَدُ ، يُقَالُ لِلْكَلْبِ اخْسَأْ ، أَيْ: تَبَاعَدْ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ .

    فِي الْمُكَنَّى عَنْهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْخَطِيئَةُ ، رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: الْعُقُوبَةُ ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَاءُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْمُسْخَةِ الَّتِي مُسِخُوهَا . وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الْقَرْيَةُ ، وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا الْأُمَّةُ الَّتِي مُسِخَتْ ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ ، وَالزَّجَّاجُ .

    وَفِي النَّكَالِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْعُقُوبَةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: الْعِبْرَةُ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا [ ص: 96 ] مِنَ الْقُرَى وَمَا خَلْفَهَا ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مِنَ الذُّنُوبِ ، وَمَا خَلْفَهَا: مَا عَمِلُوا بَعْدَهَا ، رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مِنَ السِّنِينَ الَّتِي عَمِلُوا فِيهَا بِالْمَعَاصِي ، وَمَا خَلْفَهَا: مَا كَانَ بَعْدَهُمْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لِئَلَّا يَعْمَلُوا بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ ، قَالَهُ عَطِيَّةُ .

    وَفِي الْمُتَّقِينَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مُتَّقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ ، وَذَكَرَهُ عَطِيَّةُ وَسُفْيَانُ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ .

    ذِكْرُ السَّبَبِ فِي أَمْرِهِمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ .

    رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ عَقِيمٌ لَا يُولَدُ لَهُ ، وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ ، وَكَانَ ابْنُ أَخِيهِ وَارِثَهُ ، فَقَتَلَهُ وَاحْتَمَلَهُ لَيْلًا ، فَأَتَى بِهِ حَيًّا آَخَرَ ، فَوَضَعَهُ عَلَى بَابِ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، ثُمَّ أَصْبَحَ يَدَّعِيهِ حَتَّى تَسَلَّحُوا ، وَرَكِبَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، فَأَتَوْا مُوسَى فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ ، فَأَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (19)

    صــ97 إلى صــ 102

    وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ وَابْنُ أَخٍ فَقِيرٍ ، فَخَطَبَ إِلَيْهِ ابْنَتَهُ ، فَأَبَى ، فَغَضِبَ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ عَمِّي ، وَلَآَخُذَنَّ مَالَهُ وَلَأَنْكِحَنَّ ابْنَتَهُ ، وَلَآَكُلَنَّ دِيَتَهُ ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: قَدْ قَدِمَ تُجَّارٌ فِي بَعْضِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَانْطَلِقْ مَعِي فَخُذْ لِي مِنْ تِجَارَتِهِمْ لَعَلِّي أُصِيبُ فِيهَا رِبْحًا ، فَخَرَجَ مَعَهُ ، فَلَمَّا بَلَغَا ذَلِكَ السَّبْطُ ، قَتَلَهُ الْفَتَى ، ثُمَّ رَجَعَ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ، جَاءَ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ عَمَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ ، فَإِذَا بِذَلِكَ السَّبْطِ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ ، فَأَمْسَكَهُمْ وَقَالَ: قَتَلْتُمْ عَمِّي وَجَعَلَ يَبْكِي [ ص: 97 ] وَيُنَادِي: وَاعَمَّاهُ . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَالَّذِي سَأَلَ مُوسَى أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الْبَيَانَ: الْقَاتِلُ . وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلِ الْقَوْمُ اجْتَمَعُوا فَسَأَلُوا مُوسَى ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ بِقَرَةٍ ، قَالُوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ ، وَالْكِسَائِيُّ : هُزُؤًا ، بِضَمِّ الْهَاءِ وَالزَّايِ وَالْهَمْزَةِ ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ ، وَإِسْمَاعِيلُ ، وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ ، وَالْفَرَّاءُ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ ، وَالْمُفَضَّلِ: هُزْءًا ، بِإِسْكَانِ الزَّايِ . وَرَوَاهُ حَفْصٌ بِالضَّمِّ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ ، وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ أَوَّلُهُ مَضْمُومٌ ، فَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُثَقِّلُهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَفِّفُهُ ، نَحْوُ الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ .

    وَإِنَّمَا انْتَفَى مِنَ الْهَزْءِ ، لِأَنَّ الْهَازِئَ جَاهِلٌ لَاعِبٌ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، قَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا سَأَلُوا: مَا هِيَ ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ بَقَرَةً يُحْيَا بِضَرْبِ بَعْضِهَا مَيِّتٌ .

