الحكم على الناس بين الإفراط والتفريط









نصر رمضان


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد جاءت شريعةُ الإسلام وسطًا بين الإفراط والتفريط، وبين الغلو والتقصير، قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة:143)، والوسط العدل، فأعدل الأمور الوسط البعيد عن الأطراف، والوسط من كل شيءٍ خياره، والوسط بمعنى أنهم متوسطون في الدين بين الإفراط والتفريط، وأما الغلو والإفراط الذي هو الإسراف والتعدي، والتفريط الذي هو التواني والتقصير؛ فليس مِن منهج أهل الحق.

فشريعة الإسلام وسطٌ بين الإفراط والتفريط، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، والوسطية هي منهج أهل الحق: الذي هو حق بين باطلين، واعتدال بين طرفين؛ ذلك أن صراط الله مستقيم، وسبل الضلالة تتشعب عن يمينه وشماله؛ فمَن كان على ذلك الصراط فهو على الوسطية المحمودة.

ولقد حذر -سبحانه- مِن الغلو في الدين ومجاوزة الحد، فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ) (النساء:171)، قال علي -رضي الله عنه-: "لا يُرى الجاهل إلا مُفَرِّطًا أو مُفْرِطًا"، وقال الإمام أحمد: "لا تغلوا في كل شيء، حتى الحب والبغض"، وقال الطبري: "وأصل الغلو في كل شيء مجاوزة حده"، فالحق وسط بين الإفراط والتفريط؛ فلا غلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "قال بعض السلف: ما أمر الله -تعالى- بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريطٍ وتقصير، وإما إلى مجاوزةٍ وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر، وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين: وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل منهم جدًّا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه".

ومما انحرف فيه الكثير مِن المسلمين؛ فضلًا عمَن ينتسب إلى الالتزام: تقييم الناس والحكم عليهم الذي مال فيه الكثيرون عن الحق ميلًا واضحًا، إما بغلوٍ وإفراط وإطراء، وإما بتفريطٍ وظلمٍ وجفاء!

إن الحكم على الناس لا يكون على أساس الأهواء الشخصية، بل لا بد مِن التجرد لله -تعالى- وأن يكون الدافع إلي ذلك شرعيًّا، والغاية من ذلك إرادة الخير، لا للتشفي والانتقام والانتصار للنفس، فإن التجرد لله في الأقوال والأفعال، أصلٌ من أصول الحكم على الخلق، فمَن لم يكن مقصده وجه الله، ومحبة ظهور الحق، والنصح للمسلمين، فإن عمله مردود غير مقبول، وهو مأزور غير مأجور، (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة:5).

وكذلك يجب أن يكون الحكم على الناس بعلمٍ وعدل، لا بجهلٍ وظلم، فمَن لا علم عنده ولا بصيرة لا يجوز له أن يتصدر لذلك أبدًا، بل عليه أن ينأى بنفسه عن أمرٍ ليس من أهله، قال الذهبي: "الكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة، تام الورع".

وقال شيخ الإسلام: "والله قد أمرنا ألا نقول إلا الحق، وألا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط"، وقال ابن القيم: "على المتكلم في هذا الباب وغيره: أن يكون مصدر كلامه عن العلم بالحق، وغايته: النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولإخوانه المسلمين. وإن جعل الحق تبعًا للهوى؛ فسد القلب، والعمل، والحال، والطريق... فالعلم والعدل: أصل كل خير، والظلم والجهل: أصل كل شر".

قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين َ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) (النساء:135)، فالهوى مِن النوازع الخفية التي تتسلل إلى قلب العبد، وهو بابٌ عريض مِن أبواب الضلال لا يثمر في أحكام المرء إلا الجور والظلم، أو الغلو في التزكية والمدح، فمتبع الهوى لابد من أن يضل عن سبيل الله، سواء كان ذلك عن علمٍ أو عن جهل، ولا بد أن يظلم، إما بالقول أو الفعل؛ "فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضي إذا حصل ما يرضاه ويهواه، ويغضب إذا ما حصل ما يغضب له بهواه... ولم يكن مقصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصده الحمية لنفسه أو طائفته أو الرياء" (مجموع الفتاوى).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ نَصَرَ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَهُوَ كَالْبَعِيرِ الَّذِي رُدِيَ فَهُوَ يَنْزِعُ بِذَنَبِهِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، بمعنى: أنه قد وقع في الإثم وهلك؛ كالبعير إذا تردى في بئر، فصار ينزع بذنبه، ولا يقدر على الخلاص.

فمما يجب أن يتحلى به المسلم: أن يكون عدلًا في مدحه، عدلًا في ذمه، لا يحمله الهوى على الإفراط في المدح، ولا الإفراط في الذم، (وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).

جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال له: "نكتب عن محمد بن منصور الطوسي؟ فقال: إذا لم نكتب عن محمد بن منصور، فعمن يكون ذلك -مرارًا-؟! فقال له الرجل: إنه يتكلم فيك: فقال أحمد: رجل صالح ابتلي فينا، فما نعمل"، وسئل علي بن المديني عن أبيه، فقال: "اسألوا غيري. فقالوا: سألناك، فأطرق ثم رفع رأسه، وقال: هذا هو الدين، أبي ضعيف".