كُتَّاب القرآن الكريم[1]


كانت الكتابة قليلة بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ثبت أن عددًا منهم تعلموا القراءة والكتابة، وكتبوا القرآن، فمنهم من كتب صحيفة لنفسِه، ومنهم من كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر هؤلاء بل هو إمام الكتَّاب وسيدهم: زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن البراء: لما نزلت (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُو نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ادع لي زيدًا وليجئ باللوح والدواة والكتف أو الكتف والدواة»، ثم قال: «اكتب ﴿ لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ ﴾.. »[2].
وفي الصحيح كذلك أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما اختاراه لجمع القرآن وكتابته قال زيد رضي الله عنه: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه"[3].
قال ابن حجر - رحمه الله -: «نعم قد كتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة غير زيد بن ثابت أما بمكة فلجميع ما نزل بها لأن زيد بن ثابت إنما أسلم بعد الهجرة»؛ أي أن جميع ما نزل قبل الهجرة كتبه كتَّاب آخرون غير زيد الأنصاري المدني الذي أسلم بالمدينة وقال ابن حجر: «وأما بالمدينة فأكثر ما كان يكتب زيد ولكثرة تعاطيه ذلك أطلق عليه: الكاتب بلام العهد وقد كتب له قبل زيد بن ثابت أبيُّ بن كعب وهو أول من كتب له بالمدينة، وأول من كتب له من قريش بمكة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وممن كتب له في الجملة الخلفاء الأربعة، والزبير ابن العوام، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص بن أمية، وحنظلة بن الربيع الأسدي، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وعبد الله بن الأرقم الزهري، وشرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن رواحة»[4].
ومن كلام ابن حجر هذا يتبين لنا كثرة عدد مَنْ كتَب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وسائل الكتابة:
تنقسم وسائل الكتابة إلى قسمين:
1- ما يكتب عليه.
2- ما يكتب به.
لقد ورد في عدد من الأحاديث في "الصحيحين" وغيرهما ذكر أسماء بعض الأشياء التي كان يكتب عليها القرآن الكريم، وذكر هذه الأحاديث بألفاظها قد يطيل بنا المقام في هذا الموضع، ولكني سأكتفي بذكر هذه الأشياء مع تعريف كل واحد منها، وأشير قبل ذكرها إلى أنها تشترك كلها في شيء واحد ألا وهو العرض والانبساط، فكانوا يستعملون لكتابة القرآن كل شيء طاهر فيه عرض وانبساط ويسهل حمله نسبيًا، فمثلًا الحجارة الكبيرة كالصخور وما أشبهها أو الجدران لم يكن ليكتب عليها القرآن في ذلك العهد لأنها يصعب حملها وجمعها مع بعضها لتكون بمجموعها مجموع نص القرآن الكريم.
وهذه الأشياء في مجملها لم تكن خارجة عما يوجد في بيئتهم فهم يستخدمون أجزاء من النخلة أو قطعًا من الخشب والحجارة وما شابهها وإليك أخي الكريم ذكر مفصل لما نحن بصدد الحديث عنه:
- الكَرانيف: جمع كِرناف بكسر الكاف أو ضمها، الواحدة منه بالتأنيث يقال لها: كرنافه وكرنافة وكرنوفة قال ابن منظور: «أصول الكرب التي تبقى في جذع السعف وما قطع من السعف فهو الكرب»، ونَقل عن ابن سيده قوله في تعريفها: «أصل السعف الغليظ الملتزق بجذع النخلة»[5]. وقريبًا من قول ابن سيده قول الفيروز آبادي[6].
العُسُب: جمع عَسِيب، قال الفيروزآبادي: «جريدة من النخل مستقيمة دقيقة يكشط خوصها، والذي لم ينبت عليه الخوص من السعف»[7].
السعف: قال الفيروز آبادي: «جريد النخل أو ورقه، وأكثر ما يقال إذا يبست، وإذا كانت رطبة فشطبة»[8].
قلت: ويتبين من كلام العرب أن الجريدة اسم يشمل السعف والكرب والعسيب والكرناف والخوص، وأحيانًا قد يطلق على الجريدة: السعفة ولكن لو دققنا النظر في كلام أهل اللغة لما وجدنا تعريفًا دقيقًا لبعض هذه الأجزاء، فاسم العسيب قد يطلق على السعفة وقد يطلق على الجريدة بكاملها، وكذلك الكرب والكرناف لتقاربهما قد يشتبه تعريف أحدهما بالآخر، ولكن المفهوم من مجموع كلامهم أن الجريدة تنقسم إلى أقسام، ترتيبها بحسب بعدها عن الجذع على النحو الآتي:
1- السعف: وهو الجزء البعيد عن النخلة الأم الذي ينبت عليه الخوص.
2- العسيب: وهو الجزء الذي يليه أي هو أقرب إلى النخلة منه ولا ينبت عليه خوص بل ينبت عليه السُّلاء وهو شوك النخلة.