    فَأَمَّا الْفَارِضُ فَهِيَ: الْمُسِنَّةُ ، يُقَالُ: فَرَضَتِ الْبَقَرَةُ فَهِيَ فَارِضٌ: إِذَا أَسَنَّتْ . وَالْبِكْرُ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَلِدُ ، وَالْعَوَانُ: دُونَ الْمُسِنَّةِ ، وَفَوْقَ الصَّغِيرِ . يُقَالُ: حَرْبٌ عَوَانٌ: إِذَا لَمْ تَكُنْ أَوَّلَ حَرْبٍ ، وَكَانَتْ ثَانِيَةً .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنَّ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ .

    فِي الصَّفْرَاءِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الصُّفْرَةِ ، وَهُوَ اللَّوْنُ الْمَعْرُوفُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ زَيْدٍ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَالزَّجَّاجُ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا السَّوْدَاءُ ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَرَدَّهُ جَمَاعَةٌ ، فَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هَذَا غَلَطٌ فِي نُعُوتِ الْبَقَرِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي نُعُوتِ الْإِبِلِ ، يُقَالُ: بَعِيرٌ أَصْفَرُ ، أَيْ: أَسْوَدُ ، لِأَنَّ السَّوْدَاءَ مِنَ الْإِبِلِ يَشُوبُ سَوَادَهَا صُفْرَةٌ ، [ ص: 98 ] وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقِعٌ لَوْنُهَا وَالْعَرَبُ لَا تَقُولُ: أَسْوَدُ فَاقِعٌ ، وَإِنَّمَا تَقُولُ: أَسْوَدُ حَالِكٌ ، وَأَصْفَرُ فَاقِعٌ .

    قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفَاقِعٌ نَعْتٌ لِلْأَصْفَرِ الشَّدِيدِ الصُّفْرَةِ ، يُقَالُ: أَصْفَرُ فَاقِعٌ ، وَأَحْمَرُ قَانِئٌ ، وَأَخْضَرُ نَاضِرٌ ، وَأَبْيَضُ يَقَقٌ ، وَأَسْوَدُ حَالِكٌ ، وَحُلْكُوكٌ وَدَجْوَجِيٌّ ، فَهَذِهِ صِفَاتُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَلْوَانِ .

    وَمَعْنَى تَسُرُّ النَّاظِرِينَ تُعْجِبُهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَدَّدَ الْقَوْمُ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ: "لَوْلَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَثْنُوا لَمْ يُعْطَوُا الَّذِي أُعْطُوا" يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهُمْ .

    وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ .

    وَفِي الْمُرَادِ بِاهْتِدَائِهِم ْ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا: الْمُهْتَدُونَ إِلَى الْبَقَرَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . وَالثَّانِي: إِلَى الْقَاتِلِ ، ذَكَرَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يُذِلْهَا الْعَمَلُ فَتُثِيرُ الْأَرْضَ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ: فِي الدَّوَابِّ: دَابَّةٌ ذَلُولٌ: بَيِّنَةُ الذِّلِّ بِكَسْرِ الذَّالِ ، وَفِي النَّاسِ: رَجُلٌ ذَلِيلٌ بَيِّنُ الذُّلِّ بِضَمِّ الذَّالِ .

    تُثِيرُ الأَرْضَ تُقَلِّبُهَا لِلزِّرَاعَةِ ، وَيُقَالُ لِلْبَقَرَةِ: الْمُثِيرَةُ . قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقِفْنَ عَلَى ذَلُولٍ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَيْسَتْ بِذَلُولٍ فَتُثِيرُ الْأَرْضَ ، وَحَكَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ أَبَا حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِي َّ أَجَازَ الْوَقْفَ عَلَى ذَلُولٍ ، ثُمَّ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ جِدًّا ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الَّتِي تُثِيرُ الْأَرْضَ يُعْدَمُ مِنْهَا سَقْيُ الْحَرْثِ; وَمَتَى أَثَارَتِ الْأَرْضَ كَانَتْ ذَلُولًا . وَمَعْنَى: وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ: لَا يَسْتَقِي عَلَيْهَا الْمَاءَ لِسَقْيِ الزَّرْعِ .

    [ ص: 99 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: مُسَلَّمَةٌ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهُمَا: مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: مُسْلَّمَةٌ مِنَ الْعَمَلِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالثَّالِثُ: مُسْلَّمَةٌ مِنَ الشِّيَةِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَابْنُ زَيْدٍ . وَالرَّابِعُ: مُسَلَّمَةُ الْقَوَائِمِ وَالْخَلْقِ ، قَالَهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ .

    فَأَمَّا الشِّيَةُ ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَشْيُ فِي اللُّغَةِ: خَلْطُ لَوْنٍ بِلَوْنٍ . وَيُقَالُ: وَشِيتَ الثَّوْبُ أُشِيهِ شِيةً وَوَشْيًا ، كَقَوْلِكَ: وُدَيْتُ فُلَانًا أَدِيهِ دِيَةً . وَنُصِبَ: شِيَةَ فِيهَا ، عَلَى النَّفْيِ . وَمَعْنَى الْكَلَامِ: لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ يُفَارِقُ سَائِرَ لَوْنِهَا . وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَسَانِيُّ : لَوْنُهَا لَوْنٌ وَاحِدٌ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْآَنَ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ ، وَهُوَ حَدُّ الزَّمَانَيْنِ ، حَدُّ الْمَاضِي مِنْ آَخِرِهِ ، وَحَدُّ الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ أَوَّلِهِ ، وَمَعْنَى جِئْتَ بِالْحَقِّ بَيَّنْتَ لَنَا .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: لِغَلَاءِ ثَمَنِهَا ، قَالَهُ ابْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ . وَالثَّانِي: لِخَوْفِ الْفَضِيحَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ الْقَاتِلِ مِنْهُمْ ، قَالَهُ وَهْبٌ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَكَثُوا يَطْلُبُونَ الْبَقَرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى وَجَدُوهَا عِنْدَ رِجُلٍ ، فَأَبَى أَنْ يَبِيعَهَا إِلَّا بِمَلْءِ مَسْكِهَا ذَهَبًا ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَعُبَيْدَةَ ، وَوَهْبٍ ، وَابْنِ زَيْدٍ ، وَالْكَلْبِيِّ ، وَمُقَاتِلٍ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ . فَأَمَّا السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ غَلَا ثَمَنُهَا ، فَيُحْتَمَلُ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَالثَّانِي: لِإِكْرَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَاحِبَهَا ، فَإِنْ كَانَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ . فَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ شَابٌّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَرًّا بِأَبِيهِ ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَطْلُبُ سِلْعَةً هِيَ عِنْدَهُ ، فَانْطَلَقَ لِيَبِيعَهُ إِيَّاهَا ، فَإِذَا مَفَاتِيحُ حَانُوتِهِ مَعَ أَبِيهِ ، وَأَبُوهُ نَائِمٌ ، فَلَمْ يُوقِظْهُ ، وَرَدَّ الْمُشْتَرِي ، فَأَضْعَفَ لَهُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ ، فَرَجَعَ إِلَى أَبِيهِ ، فَوَجَدَهُ نَائِمًا ، فَعَادَ إِلَى الْمُشْتَرِي فَرَدَّهُ ، فَأَضْعَفَ لَهُ الثَّمَنَ ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهَمَا حَتَّى ذَهَبَ الْمُشْتَرِي ، فَأَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى بِرِّهِ بِأَبِيهِ أَنْ نَتَجَتْ لَهُ بَقَرَةً مِنْ بَقَرَةٍ ، تِلْكَ الْبَقَرَةُ .

