صور خالدة من بطولة المرأة العربية

نسيبة بنت كعب المازنية

سيدة امتلأت كرمًا ونبلًا، وفاضت شجاعةً وحماسةً، وازدانت بكل ما يزين المرأة من قلب رقيق وحساسة قوية وعطف شديد، كما تحلت بإقدام الرجال وحزمهم.
خرجت هي وزوجها زيد بن عاصم وولداها عبد الله وحبيب في ذلك النيف والسبعين من الأنصار يوم العقبة الثانية يريدون رسول الله المصطفى يبايعونه مستخفين لئلا يؤذيهم الجاهلون، فبايعوه والناس نيام في ثلث الليل الأخير في اليوم الأوسط من أيام التشريق من السنة الثالثة للبعثة؛ وعادوا إلى المدينة ووجوههم تطفح بالبشر بما نالوا من خير، وقلوبهم ترقص طربًا بما نفحهم الحق سبحانه من نوره، من نعمة الإيمان ونور الهدى. كان يوم أحد - يوم تلك الغزوة التي كاد أن يقضى فيها على المسلمين - فأظهرت نسيبة - رضوان الله عليها - من رباطة الجأش والاستبسال في القتال ما لم يكن للأبطال المذاويد من فرسان العرب المغاوير. فقد التحم الجيشان وكانت الدائرة - أول الأمر - على المشركين فمال المسلمون على الغنائم وشغلتهم الأسلاب؛ فتجمع المشركون ثانية وزحفوا عليهم زحفة أطارتهم كلَّ مطارٍ، ولم يبق حول رسول الله إلا نفر قليل فيهم: أبو بكر، وعمر، وعلي، وسعد، وطلحة، والزبير، ونسيبة هذه، وزوجها، وابناها.
وما أن رأت نسيبة دم المصطفى يسيل على وجهه، ورباعيته قد كسرت ودخلت حلقة المغفر في رأسه حتى طرحت قربتها التي كانت تسقي منها العطاش وانتضت مهنَّدًا تقاتل دون الرسول ببسالة وإقدام فائقين حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: «ما ألتفتُ يمينًا وشمالًا إلَّا وأنا أراها تقاتل دوني».
ولقد جُرح ابنها عمارة في عضده اليسرى ضربه رجل كأنه الرقل (النخلة) ومضى عنه فجعل الدم ينزف فقال رسول الله، اعصب جرحك فأقبلت أمه ومعها حقائب في حقويها قد أعدتها للجراح والنبي واقف ينظر فضمدت جرحه وقالت انهض بني فضارب القوم! فجعل النبي يقول: «ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة»، وإذا بضارب ابنها يظهر فقال المصطفى: «هذا ضارب ابنك».
فاعترضت له وضربت ساقه فبرك فابتسم الرسول وقال: «استقدتِ يا أمَّ عمارة»، ثم أخذت تعل الرجل بالسلاح حتى أتت عليه. فقال الرسول: «الحمد لله الذي ظفرك، واقرَّ عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك».
وقد جُرِحت اثني عشر جرحًا وهي لا تعنى حتى ضربها ابن قمئة ضربةً غائرة في عنقها، فنادى رسول الله عمارة: «أمُّك! أمُّك، أعصبْ جرحَها، بارك الله عليكم من أهل البيت، مقامُ أمِّك خير من مقامِ فلان وفلان» فلما سمِعتْه قالتْ: «ادعُ الله أن نرافقَك في الجنَّة»، فقال: «اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة».
فقالت: «ما أبالي ما أصابني في الدنيا». ولنستمع إليها تحدثنا عن بلائها ذلك اليوم، قالت: خرجتُ أول النهار وأنا انظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء فانتهيتُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزتُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقمتُ أباشر القتال عنه بالسيفِ وأرمي عن القوس حتى خلَصتِ الجراحُ إليَّ.
قالت راوية الحديث: فرأيتُ على عاتقِها جرحًا أجوف له غور فقلت من أصابك بهذا؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله لما ولىَّ الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول دلوني على محمدٍ فلا نجوتُ إن نجا، فاعترضتُ له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله فضربني بهذه الضربة، ولقد ضربته ضربات ولكن عدو الله كانت له درعان. وهناك موقف آخر من مواقف بطولتها الخالدة يوم خرج خالد بن الوليد في جيش فيه ولداها لقتال مسيلمة الحنفي.
فأسر مسيلمة ابنها حبيبًا فعذبه وأراد فتنته عن دينه، ولكن أنى لهذا الشهم الكريم سلسل تلك السيدة الكريمة الباسلة التي غرست فيه الشمم وقوة الإيمان يوم إن أرضعته. أنى له أن يفتن في دينه أو يصبأ عن عقيدته. روى ابن هشام في "السير" ما نصه: «... وابنها حبيب الذي أخذه مسيلمة صاحب اليمامة، فجعل يقول له: أتشهد أن محمَّدًا رسول الله؟ فيقول: نعم، فيقول: أفتشهد إني رسول الله؟ فيقول: لا اسمع. فجعل يقطع منه عضوًا عضوًا حتى مات في يده لا يزيد على ذلك: إذا ذُكر رسول الله آمن به وصلى عليه، وإذا ذُكر مسيلمة قال: لا اسمع، فلما بلغها هذا خرجت إلى اليمامة مع المسلمين فباشرت الحرب بنفسها حتى قتل الله مسيلمة ورجعت وبها اثنا عشر جرحًا ما بين طعنة وضربة.
هذه هي نسيبة بنت كعب التي كانت مثلًا عاليًا في التضحية والإقدام، والبسالة والنبل. على أنها ما كانت لتقتصر على هذا فقد كان لها نصيب وافر من العلم فقد روت عن النبي وحدثت كما في "الإصابة".
فهلَّا تحذوها أوانسُ اليوم اللائى نسين واجباتهنَّ وفرَّطنَ في كل شي عدا زينتهن وترفهنَّ.
فلتأتسِ الشابات الكرائم بنُسَيبة ذلك العصر، ولطيفة هذا الوقت ليقمن بما عليهنَّ لهذا البلد الأمين فينشئن له من فلذات أكبادهنَّ رجالًا أولي قوَّةٍ، شدادًا صلابًا ينقذونه مما هو فيه.
المصدر: مجلة الرسالة، العدد: 29 - بتاريخ: 22 - 01 – 1934م

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/140213/#ixzz6MZMXbRJf