خصائص الفقه



الفقه: هو الجانب العملي من الشريعة.

والشريعة: كل ما شرع الله - تعالى - لعباده من الأحكام، سواء بالقرآن، أم بالسنة، وسواء ما تعلق منها بكيفية الاعتقاد، ويختص بها علم الكلام أو علم التوحيد، أو بكيفية العمل، ويختص بها علم الفقه.

وقد بدأت نشأة الفقه تدريجيًا في حياة النبي وفي عصر الصحابة، وكان سبب نشوئه وظهوره المبكر بين الصحابة هو حاجة الناس الماسة إلى معرفة أحكام الوقائع الجديدة، وظلت الحاجة إلى الفقه قائمة في كل زمان لتنظيم علاقات الناس الاجتماعية، ومعرفة الحقوق والواجبات لكل إنسان، وإيفاء المصالح المتجددة، ودرء المضار والمفاسد المتأصلة والطارئة.
ويمتاز الفقه الإسلامي بعدة مزايا أو خصائص أهمها ما يأتي: [راجع فجر الإسلام لأحمد أمين، وتاريخ الفقه الإسلامي للسايس وتاريخ التشريع للخضري، والسياسة الشرعية لعبد الرحمن تاج، والأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص136-154، المدخل الفقهي للأستاذ مصطفى الزرقا: ف/2-4 و90.]:
1 ـ أساسه الوحي الإلهي: يتميز الفقه عن غيره من القوانين الوضعية بأن مصدره وحي الله - تعالى - المتمثل في القرآن والسنة النبوية، فكل مجتهد مقيد في استنباطه الأحكام الشرعية بنصوص هذين المصدرين، وما يتفرع عنهما مباشرة، وما ترشد إليه روح الشريعة، ومقاصدها العامة، وقواعدها ومبادئها الكلية، فكان بذلك كامل النشأة، سوي البنية، وطيد الأركان، لاكتمال مبادئه، وإتمام قواعده، وإرساء أصوله في زمن الرسالة وفترة الوحي على النبي، قال - تعالى -: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ) [المائدة: 3] ولم يبق بعدئذ إلا التطبيق وفق المصالح البشرية التي تنسجم مع مقاصد الشريعة.
2 ـ شموله كل متطلبات الحياة: يمتاز الفقه الإسلامي عن القوانين بأنه يتناول علاقات الإنسان الثلاث: علاقته بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بمجتمعه، لأنه للدنيا والآخرة، ولأنه دين ودولة، وعام للبشرية وخالد إلى يوم القيامة، فأحكامه كلها تتآزر فيها العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملة، لتحقق – بيقظة الضمير، والشعور بالواجب، ومراقبة الله - تعالى - في السر والعلن، واحترام الحقوق – غاية الرضا والطمأنينة والإيمان والسعادة والاستقرار، وتنظيم الحياة الخاصة والعامة وإسعاد العالم كله.
ومن أجل تلك الغاية: كانت الأحكام العملية (الفقه) وهي التي تتعلق بما يصدر عن المكلف من أقوال وأفعال وعقود وتصرفات، شاملة نوعين:
الأول: أحكام العبادات: من طهارة وصلاة وصيام وحج وزكاة ونذر ويمين، ونحو ذلك مما يقصد به تنظيم علاقة الإنسان بربه. وقد ورد في القرآن عن العبادات بأنواعها نحو 140 آية.
الثاني: أحكام المعاملات: من عقود وتصرفات وعقوبات وجنايات وضمانات، وغيرها مما يقصد به تنظيم علاقات الناس بعضهم ببعض، سواء أكانوا أفرادًا أم جماعات. وهذه الأحكام تتفرع إلى ما يلي:
أ ـ الأحكام التي تسمى حديثًا بالأحوال الشخصية: وهي أحكام الأسرة من بدء تكوينها إلى نهايتها من زواج وطلاق ونسب ونفقة وميراث، ويقصد بها تنظيم علاقة الزوجين والأقارب بعضهم ببعض.
ب ـ الأحكام المدنية: وهي التي تتعلق بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيع وإجارة ورهن وكفالة وشركة ومداينة ووفاء بالالتزام، ويقصد بها تنظيم علاقات الأفراد المالية وحفظ حق المستحق. وقد ورد في المجموعة المدنية في القرآن نحو سبعين آية.
