أقسام الاجتهاد
عبد الله الشهراني
قسَّم الفقهاء – رحمهم الله – الاجتهاد إلى قسمين:
-الأول: الاجتهاد التَّـام: وهو استفراغُ القوة النظرية حتى يحس الناظر من نفسه العجزَ عن المزيد فيه. [1]
-الثاني: الاجتهاد الناقص: وهو النظر المطلق في تعرَّف الحكم. وتختلف مراتبُه بحسب الأحوال.
مثال ذلك: من ضاع منه درهم في التراب فقلَّبه برجله فلم يجد شيئاً فتركه وراح، وآخر جاء بغربال فغربل الترابَ حتى يجد الدرهمّ، أو يغلب على ظنِّه أنه لن يلقاه. فالأول اجتهاد قاصر، والثاني اجتهاد تام. [2]
تنبيـه: الاجتهاد المعتدُّ به خلافاً ووفاقاً. هو الاجتهاد الأول – الاجتهاد التام -، أما الاجتهاد القاصر فليس معتبراً ولذا قال الآمدي - رحمه الله - عنه:"فإنه لا يُعدُّ في اصطلاح الأصوليين اجتهاداً معتبراً". أ.هـ[3]
أقسـام المجتهدين:
قسم الفقهاء – يرحمهم الله – المجتهدين إلى قسمين:
-أولهما: المجتهد المستقل, وهو الفقيه على الحقيقة، ذو الأهلية التامة، الذي يستقلُّ بإدراك الأحكام من أدلتها، بشروط مضى ذكرُها.وقد حكي جماعةٌ من الأصوليين انقراضَ المجتهدِ المستقل، حتى قال الرافعي _فيما ذكره عنه الزركشُّي [4]_:"الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم"أ.هـ.وقال الغزُّالي في (الوسيط)"قد خلا العصر عن المجتهد المستقل"أ.هـ. وقال ابن الصلاح الشافعي:"ومنذُ دهر طويلٍ طوي بساط المفتي المستقل المطلق"أ.هـ.[5]
-ثانيهما: المجتهد غير المستقل، أو ما يسمى: بالمجتهد المنتسب؛ إذا بعد استقرار المذاهب وحفظها لم يكن ثمَّ إلا منتسبون لتلك المذاهب، ولذا يرى جمٌّ غفير من أهل العلم انحصارَ الحق في هذه المذاهب، وعليه قالوا: لا يجوز أن يقع الاجتهاد إلا فيها.
والمجتهد المنتسب على أربعة أحوال [6]:
الأولى: لا يقلد إمامه، وإنما سلك طريقتَه في الاجتهاد، وكان على سبيله فانتسب إليه بذلك، كذا قيل. ولم يُسلَّم ذلك. قال ابن الصلاح:"ودعوى انتفاء التقليد عنهم مطلقاً لا يستقيم"أهـ.
"وفتوى المفتي في هذه الحالة: ُيعمل بها، ويعتدُّ بها في الإجماع والاختلاف"[7].

الثانية: مجتهد في مذهب إمامه، يستقل بتقرير مذهبه بالدليل، ولا يجاوز في أدلته أصولَ إمامه وقواعده، ويسميه بعضهم: مجتهدَ الوجوه."وله أن يفتي فيما لا نص فيه لإمامه بما يخرِّجه على أصوله، وإليه مفزع المفتين من مُدد طويلة"كما قاله النووي – رحمه الله_[8].
الثالثة: مجتهد في مذهب إمامه، فقيه النفس، حافظ لمذهبه، عارف بادلته، قائم بتقريرها، يصوِّر، ويحرِّر، ويرجح، لكنه قصَّر عن رُتبه أصحاب الوجوه؛ إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم، وإما لكونه لم يرتض في التخريج بالاستنباط كارتياضهم، أو غير ذلك.
الرابعة: مجتهد منتسب لمذاهب إمامه، يحفظه، وينقله، ويفهم الواضحات من المسائل، فهو ضابط لمذهب إمامه. فيعتمد على نقله وفتواه فيما يحكيه من مسطورات مذهبه، وقصر عن رتبه من سبق؛ وذلك لضعفه في تقرير أدلته، وتحرير مسائله، و أقيسته.
فهذه أصناف المفتين خمسة: يشترط في كل صنف حفظ المذهب، وفقه النفس، فلا يجوز الإفتاء لمن كان دون ذلك، كما لا يجوز السؤالُ لمن قصُر عن هذه الرتب.ولذلك يقول النووي _- رحمه الله -_:"فمن تصدى للفتيا وليس بهذه الصفة: فقد باء بأمر عظيم"أهـ.[9] والله المستعان! ما أوحش الزمان حين عزَّ علينا بالفقهاء.
لَحَق:
انشغال الناس بالدنيا، وإعراضهم عن سلوك الطرق المفضية للاجتهاد: هو السبب الرئيس في نُدرة الفقهاء في هذه الأزمنة. قال مجد الدين في كتابه"تلقيح الأفهام"_فيما نقله عنه الزركشي في بحره [10]_:"عزَّ المجتهد في هذه الأعصار، وليس ذلك لتعذر حصول آلة الاجتهاد، بل لإعراض الناس في اشتغالهم عن الطريق المفضية إلى ذلك"أهـ.
إذا كان ذلك في زمنه - رحمه الله - فكيف بزمان قلَّ فيه العلم، وانتشر فيه الجهل، وظهر الإعراض عن العلم وحملته!! إلا من شاء الله له هداية وتوفيقاً.
----------
[1]الإحكام للآمدي 2/396
[2]شرح مختصر الروضة للطوفي 3/756
[3]الإحكام للآمدي 2/396
[4]البحر المحيط 6/207
[5]صفة المفتي والمستفتي 91
[6]انظر صفة المفتي والمستفتي [91] فما بعدها، والمجموع للنووي [72] فما بعدها.
[7]المجموع للنووي 1/72
[8]المجموع للنووي 1/73
[9] المجموع للنووي1/75
[10]البحر المحيط 6/208