من معالم الوسطية الإنصاف عند الاختلاف
أحمد الريسوني
الإنصاف لغة : مأخوذ من ( النِّـصْـف ) . وأصل استعماله من الشيئ يكون مشتركا على التساوي بين اثنين ، فمن أخذ نصفه بلا زيادة فقد أنصف ، ومن أعطى شريكه نصفه بلا نقصان فقد أنصف . ومن حَكمَ أو قَسَم بين شريكـين ، فأعطى كل واحد نصفه بلا زيادة ولا نقصان فقد أنصف . ثم اتسع استعمال اللفظ ومشتقاته ، للدلالة على السَّوِية بين الناس ، فيما لهم وما عليهم ، سواء كان النصفَ أو غيرَه مما هو مستحق ، وسواء كان ذلك في الأشياء ، أوفي الأفعال ، أوفي الأقوال .
والعلاقة اللغوية بين الإنصاف والوسطية ، تظهر في مثل قولهم : انتصفَ النهار، أو مُنتصفُ النهار، أي وسطُه . وذلك حين يتساوى نصفه الذي مضى ، مع نصفه الذي بقي . فمنتصف النهار وسطه . وكذلك يقال في منتصف الليل ، أو منتصف العمر، أو منتصف الطريق… فكل ذلك يعني نقطة التوسط بين نصفين متساويين.
وأما الإنصاف بمعناه العلمي والخُلقي ـ وهو المقصود الآن ـ فالمراد به إعطاء الناس ما يستحقونه كاملا ، بلا بخس ولا ولا تحيز ولا محاباة . وقد يكون ذلك بالأقوال ، وقد يكون بالأفعال ، أو بهما معا في آن واحد . ولا شك أن هذا المفهوم يتشابه ـ ويكاد يتطابق ـ مع مفهوم العدل. ولذلك قال بعض العلماء : العدل والإنصاف توأمان (التوقيف على مهمات التعاريف ، للمناوي ، ص 64 ، تحقيق عبد الحميد حمدان ـ القاهرة 1410).
وعلى الرغم من كون العدل والإنصاف من معدن واحد ، فالظاهر أن بينهما عموما وخصوصا في الاستعمال . فالعدل يستعمل في مواطن التنازع والتخاصم ، ويكون ممن له صلاحية الحكم والتصرف في الأمر. وأما الإنصاف فأعم من هذا وأوسع ، حتى إن العلماء يتحدثون عن إنصاف العبد مع ربه ، وعن إنصافـه مع نفسه ، وعن إنصاف غيره من نفسه ، وعن الإنصاف بين الناس . كما أن استعمال الإنصاف دخل كثيرا في المسائل والخلافات العلمية والفكرية ، كما سنرى قريبا .
ولعل الإنصاف يكون أخص من العدل ، من حيث يجري استعماله خاصة في مواطن تكون عادة مَظِنَّةً للميل والتحيز . فالفعل أو القول يوصف بالإنصاف ، إذا وقع حيث كان يُخشى أو يفترض عدمه ، كأن يعطي الإنسان الحق لغيره على حساب نفسه ، أو ينصف البعيد على القريب ، أو ينصف المخالف على الموافق . بينما العدل يكون في هذه الأحوال وفي غيرها . ولعل هذا ما عناه الراغب الأصفهاني بقوله : ” والإنصاف من العدل “( المفردات 1/160ـ نشر مكتبة نزار الباز بمكة المكرمة ـ ط1 ـ 1418/1997)
الإنصاف والاختلاف
وجود الاختلاف بين الناس ـ عامتهم وخاصتهم ـ هو غالبا مظنةٌ للخصومات والحزازات وإفراط المتخالفين بعضهم على بعض ، مما يفقدهم الإنصاف ، وحتى القدرة على الإنصاف . ويشتد هذا كله ، بقدر شدة الاختلاف وحساسيته عند المختلفين ، وبقدر ما تسوء أخلاق المتخالفين وأخلاق أتباعهم وأنصارهم . وها هنا تشتد الحاجة إلى الإنصاف والمنصفين . وتشتد هذه الحاجة أكثر، حين يتحول الاختلاف إلى عداوة وصراع . وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
ومن هنا احتاج العلماء إلى كثرة التذكير بالحاجة إلى الإنصاف ، عند تطرقهم لمواطن الاختلاف بين الطوائف والمذاهب . ويظهر هذا بجلاء لافت للانتباه ، في كثرة الكتب التي جمعت في عناوينها بين الإنصاف والاختلاف. وهذه جملة منها :
• الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف لابن عبد البر النمري (مالكي ت 463)
• الإنصاف في مسائل الخلاف لابن العربي المعافري (مالكي ت 543)
• الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف ، لابن السيد البطليوسي ( مالكي ت521)
• الإنصاف في مشاجرة الأسلاف ، لطاش كبري زادة (حنفي ت 968)
• إيثار الإنصاف ، لعلم الدين العراقي ( شافعي ت 704)
• إيثار الإنصاف في آثار الخلاف ، لسبط ابن الجوزي ( حنبلي ثم حنفي ت 654)
• الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ، لعلاء الدين المرداوي (حنبلي ت 885)
• الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي الوفاء بن الأنباري (شافعي ت 577)
• الإنصاف في علم الخلاف ، لمحمد الأسدي المقدسي (شافعي ت 808)
• الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ، لشاه ولي الله الدهلوي (حنفي ت 1176)
• الإنصاف ، لأبي الحسن بن غازي
• الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف ، للأمير الصنعاني
• إيثار الحق على الخلق ، لابن المرتضى اليماني (زيدي)
وهذا الكتاب الأخير لا يحمل في عنوانه اسم الإنصاف ، ولكن معناه واضح في صيغة عنوانه ( إيثار الحق…) . وكلمة الإيثار موجودة كذلك مع كلمة الإنصاف ، في عناوين أخرى من الكتب المذكورة أعلاه . وذلك يعني أن الإنصاف وقولَ الحق في مواطن الاختلاف ، هو نوع من الإيثار الذي لا تستطيعه ولا تبذله إلا النفوس الكريمة المستقيمة. وفي صحيح البخاري ” باب: إِفْشَاءُ السَّلَامِ من الْإِسلامِ، وقال عَمَّار:ٌ ثَلَاثٌ من جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ: الْإِنْصَافُ من نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ، وَالْإِنْفَاقُ من الْإِقْتَارِ” . فقد جمع عمار ـ رضي الله عنه ـ في هذا النص بين الإنفاق من المال وهو إيثار مادي، والإنصاف من النفس وهو إيثار معنوي، وقد يكون ماديا أيضا.
وقال ابن رجب في فتحه: ” …الإنصاف من النفس ، وهو من أعز الخصال ، ومعناه : أن يـعرف الإنسان الحق على نفسه ويوفيه من غير طلب . “( فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن رجب الحنبلي: 1/ 68)
دروس قرآنية في الإنصاف
قدم لنا القرآن الكريم دروسا بليغة راقية في الإنصاف بشتى صوره وفي مختلف مجالاته. تارة في صيغة أوامر ونواهٍ ، وتارة من خلال وصفه وإنصافه لأعدائه والمكذبين به ، وتارة من خلال وقائع فعلية تطبيقية .
فمن أوامره ونواهيه في الموضوع :
– قوله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَو الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين َ) [النساء/135]
– وقوله سبحانه: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة/8]
فقد تضمنت الآيتان الأمر بالتزام القسط والإنصاف ، والنهيَ عن تركه وتنكبه ، وذلك في أشد المواطن على النفس وأدعاها إلى الميل والتحيز.وهي عموما تتمثل في حالات الحب والبغض .
• ففي الآية الأولى: أمرٌ بغاية ما يمكن من القسط الإنصاف، ولو كان ضد نفسك، أو ضد والديك، أو أقربِ الناس إليك . وبمثل هذا جاء قوله تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام/152].
• وفي الآية الثانية: أمرٌ مماثل بالقسط، لكنه مؤكد بالنهي عن الضد. ومحل الأمر والنهي هنا، هي حالات العداوة والكراهية. فكما لا يجوز التحيز لفائدة النفس وذوي القرابة والمودة، فكذلك لا يجوز التحيز ضد ذوي الخصومة والعداوة والبغضاء.
• ومن إنصافه لأعدائه ومناوئيه، إنصافـه في آيات عديدة لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، أذكر منها :
• قوله سبحانه (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) في حق بني اسرائيل [الأعراف/159] . فالتاريخ المجلل بالسواد لبني إسرائيل، وكونُهم أشدَّ الناس عدواة للإسلام والمسلمين، لم يمنعا من إنصافهم والإشادة بمن أحسن منهم .
• وقوله عن النصارى (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة/83-86]
• ومن قواعد الإنصاف المؤصلة في القرآن الكريم، ماجاء حديث أَنَسٍ، عنِ النبي صلى الله عليه وسلم “لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ “
وفي صحيح مسلم وغيره: ”حتى يحب لِجارِه..”
وفي صحيح ابن حبان: “لا يبلغ عبدٌ حقيقة الإيمان، حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير”.
فأصْلُ هذا الحديث في القرآن الكريم، كما يوضح ذلك ابن عاشور بقوله : ” وقد تكرر في القرآن الترويض على قياس المرء حق غيره على حق نفسه. قال تعالى في معرض التحذير من أكل مال اليتيم (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ) [النساء/9] ، وقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء/94].
والمغزى المشترك في الحديث وفي الآيتين الأخيرتين، هو أن من أراد أن ينصف غيره في حالة من الحالات، وفي معاملة من المعاملات، فليتخذ نفسه معياراً لذلك، أي لِيضعْ نفسه في مكانهم وفي حالتهم، ولينظر كيف يحب أن يعامَل وهو، لو كان في مكانهم، ثم ليفعل ذلك وليحكم به على غيره .
ولا شك أن الالتزام الفعلي بهذا المبدإ ليس بالأمر الهين على النفوس ، ولذلك فهو تحتاج فيه إلى ”ترويض“، حسب تعبير ابن عاشور .
يتبع