جـ ـ الأحكام الجنائية: وهي التي تعلق بما يصدر من المكلف من جرائم، وما يستحقه عليها من عقوبات، ويقصد بها حفظ حياة الناس وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم، وتحديد علاقة المجني عليه بالجاني وبالأمة، وضبط الأمن. وقد ورد في المجموعة الجنائية في القرآن نحو ثلاثين آية.
د ـ أحكام المرافعات أو الإجراءات المدنية أو الجنائية: وهي التي تتعلق بالقضاء والدعوى وطرق الإثبات بالشهادة واليمين والقرائن وغيرها، ويقصد بها تنظيم الإجراءات لإقامة العدالة بين الناس. وقد ورد في القضاء والشهادة وما يتعلق بها في القرآن نحو عشرين آية.
هـ ـ الأحكام الدستورية: وهي التي تتعلق بنظام الحكم وأصوله، ويقصد بها تحديد علاقة الحاكم بالمحكوم، وتقرير ما للأفراد والجماعات من حقوق، وما عليها من واجبات.
و ـ الأحكام الدولية: وهي التي تتعلق بتنظيم علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول في السلم والحرب، وعلاقة غير المسلمين المواطنين بالدولة، وتشمل الجهاد والمعاهدات. ويقصد بها تحديد نوع العلاقة والتعاون والاحترام المتبادل بين الدول.
ز ـ الأحكام الاقتصادية والمالية: وهي التي تتعلق بحقوق الأفراد المالية والتزاماتهم في نظام المال، وحقوق الدولة وواجباتها المالية، وتنظيم موارد الخزينة ونفقاتها. ويقصد بها تنظيم العلاقات المالية بني الأغنياء والفقراء، وبين الدولة والأفراد.
وهذه تشمل أموال الدولة العامة والخاصة، كالغنائم والأنفال والعشور (ومنها الجمارك) والخراج (ضريبة الأرض) والمعادن الجامدة والسائلة وموارد الطبيعة المخلوقة، وأموال المجمع كالزكاة والصدقات والنذور والقروض، وأموال الأسرة كالنفقات والمواريث والوصايا، وأموال الأفراد كأرباح التجارة، والإجارة، والشركات، وكل مرافق الاستغلال المشروع، والإنتاج، والعقوبات المالية، كالكفارات والديات والفدية.
ح ـ الأخلاق أو الآداب (المحاسن والمساوئ): وهي التي تحد من جموح الإنسان، وتشيع أجواء الفضيلة والتعاون والتراحم بين الناس.
وكان سبب اتساع الفقه هو ما جاء في السنة النبوية من الأحاديث الكثيرة في كل باب من هذه الأبواب.
3 ـ اتصاف بالصفة الدينية حلاً وحرمة: يفترق الفقه عن القانون الوضعي في أن كل فعل أو تصرف مدني في المعاملات يتصف بوجود فكرة الحلال والحرام فيه، مما يؤدي إلى اتصاف أحكام المعاملات بوصفين:
أحدهما – دنيوي يبنى على ظاهر الفعل أو التصرف، ولا علاقة بالأمر المستتر الباطني، وهو الحكم القضائي: لأن القاضي يحكم بما هو مستطاع. وحكمه لا يجعل الباطل حقًا، والحق باطلاً في الواقع، ولا يحل الحرام ولا يحرم الحلال في الواقع. ثم إن القضاء ملزم، بعكس الفتوى.
والثاني – حكم أخروي يبنى على حقيقة الشيء والواقع، وإن كان خفيًا عن الآخرين، ويعمل به فيما بين الشخص والله - تعالى -. وهو الحكم الدياني. وهذا ما يعتمده المفتي، والفتوى: هي الإخبار عن الحكم الشرعي من غير إلزام.
ومنشأ هذه التفرقة: حديث النبي فيما يرويه مالك وأحمد وأصحاب الكتب الستة: »إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن [ألحن بحجته أي أفطن وأحسن بيانًا لها] بحجته من بعض، فأقضي له على نحوٍ مما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها« وسبب وجود هذين الوصفين: أن الشريعة وحي الله، لها ثواب وعقاب أخروي، وهي نظام روحي ومدني معًا، لأنها جاءت لخيري الدنيا والآخرة، أو الدين والدنيا.
وتظهر ثمرة التفرقة مثلاً في الطلاق والأيمان والديون والإبراء والإكراه ونحوها، وبناء عليه، اختلفت وظيفة القاضي عن وظيفة المفتي، فالقاضي يصدر حكمه بناء على الأمر الظاهر فقط، والمفتي يراعي الباطن والظاهر معًا، فإذا اختلفا بني حكمه على الباطن إذا بان له.
فمن طلق امرأته خطأ غير قاصد الطلاق، يقع منه قضاء ولا يقع ديانة، ومن أبرأ مدينه دون أن يعلمه بذلك، ثم رفع الدعوى على المدين مطالبًا بسداد الدين، فالقضاء يقضي له بقبض الدين، والفتوى تمنعه من ذلك لوجود الإبراء.
وقد أدى وجود هذه النزعة الدينية أو الوازع الديني الداخلي إلى إضفاء صفة الهيبة والاحترام للأنظمة الشرعية، وإلى صيانة الحقوق بجانب النزعة المادية التي تلاحظها فقط القوانين الوضعية؛ لأن الشريعة ترعى الاعتبارين معًا: الاعتبار القضاي والاعتبار الدياني.
4 ـ ارتباط الفقه بالأخلاق: يختلف الفقه عن القانون في تأثره بقواعد الأخلاق، فليس للقانون الوضعي إلا غاية نفعية وهي العمل على حفظ النظام واستقرار المجتمع، وإن أهدرت بعض مبادئ الدين والأخلاق.
أما الفقه فيحرص على رعاية الفضيلة والمثل العليا والأخلاق القويمة، فتشريع العبادات من أجل تطهير النفس وتزكيتها وإبعادها عن المنكرات؛ وتحريم الربا بقصد بث روح التعاون والتعاطف بين الناس، وحماية المحتاجين من جشع أصحاب المال؛ والمنع من التغرير والغش في العقود وأكل المال بالباطل، وإفساد العقود بسبب الجهالة ونحوها من عيوب الرضا، من أجل إشاعة المحبة وتوفير الثقة، ومنع المنازعة بين الناس، والسمو عن أدران المادة، واحترام حقوق الآخرين؛ والأمر بتنفيذ العقود قصد به الوفاء بالعهد؛ وتحريم الخمر للحفاظ على مقياس الخير والشر وهو العقل.
وإذا تآزر الدين والخلق مع التعامل، تحقق صلاح الفرد والمجتمع، وسعادتهما معًا، وتهيأ سبيل الخلود في النعمى في عالم الآخرة، والأمل بالخلود هو مطمح البشرية من قديم الزمان. وبذلك تكون غاية الفقه هي خير الإنسان حقًا في الحال والمآل، وإسعاده في الدنيا والآخرة.
ثم إن التأثر بالدين والخلق يجعل الفقه أكثر امتثالاً وأشد احترامًا وطاعة، أما القوانين فيكثر الإفلات من سلطانها.
5 ـ الجزاء على المخالفة دنيوي وأخروي: يمتاز الفقه عن القانون الذي يقرر جزاء دنيويًا فقط على المخالفة بأن لديه نوعين من الجزاء على المخالفات: الجزاء الدنيوي من عقوبات مقدرة (الحدود) وغير مقدرة (التعازير)، على الأعمال الظاهرة للناس، والجزاء الأخروي على أعمال القلوب غير الظاهرة للناس، كالحقد والحسد وقصد الإضرار بالآخرين إذا اتخذ مظهرًا إيجابيًا، وعلى الأعمال الظاهرة التي لم يعاقب عليها في الدنيا، إما بسبب إهمال عقوبتها، كتعطيل الحدود اليوم في أغلب الدول، أو لعدم إثباتها في الظاهر، أو لعدم اطلاع السلطة عليها.
كذلك الجزاء في الفقه إيجابي وسلبي، إيجابي لأن فيه ثوابًا على طاعة الأوامر وامتثالها، وسلبي لأنه يقرر ثوابًا على اجتناب النواهي والمعاصي والكف عنها. أما القانون فيقتصر على تقرير جزاءات سلبية على مخالفة أحكامه، دون تقرير ثواب على حالة امتثال قواعده.
6 ـ النزعة في الفقه جماعية: أي أن فيه مراعاة لمصلحة الفرد والجماعة معًا، دون أن تطغى واحدة على الأخرى، ومع ذلك تقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد عند تعارض المصلحتين، كما أنه عند تعارض مصلحة شخصين: تقدم مصلحة من يصيبه أكبر الضررين، تطبيقًا لقاعدة "لا ضرر ولا ضرار" و "يدفع أكبر الضررين بالأخف منهما".
فمن أمثلة رعاية مصلحة الجماعة: تشريع العبادات من صلاة وصوم ونحوهما، وحل البيع وتحريم الربا، وتحريم الاحتكار ثم البيع بثمن المثل، ومشروعية التسعير الجبري، وإقامة الحدود على أخطر المنكرات، وتنظيم الأسرة، ورعاية حقوق الجار، والوفاء بالعقود، والبيع الجبري للمصلحة العامة كبناء المساجد والمدارس والمشافي، وإنشاء المقابر، وتوسيع الطرق ومجاري الأنهار.
ومن أمثلة تقييد حق الفرد عند ضرر الجماعة، أو حدوث ضرر أكبر: عدم إلزام الزوجة بطاعة زوجها إذا أضرَّ بها، لقوله - تعالى -: (وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ)
، وعدم إطاعة الحاكم إذا أمر بمعصية، أو تنكر للمصلحة العامة؛ لأن الطاعة في المعروف، ولقول رسول الله فيما رواه أحمد: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره، ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة ".

ومن أمثلته: تقييد جواز الوصية بثلث المال منعًا من إضرار الورثة، لقول النبي لسعد بن أبي وقاص فيما يرويه البخاري ومسلم: "الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة، يتكففون الناس"أي فقراء يسألون الناس بأكفهم.
ومن أمثلته: ترك الأراضي المفتوحة بيد أهلها على أن يدفعوا ضريبة الجزية والخراج، توفيرًا لمورد عام للخزينة، ورعاية لمصلحة المسلمين العامة. ومنه تشريع الشفعة للشريك أو للجار دفعًا للضرر الذي قد يحدث من المشتري الجديد. ومنه إمرار الماء في أرض الغير لإرواء الأرض البعيدة عن مجرى الماء. ونحو ذلك من الأمثال التي تصدر عن مبدأ واحد في الإسلام، وهو أن مصدر الحق: هو الله الذي لا يمنحه لأحد إلا لغرض حكيم هو تحقيق الخير للفرد وللمجتمع معًا.
7 ـ الفقه صالح للبقاء والتطبيق الدائم: إن فقه المبادئ الخالدة لا يتغير كالتراضي في العقود، وضمان الضرر، وقمع الإجرام وحماية الحقوق، والمسؤولية الشخصية، أما الفقه المبني على القياس ومراعاة المصالح والأعراف، فيقبل التغير والتطور بحسب الحاجات الزمنية، وخير البشرية، والبيئات المختلفة زمانًا ومكانًا، مادام الحكم في نطاق مقاصد الشريعة وأصولها الصحيحة، وذلك في دائرة المعاملات لا في العقائد والعبادات، وهذا هو المراد بقاعدة "تتغير الأحكام بتغير الأزمان ".
8 ـ إن الغاية من توطئة الفقه وتعبيد طرق الوصول إليه هي الإفادة الكاملة منه على الصعيد الفردي، وعلى الصعيد الرسمي باستمداد القوانين في كل بلاد الإسلام منه؛ لأن غايته خير الإنسان وإسعاده في الدارين، أما غاية القوانين الحالية فهي مجرد استقرار المجتمع.
وقد اشتمل الفقه الإسلامي على فروع القوانين المختلفة كما بينا، ويمكن معرفة حكم مشكلات العصر كالتأمين ونظام المصارف ونظام البورصات وقواعد النقل الجوي والبحري ونحوها بالقواعد الفقهية الكلية، والاجتهاد المستند إلى القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف وغيرها، كما يمكن صياغة الفقه على أساس النظريات العامة كما هو الشأن في دراسة القوانين، مثل نظرية الضمان، ونظرية الضرورة، ونظرية العقد، ونظرية الملكية، والمؤيدات الشرعية المدنية والجزائية ونظرية الحق، والتعسف في استعمال الحق، والظروف الطارئة وغيرها. وأجاز بعض الفقهاء خلافًا للأكثرية تخصيص النصوص بالعرف كعدم إلزام المرأة الشريفة القدر بإرضاع ولدها عند المالكية [والتحقيق أن هذا من قبيل تفسير النص الغامض أو المجمل بالعرف، وليس من قبيل التخصيص]، ومثل أخذ أبي يوسف بالعرف في مقياس الأموال الربوية كيلاً أو وزنًا لتحقيق المساواة وعدمها، فإذا تبدل عرف التعامل، فأصبح بيع المال الربوي كالقمح والشعير وزنيًا بعد أن كان كيليًا، أو العكس، عمل به، وينظر حينئذ للتساوي وزنًا أو كيلاً بحسب المتعارف بين الناس.
كما أجاز بعضهم تغير الحكم لتغير علته كإيقاف سهم المؤلفة قلوبهم [فتح القدير: 2/14 وما بعدها]، واعتماد حساب أوائل الشهور العربية على الحساب، لا على الرؤية [رسالة أحمد شاكر في أوائل الشهور العربية].
وأجاز آخرون تغير الحكم بالضرورة أو الحاجة دفعًا للحرج والضرر عن الناس بشرط توافر معنى الضرورة والحاجة شرعًا، والترخيص بالقدر اللازم فقط لإزالة الضرورة وتحقيق الحاجة، لأن »الضرورة تقدر بقدرها« [انظر كتابنا نظرية الضرورة الشرعية] والضرورة: هي التي تهدد المرء بهلاك نفسه أو نسله، أو تلف ماله، أو ذهاب عقله إذا لم يقدم على الشيء الممنوع. والحاجة: ما يترتب على عدم استعمال الشيء الممنوع حرج ومشقة تصيب الإنسان في نفسه أو ولده أو ماله أو عقله.
والعمل بالفقه واجب إلزامي؛ لأن المجتهد يجب عليه أن يعمل بما أداه إليه اجتهاده، وهو بالنسبة إليه حكم الله - تعالى -. وعلى غير المجتهد أن يعمل بفتوى المجتهد، إذ ليس أماه طريق آخر لمعرفة الحكم الشرعي سوى الاستفتاء: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ). وإنكار حكم من أحكام الشريعة التي ثبتت بدليل قطعي، أو زعم قسوة حكم ما كالحدود مثلاً، أو ادعاء عدم صلاحية الشريعة للتطبيق، يعتبر كفرًا وردة عن الإسلام. أما إنكار الأحكام الثابتة بالاجتهاد المبني على غلبة الظن فهو معصية وفسق وظلم؛ لأن المجتهد بذل أقصى جهده بمعرفة الحق وبيان حكم الله - تعالى -، بعيدًا عن أي هوى شخصي، أو مأرب نفعي، أو طلب سمعة أو شهرة زائفة، وإنما مستنده الدليل الشرعي، ورائده الحق، وشعاره الأمانة والصدق والإخلاص.
وسبيل العودة إلى العمل بالفقه: هو تقنينه أي صياغته في مواد مبسطة تيسيرًا لرجوع القضاة إليه، وتوحيدًا لأحكام القضاة، وتسهيلاً لأمر المتقاضين بمعرفة الحكم الذي يتقاضى على أساسه. ويتم هذا بواسطة لجنة من علماء المذاهب لانتقاء الحكم من أي مذهب بحسب ما يرى من المصلحة، ويكون عمل اللجنة جادًا وسريعًا، حتى إذا ما انتهت من أعمالها أصدر الحاكم – وهنا العقدة – أمرًا باعتماد القانون المستمد من الفقه، تجاوبًا مع تطلعات الناس بالرجوع إلى الشريعة وفقه القرآن والسنة، وفي ذلك راحة للنفوس، وطمأنينة للقلوب تزول بها تلك الازدواجية بين الدين والحياة والأنظمة السائدة.
ولعل في مثل هذا المؤلَّف ما ييسر الطريق أمام هؤلاء المقننين، وليس في الأمر صعوبة إذا صدقت النية وتوافرت العزيمة، وكان الحاكم جادًا في تنفيذ هذه الخطوة الجريئة التي لا تتم إلا بصدق الإسلام، والاقتناع الحر، والقدرة على مواجهة التحديات والتخرصات والأضاليل.
منقول