اختصاصه صلى الله عليه وسلم بنزول القرآن الكريم[1]

فالقرآن الكريم هو المعجزة العظمى الخالدة التي أرسل الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وسلم وفيه الحجة الدامغة على نبوته ورسالته، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 174].
فسمي الرسول صلى الله عليه وسلم "برهانًا؛ لأَن وظيفته، إِقامة الحجة، وإِظهار البرهان على تحقيق الحق وإِبطال الباطل، وقيل المراد بالبرهان: القرآن، عبر عنه تارةً بالبرهان؛ لأَنه حجة على صحة نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم الذي جاءَ به لإِحقاق الحق وإِبطال الباطل، وتارة أَخرى بالنور المبين؛ لأَنه ينير طريق الهداية أَمام الناس أَجمعين" [2].
فقد خاطبت الآية الكريمة الناس كافة بتذكيرهم بنعم الله تعالى عليهم، ومنها حجة الله عليهم وهي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والوحي الذي أنزله الله عليه، فأمرهم بالإيمان بالله تعالى، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، والاعتصام بمنهجه، والاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم، لِيَمُنَّ الله تعالى عليهم بأن يدخلهم في رحمة منه وفضل، وينجِّيهم من عذابه.
أوجه إعجاز القرآن الكريم:
لقد احتلت قضية الإعجاز القرآني مكانة كبيرة من الفكر الإسلامي على مر العصور إلى الآن، ولقد تدارسها كثير من العلماء، فكثُرت المؤلفات في مسائل إعجاز القرآن، ومن المعلوم أن للإعجاز القرآني في كل عصر دليلًا جديدًا على صدق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ويذكر البحث على سبيل المثال آراء بعض علماء المسلمين فيما يتعلق بالإعجاز القرآني، ومن هؤلاء:
(أ) الإمام: أبو بكر الباقلاني[3] رحمه الله تعالى:
فقد أكد الإمام الباقلاني في كتابه" إعجاز القرآن" أن إعجاز القرآن يرد إلى ثلاثة أوجه من الإعجاز:
" الوجه الأول: يتضمن الإخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر.
والوجه الثاني: أنه كان معلومًا من حال النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان أُميًّا لا يكتب، ولا يقرأ.
والوجه الثالث: أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه" [4].
فوجوه إعجاز القرآن الكريم كثيرة، ومن وجوه إعجازه أن الله سبحانه وتعالى أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو أمي، لم يخرج من مكانه وهو لا يقرأ ولا يكتب، ثم يخبر بالغيب، فتحدث عن قصص الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وماذا فعل معهم أقوامهم، ويتحدى العرب وهم أرباب الفصاحة والبلاغة أن يأتوا بمثله، أو أن يأتوا بعشر سور أو حتى بسورة فأعياهم ذلك، وتحدى أيضًا به غير العرب من وقت نزوله إلى قيام الساعة.
(ب) الإمام: أبو الحسن الماوردي[5] رحمه الله تعالى:
قال الإمام الماوردي: "والقرآن أول معجز دعا به محمد صلى الله عليه وسلم إلى نبوته، فصدع فيه برسالته وخص بإعجازه من جميع رسله وإن كان كلامًا ملفوظًا وقولًا محفوظًا لثلاثة أسباب صار بها من أخص إعجازه وأظهر آياته:
أحدهما: أن معجزة كل رسول موافقة للأغلب من أحوال عصره.
الثاني: أن المعجزة في كل قوم بحسب أفهامهم وعلى قدر عقولهم وأذهانهم.
الثالث: أن معجزة القرآن أبقى على الأعصار[6]، وأنشر في الأقطار من معجز يختص بحاضره، ويندرس[7] بانقراض عصره، وما دام إعجازه، فهو أحج وبالاختصاص أحق" [8].
فكتاب الله تعالى جاء لهداية الناس، وقد عظمه الله تعالى وحفظه وفضله على سائر الكتب السماوية، على أن يهتدوا به، ويعملوا بتشريعاته التي تلبي حاجات كل البشر في كل زمان ومكان؛ لأن الله تعالى الذي أنزله هو خالق البشر، العالم بما ينفعهم وما يضرهم.
قال الإمام العز بن عبدالسلام[9]: "معجزة كل نبي تصرمت وانقضت، ومعجزة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، وهي القرآن العظيم باقية إلى يوم الدين"[10].
وقد ذُكر في هذا المبحث اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم، مع أنه يشترك مع غيره من الرسل عليهم والسلام في نزول الكتب السماوية عليهم، "كصحف سيدنا إبراهيم عليه السلام، وإيتاء سيدنا داود عليه السلام زبورًا، والتوراة على سيدنا موسى عليه السلام، والإنجيل على سيدنا عيسى عليه السلام"؛ وذلك لما يمتاز به القرآن من خصائص، والتي منها:
تصديقه للكتب السابقة، ومهيمنًا وشاهدًا عليها، اشتمل على شرع صالح لكل زمان ومكان؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة: 48].
فأنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم، فأكمل به الدين ومشتملًا على الحق والصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله، ومصدقًا ومؤيدًا للكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل، المتضمنة ذكره ومدحه، وأنه جاء مهيمنًا وحاكمًا على ما قبله من الكتب، وشاهدًا عليها بما نزل فيها، وشاهدًا لها بالصحة والثبات في أصلها، ومبينًا حقيقة أمرها، وما طرأ عليها من نسيان وتحريف وتبديل" [11].
فالمعجزات التي أيَّد الله عز وجل بها عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من أعظم الأدلة والبراهين على صدقه، وقد أجرى الله على يديه الكثير من المعجزات التي تبين صدقه، وتقطع الريب في قلوب المترددين في صدق رسالته، ولكن المعجزة الكبرى الباقية للنبي صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[12].
ففي الحديث إشارة إلى أن "إعجاز القرآن الذي خص به صلى الله عليه وسلم، وإن كان كل من الأنبياء قد أُوتي من المعجزات ما يوجب الإيمان به على البشر"[13].
فقد أيَّد الله تعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالمعجزة الخالدة الباقية ما بقي الزمان، فقد كانت معجزات الرسل السابقين معجزات حسية لا تتجاوز فترة حياة النبي صاحب المعجزة ثم تندرس، ولم يبق منها إلا الخبر عنها، أما معجزة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فهي باقية؛ لأنها تخاطب العقل في كل زمان ومكان.
وجملة القول في اختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم بنزول القرآن الكريم:
أن أوجه الإعجاز في القرآن الكريم تتعدد بتعدد جوانب النظر فيه،‏ فكل آية،‏ وكل حزب‏،‏ وكل سورة من سورة طالت أم قصرت‏،‏ تحتوي على أمور تخص الجوانب العقائدية أو التعبدية‏،‏ أو القيم الأخلاقية، أو وسائل تربوية،‏ وأحداث في الأزمان الماضية عن أخبار السابقين وأنبائه المستقبلية‏، ‏ويتميز عن كل صياغة بشرية، وبعجز الإنس والجن على أن يأتوا بشيء مثله أو من مثله، فكل هذه الأمور وغيرها أدلة على أن القرآن الكريم أنزله حكيم خبير، على قلب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فما أحوج الأمة المحمدية إلى قراءته وحفظه وفَهمه وتدبُّر معانيه، والعمل بما فيه، طاعة لله سبحانه وتعالى وتأسيًا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، حتى ينالوا خيرَي الدنيا والآخرة.
-----------------------
[1] القرآن: اسم لكلام الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معجزة له، وأنه محفوظ في الصدور مقروء بالألسنة مكتوب في المصاحف معلومة على الاضطرار سوره وآياته مبرأة من الزيادة والنقصان حروفه وكلماته؛ [انظر: الجامع لأحكام القرآن: القرطبي، ج1 ص80]؛ بتصرف.
[2] التفسير الوسيط: مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ج2 ص996؛ ( بتصرف).
[3] أبو بكر الباقلاني: القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القسم، المعروف بالباقلاني؛ صنف التصانيف الكثيرة المشهورة في علم الكلام وغيره، وكان في علمه أوحد زمانه وانتهت إليه الرياسة في مذهبه، وكان موصوفًا بجوده الاستنباط وسرعة الجواب، وسمع الحديث، وكان كثير التطويل في المناظرة مشهورًا بذلك عند الجماعة، وتوفي: سنة ثلاث وأربعمائة ببغداد؛ [انظر: وفيات الأعيان: شمس الدين ابن خلكان البرمكي، ج4 ص269.