3 - الكرب: وهو الجزء العريض الذي يكون أقرب من العسيب إلى النخلة ولا ينبت عليه خوص ولا سُّلاء.
4 - الكرناف: وهو الجزء الأعرض الملاصق للنخلة وهذا الجزء هو الذي يبقى في النخلة بعد قطع الجريدة.
قلت: المقصود من ذلك كله ما كان يصلح للكتابة عليه بغض النظر عن كونه كرنافًا أو عسيبًا أو سعفًا فما كان فيه عرض وانبساط كتبوا عليه، وقد يصلح كرناف نخلة للكتابة لما فيه من العرض ولا يصلح كرناف نخلة أخرى لأنه غير عريض والناظر إلى جرائد النخل يجد الفرق واضحًا في العرض تبعًا لأنواع النخل.
5 - الرِّقاع: قال ابن حجر: «جمع رُقْعة وقد تكون من جلدٍ أو ورقٍ أو كاغد»[9].
قلت: وهذا يفيدنا أن الرقاع اسم عام يشمل ما يكتب عليه وهو ليس اسمًا لمادة معينة كانت تستعمل في الكتابة بل يشمل الورق والقماش والجلد، ولكن يبدو واضحًا أن الرقاع تطلق على ما كان فيه ليونة ويمكن طيه.
قال ابن منظور: «والرُّقعة واحدة الرِّقاع التي تكتب، وفي الحديث: (يجيء أحدكم يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق) أراد بالرقاع ما عليه من الحقوق المكتوبة في الرقاع»[10].
6- قطع الأديم هي جلود الحيوانات الطاهرة وربما كانت تمثل أفضل ما يمكن الكتابة عليه لتوفرها وسهولة حملها، وقيل: هي باطن الجلدة التي تلي اللحم أو ظاهرها الذي عليه الشعر. قلت: المهم من ذلك معرفة أنه الجلد الذي يكتب عليه وعلى هذا تدخل هذه في عموم لفظة الرقاع.
7- الأكتاف قال ابن حجر: «وهو العظم الذي للبعير أو الشاة كان إذا جف كتبوا عليه»[11]. قلت: والكتف في أصله عضو في الإنسان وغيره من الدواب وللكتف عظمة عريضة تقع تحته من الخلف يسميها الناس لوح الكتف وقد يطلق عليها الكتف من باب إطلاق الكل على الجزء وهي التي يكتب عليها إذا جفت.
8- الأقتاب: قال ابن حجر: «بقاف ومثناة وآخرة موحدة جمع قَتَب بفتحتين وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه»[12].
قال الفيروز آبادي القَتَب والقِتْب: «إكاف البعير، وقيل: هو الإكاف الصغير الذي على قدر السنام»[13].
فالقتب إذًا يكون لوحًا صغيرًا من الخشب يصلح للكتابة عليه، عُمل أصلًا ليكون إكافًا للبعير، ولكنه صرف عما صنع له واستعمل للكتابة لتوفر صفتي العرض والانبساط فيه.
9- الأضلاع: قال ابن منظور: «والأصل في الضلع ضلع الجنب، وقيل للعود الذي فيه انحناء وعرض: ضلع، تشبيها بالضلع الذي هو واحد الأضلاع»[14].
قلت ويظهر من هذا أن الأضلاع تشمل كل عظم أو عود فيه عرض بحيث يصلح للكتابة عليه.
10- اللخاف: قال ابن كثير: «واللخاف جمع لخفة وهي القطعة من الحجارة مستدقة»[15].
وقال ابن حجر: "قال أبو داود الطيالسي في روايته: هي الحجارة الرقاق، وقال الخطابي: صفائح الحجارة الرقاق. قال الأصمعي: فيها عرض ودقة»[16].
قال الفيروز آبادي: «حجارة بيض رقاق»"[17]. زاد عليهم بأن حدد لونها ويبدو أن تحديد لونها ليس له فائدة.
وروى البخاري عن محمد بن عبيد الله أنه قال: «اللخاف: يعنى الخزف»[18].
وهذا كله فيما يكتب عليه، أما ما يكتب به فمعلوم أن لكل وسيلة مما سبق ما يناسبها للكتابة عليها فقد يكتب بالمداد وقد يكتب بالنقش وغير ذلك والله أعلم.

المصدر: بحث العناية بالقرآن الكريم في العهد النبوي الشريف
نشر مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
---------------------
[1] بحث «العناية بالقرآن الكريم في العهد النبوي الشريف»، نشر مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة.
[2] "صحيح البخاري" (4990).
[3] "صحيح البخاري" (4986).
[4] "فتح الباري" (8 /639).
[5] انظر: "لسان العرب" مادة (كرنف) (9 /297).
[6] انظر: "القاموس المحيط" مادة (كرناف) (2 /1129).
[7] "القاموس المحيط" مادة (عسب) (1 /200).
[8] المرجع السابق مادة (سعف) (2 /1092).
[9] "فتح الباري" (8 /631).
[10] "اللسان" مادة (رقع) (8 /131).
[11] "فتح الباري" (8 /631).
[12] المرجع السابق (ص 631).
[13] "القاموس المحيط" (1 /661).
[14] "لسان العرب" مادة (ضلع) (8 /226).
[15] "فضائل القرآن) (ص 29).
[16] "الفتح" (8 /631).
[17] "القاموس المحيط"، مادة (لخف) (1135).
[18] "صحيح البخاري" حديث رقم (7191).


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/141386/#ixzz6UnBsyp7b