    [ ص: 100 ] وَرُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَنَّ فَتًى كَانَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ ، وَكَانَ يَحْتَطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَإِذَا بَاعَهُ تَصَدَّقَ بِثُلْثِهِ ، وَأَعْطَى أَمَّهُ ثُلْثَهُ ، وَأَبْقَى لِنَفْسِهِ ثُلْثَهُ ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ يَوْمًا: إِنِّي وَرِثْتُ مِنْ أَبِيكَ بَقَرَةٍ ، فَتَرَكْتُهَا فِي الْبَقَرِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ ، فَإِذَا أَتَيْتَ الْبَقَرَ ، فَادْعُهَا بِاسْمِ إِلَهِ إِبْرَاهِيمَ ، فَذَهَبَ فَصَاحَ بِهَا ، فَأَقْبَلَتْ ، فَأَنْطَقَهَا اللَّهُ ، فَقَالَتِ: ارْكَبْنِي يَا فَتَى ، فَقَالَ [الْفَتَى: إِنَّ أُمِّي ] لَمْ تَأْمُرْنِي بِهَذَا . فَقَالَتْ: أَيُّهَا الْبَرُّ بِأُمِّهِ! لَوْ رَكِبْتَنِي لَمْ تَقْدِرْ عَلِيَّ ، فَانْطَلَقَ ، فَلَوْ أَمَرَتُ الْجَبَلَ أَنْ يَنْقَلِعَ مِنْ أَصْلِهِ [وَيَنْطَلِقَ مَعَكَ ] لَانْقَلَعَ لِبِرِّكَ بِأُمِّكَ . فَلَمَّا جَاءَ بِهَا قَالَتْ أُمُّهُ: بِعْهَا بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ عَلَى رِضًى مِنِّي ، فَبَعَثَ اللَّهُ مَلِكًا فَقَالَ: بِكُمْ هَذِهِ؟ قَالَ: بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ عَلَى رِضًى مِنْ أُمِّي . قَالَ: لَكَ سِتَّةٌ وَلَا تَسْتَأْمِرْهَا ، فَأَبَى ، وَعَادَ إِلَى أُمِّهِ فَأَخْبَرَهَا ، فَقَالَتْ: بِعْهَا بِسِتَّةٍ عَلَى رِضًى مِنِّي ، فَجَاءَ الْمَلِكُ فَقَالَ: خُذِ اثْنَيْ عَشَرَ وَتَسْتَأْمِرْه َا ، فَأَبَى ، وَعَادَ إِلَى أُمِّهِ فَأَخْبَرَهَا ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ! ذَاكَ مَلِكٌ ، فَقُلْ لَهُ: بِكَمْ تَأْمُرُنِي أَنْ أَبِيعَهَا؟ فَجَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ: يَا فَتَى يَشْتَرِي بَقْرَتَكَ هَذِهِ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ لِقَتِيلٍ يُقْتَلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ .
    وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا هَذِهِ الْآَيَةُ مُؤَخَّرَةٌ فِي التِّلَاوَةِ ، مُقَدَّمَةٌ فِي الْمَعْنَى ، لِأَنَّ السَّبَبَ فِي الْأَمْرِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ قَتْلُ النَّفْسِ ، فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ، فَسَأَلْتُمْ مُوسَى فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً . وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا [ الْكَهْفِ: 1 ] أَرَادَ: أَنْزَلَ الْكِتَابَ قَيِّمًا ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ، فَأَخَّرَ الْمُقَدَّمَ وَقَدَّمَ الْمُؤَخَّرَ ، لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ . قَالَ الْفَرَزْدَقُ:


    إِنَّ الْفَرَزْدَقَ صَخْرَةٌ مَلْمُومَةٌ طَالَتْ فَلَيْسَ تَنَالُهَا الْأَوْعَالَا


    أَرَادَ: طَالَتِ الْأَوْعَالُ . وَقَالَ جَرِيرٌ:


    طَافَ الْخَيَالُ وَأَيْنَ مِنْكَ لِمَامًا فَارْجِعْ لِزَوْرِكَ بِالسَّلَامِ سَلَامًا
    [ ص: 101 ] أَرَادَ: طَافَ الْخَيَالُ لِمَامًا ، وَأَيْنَ هُوَ مِنْكَ؟ وَقَالَ الْآَخَرُ:


    خَيْرٌ مِنَ الْقَوْمِ الْعُصَاةُ أَمِيرُهُمْ يَا قَوْمِ فَاسْتَحْيُوا النِّسَاءَ الْجُلَّسِ


    أَرَادَ: خَيْرٌ مِنَ الْقَوْمِ الْعُصَاةُ النِّسَاءَ فَاسْتَحْيَوْا مِنْ هَذَا .

    وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَادَّارَأْتُمْ : اخْتَلَفْتُمْ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: ادَّارَأْتُمْ ، بِمَعْنَى: تَدَارَأْتُمْ ، أَيْ: تَدَافَعْتُمْ ، وَأَلْقَى بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ، تَقُولُ: دَرَأْتُ فُلَانًا: إِذَا دَفَعْتَهُ ، وَدَارَيْتَهُ: إِذَا لَايَنْتَهُ ، وَدَرَيْتَهُ إِذَا خَتَلْتَهُ ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ ، لِأَنَّهُمَا مِنْ مَخْرَجٍ وَاحِدٍ ، فَأَمَّا الَّذِي كَتَمُوهُ; فَهُوَ أَمْرُ الْقَتِيلِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .

    مَنْ قَالَ: أَقَامُوا فِي طَلَبِهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً; قَالَ: ضَرَبُوا قَبْرَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ ، قَالَ: ضَرَبُوا جِسْمَهُ قَبْلَ دَفْنِهِ . وَفِي الَّذِي ضَرَبَ بِهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ ضَرَبَ بِالْعَظْمِ الَّذِي يَلِي الْغُضْرُوفَ ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: وَذَلِكَ الْعَظْمُ هُوَ أَصْلُ الْأُذُنِ ، وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ لَا يَكْسِرُ ذَلِكَ الْعَظْمَ مِنْ أَحَدٍ فَيَعِيشُ . قَالَ الزَّجَّاجُ: الْغُضْرُوفُ فِي الْأُذُنِ ، وَهُوَ مَا أَشْبَهَ الْعَظْمَ الرَّقِيقَ مِنْ فَوْقِ الشَّحْمَةِ ، وَجَمِيعٌ أَعْلَى صَدَفَةِ الْأُذُنِ ، وَهُوَ مُعَلَّقُ الشُّنُوفِ ، فَأَمَّا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ خَلْفَ الْأُذُنِ النَّاتِئَانِ مِنْ مُؤَخَّرِ الْأُذُنِ ، فَيُقَالُ لَهُمَا: الْخَشَّاوَانِ ، وَأَحَدُهُمَا: خَشَّاءُ ، وَخُشُشَاءُ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ ضَرَبَ بِالْفَخْذِ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ، وَعِكْرِمَةَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَذَكَرَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ أَنَّهُ الْفَخْذُ الْأَيْمَنُ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْبِضْعَةُ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ . رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ الذَّنَبُ ، رَوَاهُ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ [ ص: 102 ] . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ عَجْبُ الذَّنَبِ ، وَهُوَ عَظَمٌ بُنِيَ عَلَيْهِ الْبَدَنُ ، رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .

    وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ اللِّسَانُ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ .

    وَفِي الْكَلَامِ اخْتِصَارٌ تَقْدِيرُهُ: فَقُلْنَا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا لِيَحْيَا ، فَضَرَبُوهُ فَيَحْيَ ، فَقَامَ فَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ .

    وَفِي قَاتِلِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: بَنُو أَخِيهِ ، رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: ابْنَا عَمِّهِ ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ قَاتِلَهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ . وَالثَّالِثُ: ابْنُ أَخِيهِ ، قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ وَعُبَيْدَةُ . وَالرَّابِعُ: أَخُوهُ ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى : فِيهِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِقَوْمِ مُوسَى . وَالثَّانِي: لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ ، احْتَجَّ عَلَيْهِمْ إِذْ جَحَدُوا الْبَعْثَ بِمَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَآَيَاتُهُ: عَجَائِبُهُ .
    ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهِ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ : قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ: قَسَتْ فِي اللُّغَةِ: غَلُظَتْ وَيَبِسَتْ وَعَسَتْ ، فَقَسْوَةُ الْقَلْبِ: ذِهَابُ اللِّينِ وَالرَّحْمَةِ وِالْخُشُوعِ مِنْهُ . وَالْقَاسِي: وَالْعَاسِي: الشَّدِيدُ الصَّلَابَةِ . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَسَتْ وَعَسَتْ وَعَتَتْ وَاحِدٌ ، أَيْ: يَبِسَتْ .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    الحلقة (20)

    صــ103 إلى صــ 108

    وَفِي الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ . وَالثَّانِي: الْقَاتِلُ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ الَّذِينَ قَتَلُوهُ بَعْدَ أَنْ سَمَّى قَاتِلَهُ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ . وَفِي كَافِ "ذَلِكَ" ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ . وَالثَّانِي: [ ص: 103 ] إِلَى كَلَامِ الْقَتِيلِ ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلْقَاتِلِ ، ذَكَرَهُمَا الْمُفَسِّرُونَ . وَالثَّالِثُ: إِلَى مَا شُرِحَ مِنَ الْآَيَاتِ مِنْ مَسْخِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ ، وَرَفْعِ الْجَبَلِ وَانْبِجَاسِ الْمَاءِ ، وَإِحْيَاءِ الْقَتِيلِ ، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ .

    وَفِي "أَوْ" أَقْوَالٌ ، هِيَ بِعَيْنِهَا مَذْكُورَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ حَجَرٍ يَنْفَجِرُ مِنْهُ الْمَاءُ ، وَيَنْشَقُّ عَنْ مَاءٍ ، أَوْ يَتَرَدَّى مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ ، فَمِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .

    فِي الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآَيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، خَاصَّةً ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمُؤْمِنُونَ ، تَقْدِيرُهُ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ تُصْدِّقُوا نَبِيَّكُمْ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمُ الْأَنْصَارُ ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَسْلَمُوا أَحَبُّوا إِسْلَامَ الْيَهُودِ لِلرَّضَاعَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ ، ذَكَرَهُ النَّقَّاشُ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَلِفُ "أَفتطمعون" أَلِفُ اسْتِخْبَارٍ ، كَأَنَّهُ آَيَسَهُمْ مِنَ الطَّمَعِ فِي إِيمَانِهِمْ .

    وَفِي سَمَاعِهِمْ لِكَلَامِ اللَّهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَرَؤُوا التَّوْرَاةَ فَحَرَّفُوهَا ، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ فِي آَخَرِينَ ، فَيَكُونُ سَمَاعُهُمْ لِكَلَامِ اللَّهِ بِتَبْلِيغِ نَبِيِّهِمْ ، وَتَحْرِيفِهِمْ : تَغْيِيرُ مَا فِيهَا . وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى ، فَسَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ كِفَاحًا عِنْدَ الْجَبَلِ ، فَلَمَّا جَاؤُوا إِلَى قَوْمِهِمْ قَالُوا: قَالَ لَنَا: كَذَا وَكَذَا ، وَقَالَ فِي آَخِرِ قَوْلِهِ: إِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا تَرْكَ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ; فَافْعَلُوا مَا تَسْتَطِيعُونَ . هَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ . وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمُ التِّرْمِذِيُّ صَاحِبُ "النَّوَادِرِ" هَذَا الْقَوْلُ إِنْكَارٌ شَدِيدٌ ، وَقَالَ إِنَّمَا خَصَّ [ ص: 104 ] بِالْكَلَامِ مُوسَى وَحْدَهُ ، وَإِلَّا فَأَيُّ مِيزَةٍ؟! وَجَعَلَ هَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَاهَا الْكَلْبِيُّ وَكَانَ كَذَّابًا .

    وَمَعْنَى (عَقَلُوهُ) سَمِعُوهُ وَوَعَوْهُ .

    وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ حَرَّفُوهُ . وَالثَّانِي: وَهُمْ يَعْلَمُونَ عِقَابَ تَحْرِيفِهِ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَه ُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَوَّلًا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ .

    هَذِهِ الْآَيَةُ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ ، كَانُوا إِذَا لَقُوا النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِين َ قَالُوا: آَمَنَّا ، وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، قَالُوا: أَتُحَدِّثُونَه ُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَعَطَاءٍ الْخُرَسَانِيِّ ، وَابْنِ زَيْدٍ ، وَمُقَاتِلٍ .

    وَفِي مَعْنَى بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: بِمَا قَضَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ ، وَالْفَتْحُ: الْقَضَاءُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ [ الْأَعْرَافِ: 89 ] قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ آَمَنُوا ثُمَّ نَافَقُوا ، فَكَانُوا يُحَدِّثُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا عُذِّبُوا بِهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتُحَدِّثُونَه ُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ . [مِنَ الْعَذَابِ ، لِيَقُولُوا: نَحْنُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْكُمْ ، وَأَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْكُمْ ] . وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: بِمَا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ: الَّذِي فَتَحَهُ عَلَيْهِمْ: مَا أَنْزَلُهُ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ الْمُسْلِمُ يَلْقَى حَلِيفَهُ ، أَوْ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مِنَ الْيَهُودِ ، فَيَسْأَلُهُ: أَتَجِدُونَ مُحَمَّدًا فِي كِتَابِكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ ، إِنَّهُ لَحَقٌّ . فَسَمِعَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَغَيْرُهُ ، فَقَالَ لِلْيَهُودِ فِي السِّرِّ: أَتُحَدِّثُونَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ، أَيْ: بِمَا بَيَّنَ لَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَمْرٍ مُحَمَّدٍ لِيُخَاصِمُوكُم ْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ بِاعْتِرَافِكُم ْ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؟! [ ص: 105 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: عِنْدَ رَبِّكُمْ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى: فِي حُكْمِ رَبِّكُمْ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [ النُّورِ: 13 ] . وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
    وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ يَعْنِي: الْيَهُودَ . وَالْأُمِّيُّ: الَّذِي لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِالْأُمِّيِّ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ عَلَى خِلْقَةِ الْأُمَّةُ الَّتِي لَمْ تَتَعَلَّمِ الْكِتَابَ ، فَهُوَ عَلَى جِبِلَّتِهِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فِي الرِّجَالِ كَانَتْ دُونَ النِّسَاءِ . وَقِيلَ: لِأَنَّهُ عَلَى مَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ قَالَ قَتَادَةُ: يَدْرُونَ مَا فِيهِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلا أَمَانِيَّ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ عَلَى تَشْدِيدِ الْيَاءِ ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ ، وَأَبُو جَعْفَرٍ ، بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ ، وَكَذَلِكَ: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [ الْبَقَرَةِ: 111 ] وَ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [ النِّسَاءِ: 123 ] فِي أُمْنِيَّتِهِ [ الْحَجِّ: 52 ] وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ [ الْحَدِيدِ: 14 ] كُلُّهُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ مِنْ "امانيهم" . وَلَا بِخِلَافٍ فِي فَتْحِ يَاءِ "الْأَمَانِي" .