[4] إعجاز القرآن: أبو بكر الباقلاني، ص33، تحقيق: السيد صقر، دار المعارف، مصر، ط5، 1997م.
[5] علي بن محمد بن حبيب الإمام الجليل القدر الرفيع الشأن، أبو الحسن الماوردي، صاحب الحاوي والإقناع في الفقه، وأدب الدين والدنيا، والتفسير، ودلائل النبوة، والأحكام السلطانية وقانون الوزارة وسياسة الملك وغير ذلك، وقال ابن خيرون: كان رجلًا عظيم القدر مقدمًا عند السلطان، أحد الأئمة، له التصانيف الحسان في كل فن من العلم، وقيل: إنه لم يظهر شيئًا من تصانيفه في حياته وجمعها في موضع، فلما دنت وفاته قال لمن يثق به الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإنما لم أظهرها لأني لم أجد نية خالصة، فإذا عاينت الموت ووقعت في النزع، فاجعل يدك في يدي، فإن قبضت عليها وعصرتها، فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها، فاعمِد إلى الكتب وألقها في دجلة، وإن بسطت يدي ولم أقبض على يدك، فاعلم أنها قد قُبلت، وأني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية، قال: ذلك الشخص فلما قاربت الموت وضعت يدي في يده، فبسطها ولم يقبض على يدي، فعلمت أنها علامة القبول، فأظهرت كتبه بعده، مات: سنة خمسين وأربعمائة؛ [انظر: البداية والنهاية: لابن كثير الدمشقي، ج12 ص80]، و[انظر: طبقات الشافعية الكبرى: السبكي، ج5 ص267].
[6] العصر: للدهر، والجمع أعصر وعصور، ويقال أيضًا في الواحد: عصر وعصر، والعصران: الليل والنهار؛ [انظر: كتاب الألفاظ: ابن السكيت، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، ص365؛ تحقيق: د. فخر الدين قباوة، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 1998م].
[7] دَرَسَ الدَّار معناه: بقي أثرها، وبقاء الأثر يقتضي انْمحاءه في نفسه، فلذلك فسَّر الدُّرُوس بالانمحاء؛ [انظر: المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصفهاني، ص: 311.
[8] أعلام النبوة: أبو الحسن الماوردي، ص76، (بتصرف).
[9] عز الدين أبو محمد عبدالعزيز بن عبدالسلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد بن المهذب السلمي الدمشقي الشافعي المعروف بابن عبدالسلام، مولده سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، وقال الذهبي: وتفقَّه على الإمام فخر الدين ابن عساكر، وقرأ الأصول والعربيَّة، ودرَّس وأفتى وصنَّف، وبرع في المذهب، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصده الطلبة من الآفاق وتخرَّج به أئمة، وله التصانيف المفيدة والفتاوى السديدة، وكان إمامًا ناسكًا عابدًا، وتولَّى قضاء مصر القديمة مدَّة، ودرَّس بعدة بلاد، ومات في عاشر جمادى الأولى سنة ستمائة وستون من الهجرة؛ [انظر: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: يوسف بن تغري بردي بن عبدالله الظاهري الحنفي، أبو المحاسن، جمال الدين، ج7 ص208، دار الكتب، مصر، ( د - ط، د - ت)].
[10] منية السول في تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ للإمام عز الدين عبدالعزيز بن عبدالسلام، ص22، تحقيق صلاح الدين المنجد، الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1401ه، 1981م.
[11] التفسير المنير: د/ وهبة الزحيلي، ج6 ص216.
[12] صحيح البخاري: كتاب: فضائل القرآن الكريم، باب: كيف نزل الوحي، ج6 ص182، رقم ح4981، وفي صحيح مسلم: كتاب الإيمان. باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.ج1 ص134، رقم ح152.
[13] تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم: محمد بن فتوح بن عبدالله بن فتوح بن حميد الأزدي الميورقي الحَمِيدي أبو عبدالله بن أبي نصر، ص319؛ تحقيق: الدكتورة: زبيدة محمد سعيد عبد العزيز، مكتبة السنة - القاهرة – مصر، ط1، 1415ه – 1995م.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/141637/#ixzz6WD8IHXlG