    وَفِي مَعْنَى الْكَلَامِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْأَكَاذِيبُ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا أَمَانِي: يُرِيدُ إِلَّا قَوْلًا يَقُولُونَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ كَذِبًا . وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ . وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ قَالَ لِابْنِ دَأْبٍ وَهُوَ يُحَدِّثُ: أَهَذَا شَيْءٌ رَوَيْتَهُ ، أَمْ شَيْءٌ تَمَنَّيْتَهُ؟ يُرِيدُ: افْتَعَلْتَهُ؟ .

    وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمَانِيَّ: التِّلَاوَةُ ، فَمَعْنَاهُ: يَعْلَمُونَ فِقْهَ الْكِتَابِ ، إِنَّمَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا يَسْمَعُونَهُ يُتْلَى عَلَيْهِمْ . قَالَ الشَّاعِرُ:


    تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ


    وَهَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَالزَّجَّاجِ .

    [ ص: 106 ] . وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا أَمَانِيُّهُمْ عَلَى اللَّهِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ قَالَ مُقَاتِلٌ: لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ ، فَإِنْ كَذَبَ الرُّؤَسَاءُ أَوْ صَدَّقُوا ، تَابَعُوهُمْ .
    قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ

    هَذِهِ الْآَيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ [الَّذِينَ ] بَدَّلُوا التَّوْرَاةَ وَغَيَّرُوا صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا . وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَسُفْيَانَ . فَأَمَّا الْوَيْلُ: فَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "وَيْلٌ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ ، يَهْوِي الْكَافِرُ فِيهِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ" وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَيْلُ: كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ لِكُلِّ مَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ ، وَيَسْتَعْمِلُه َا هُوَ أَيْضًا . وَأَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ: الْعَذَابُ ، وَالْهَلَاكُ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَيُقَالُ: مَعْنَى الْوَيْلِ الْمَشَقَّةُ مِنَ الْعَذَابِ . وَيُقَالُ: أَصْلُهُ: وَيْ لِفُلَانٍ ، أَيْ: حُزْنٌ لِفُلَانٍ ، فَكَثُرَ الِاسْتِعْمَالُ لِلْحَرْفَيْنِ ، فَوَصَلَتِ اللَّامُ بِ "وَيْ" وَجُعِلَتْ حَرْفًا وَاحِدًا ، ثُمَّ خَبَّرَ عَنْ "وَيْلٍ" بِلَامٍ أُخْرَى ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ . وَالْكِتَابُ هَاهُنَا: التَّوْرَاةُ . وَذِكْرُ الْأَيْدِي تَوْكِيدٌ ، وَالثَّمَنُ الْقَلِيلُ: مَا يَفْنَى مِنَ الدُّنْيَا .

    وَفِيمَا يَكْسِبُونَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَوَّضَ مَا كَتَبُوا . وَالثَّانِي: إِثْمُ مَا فَعَلُوا .
    وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهِ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً وَهْمُ: الْيَهُودُ . وَفِيمَا عَنَوْا بِهَذِهِ الْأَيَّامِ قَوْلَانِ .

    [ ص: 107 ] أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ .

    وَلِمَاذَا قَدَّرُوهَا بِأَرْبَعِينَ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: بَيْنَ طَرَفَيْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ مَسِيرَةَ كُلِّ سَنَةٍ فِي يَوْمٍ ، ثُمَّ يَنْقَضِي الْعَذَابُ وَتَهْلَكُ النَّارُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: عَتَبَ عَلَيْنَا رَبُّنَا فِي أَمْرٍ ، فَأَقْسَمَ لِيُعَذِّبَنَا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، ثُمَّ يُدْخِلَنَا الْجَنَّةَ ، فَلَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا عَدَدُ الْأَيَّامِ الَّتِي عَبَدُوا فِيهَا الْعِجْلَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

    وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَةِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَبْعَةَ آَلَافٍ ، سَنَةٍ وَالنَّاسُ يُعَذَّبُونَ لِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعَذَابُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
    قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا أَيْ: عُهِدَ إِلَيْكُمْ أَنَّهُ يُعَذِّبُكُمْ إِلَّا هَذَا الْمِقْدَارَ؟!
    بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً : بَلَى: بِمَنْزِلَةِ "نَعَمْ" إِلَّا أَنَّ "بَلَى" جَوَابُ النَّفْيِ ، وَنَعَمْ ، جَوَابُ الْإِيجَابِ ، قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: مَا لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ ، فَقَالَ الْآَخَرُ: نَعَمْ ، كَانَ تَصْدِيقًا أَنَّ لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ . وَلَوْ قَالَ: بَلَى; كَانَ رَدًّا لِقَوْلِهِ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَإِنَّمَا صَارَتْ "بَلَى" تَتَّصِلُ بِالْجَحْدِ ، لِأَنَّهَا رُجُوعٌ عَنِ الْجَحْدِ إِلَى التَّحْقِيقِ ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ "بَلْ" وَ"بَلْ" سَبِيلُهَا أَنْ تَأْتِيَ بَعْدَ الْجَحْدِ ، كَقَوْلِهِمْ: مَا قَامَ أَخُوكَ ، بَلْ أَبُوكَ . وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: أَلَا تَقُومُ؟ فَقَالَ لَهُ: بَلَى; أَرَادَ: بَلْ أَقُومُ ، فَزَادَ الْأَلِفَ عَلَى "بَلْ" لِيَحْسُنَ السُّكُوتُ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: بَلْ; كَانَ يَتَوَقَّعُ كَلَامًا بَعْدَ بَلْ ، فَزَادَ الْأَلِفَ لِيَزُولَ هَذَا التَّوَهُّمُ عَنِ الْمُخَاطَبِ . [ ص: 108 ] وَمَعْنَى: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً : بَلْ مَنَ كَسَبَ . قَالَ الزَّجَّاجُ: بَلَى: رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً وَالسَّيِّئَةُ هَاهُنَا: الشِّرْكُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَأَبِي وَائِلٍ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُقَاتِلٍ .

    وَأَحَاطَتْ بِهِ أَيْ: أَحْدَقَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ . وَقَرَأَ نَافِعٌ "خَطِيئَاتُهُ" بِالْجَمْعِ . قَالَ عِكْرِمَةُ: مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا ، وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: الْخَطِيئَةُ: صِفَةٌ لِلشِّرْكِ . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَحَاطَتْ بِحَسَنَتِهِ خَطِيئَتُهُ ، أَيْ: أَحْبَطَتْهَا ، مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْمُحِيطَ أَكْثَرُ مِنَ الْمُحَاطِ بِهِ ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [ التَّوْبَةِ: 49 ] وَقَوْلُهُ أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [ الْكَهْفِ: 29 ] أَوْ يَكُونُ مَعْنَى أَحَاطَتْ بِهِ: أَهْلَكَتْهُ ، كَقَوْلِهِ: إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ [ يُوسُفَ: 66 ] .
    وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَذَا الْمِيثَاقُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: تَعْبُدُونَ وَقَرَأَ عَاصِمٌ ، وَنَافِعٌ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ: بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لَهُمْ . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ : بِالْيَاءِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا أَيْ: وَوَصَّيْنَاهُم ْ بِآَبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِم ْ خَيْرًا . قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أُوصِيكَ بِهِ خَيْرًا ، وَآَمُرُكَ بِهِ خَيْرًا وَالْمَعْنَى: آَمُرُكَ أَنْ تَفْعَلَ بِهِ ، ثُمَّ تُحْذَفُ "أَنْ" فَيُوصَلُ الْخَيْرُ ، بِالْوَصِيَّةِ وَالْأَمْرِ . قَالَ الشَّاعِرُ


    عَجِبْتُ مِنْ دَهْمَاءَ إِذْ تَشْكُونَا وَمِنْ أَبِي دَهْمَاءَ إِذْ يُوصِينَا

    خَيْرًا بِهَا كَأَنَّنَا جَافَوْنَا


    وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ; فَهُوَ بِرُّهُمَا . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَنْفُضْ ثَوْبَكَ فَيُصِيبَهُمَا الْغُبَارُ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا بَرَّ وَالِدَهُ مَنْ شَدَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ . وَقَالَ عُرْوَةُ: لَا تَمْتَنِعْ عَنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •