قال الشيخ: عبد الرحمن بن محمد ابن قاسم فى حاشية ثلاثة الأصول
المتن:
فَإِذَا قِيلَ لَكَ: بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ(1)؟
فَقُلْ: بِآيَاتِهِ وَمَخْلُوقاَتِه ِ(2)، وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ(3)، وَالشَّمْسُ وَالْقمَرُ(4)، وَمِنْ مَخْلُوقَاتِهِ السَّمَاواتُ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُمَا(5).
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ أكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} .
- وَقَوْلُهُ تَعَالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ(6) لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ(7) وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(8) } .
- وَقَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوات وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ (9) ثُمَّ اسْتوَى عَلَى الْعَرْشِ (10) يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً(11) وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْـرِهِ (12) أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ (13) تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (14)} .
وَالرَّبُّ: هُوَ الْمَعْبُودُ(15).
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ (16) الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (17) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً (18) وَالسَّمَاءَ بِنَاءً (19) وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رزْقاً لَكُمْ (20) فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (21)
قَالَ ابْنُ كَثيِرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى-(22): (الْخَالِقُ لِهذِهِ الأَشْيَاءِ، هُوَ المُسْتَحِقُّ لِلْعبَادَةِ)(23).
الحاشية :
(1) أيْ: فإِذَا قَالَ لَكَ قَائِلٌ: بِمَ اسْتَدْلَلْتَ به عَلَى مَعْرِفَتِكَ رَبَّكَ؛ مَعْبُودَكَ وخَالِقَكَ؟.
(2) أيْ : فَقُلْ: عَرَفْتُه بآياتِه ومَخْلُوقَاتِهِ ، التي نَصَبَها دَلاَلَةً عَلَى وحْدَانِيَّتِه، وتَفَرُّدِه بالرُّبُوبيةِ والإِلَهِيَّةِ، والآياتُ: جَمْعُ آيةٍ، والآيةُ العَلاَمَةُ والدَّلاَلَةُ، والبُرْهانُ والحُجَّةُ.
والمَخْلُوقاتُ: جَمْعُ مَخْلُوقٍ، وهو مَا أُوجِدَ بَعْدَ العَدَمِ.
وآياتُ الرَّبِّ سبحانَه هي: دَلاَلاَتُه، وبَرَاهِينُه التي بِهَا يَعْرِفُه العِبَادُ، ويَعْرِفُونَ أَسْمَاءَه وصِفَاتِه، وتَوْحيدَه، وأَمْرَه ونَهْيَهُ، وآياتُه العَيانِيَّةُ الخَلْقِيَّةُ والنَّظَرُ فيها، والاسْتِدْلاَلُ بِهَا، يَدُلُّ عَلَى مَا تَدُلُّ عليه آياتُه القَوْلِيَّةُ السَّمْعِيَّةُ.
والرُّسُلُ تُخْبِرُ عَنْه بكَلاَمِه الذي تَكَلَّمَ به، وهو آياتُه القَوْلِيَّةُ، ويَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذلك بِمَفْعُولاَتِه ، التي تَشْهَدُ عَلَى صِحَّةِ ذلك، وهي آياتُه العَيَانِيَّةُ، والعَقْلُ يَجْمَعُ بينَ هذه وهذه، فيَجْزِمُ بِصِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فتَتَّفِقُ شَهَادَةُ السَّمْعِ والبَصَرِ.
والعَقْلُ والفِطْرَةُ، وكُلُّ شَيْءٍ مِن آياتِهِ ومَخْلُوقَاتِهِ ، وإنْ دَقَّ، دَالٌّ عَلَى وحْدَانِيَّتِه وتَفَرُّدِه بالرُّبُوبِيَّة ِ،
كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَوَاعَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإِلَهُ = أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُه الجَاحِدُ
وللَّهِ فِي كُـلِّ تَحْـرِيكَـــــ ــــــةٍ = وتَسْكِينَةٍ أَبَـدًا شَاهـــــِدُ
وفِي كُلِّ شَيْءٍ لَــــــــهُ آيــــــةٌ = تَـدُلُّ عَلَى أَنـَّهُ واحِــــــــدُ
وقَالَ آخَرُ:
تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الأَرْضِ وانْظُـــــــــ رْ = إلى آثَارِ مَـــــا صَنَعَ الْمَلِيـــكُ
عُيونٌ مِن لُجَيْنٍ شَاخِصَــــــــ ـاتٌ = بِأَبْصَارٍ هي الذَّهَبُ السَّبِيـكُ
عَلَى قَصَبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ = بأنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَــــــــهُ شَرِيــــــكُ
وقَالَ آخَرُ:
تَأَمَّلْ سُطُورَ الكَائِنَاتِ فإِنَّهَـــــــ ا = مِن الْمَلِكِ الأَعْلَى إِلَيْكَ رَسَائِلُ
وَقَدْ خُطَّ فيها لَوْ تَأَمَّلْتَ خَطَّهَا = أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلُ
فَإِيجَادُ هذه المَخْلوقَاتِ أَوْضحُ دَلِيلٍ عَلَى وجُودِ البَارِي تَعَالَى، وتَفَرُّدِه بالرُّبُوبِيَّة ِ والإِلَهِيَّةِ، ونَعْرِفُ رَبَّنا تَبَارَكَ وتَعَالَى أيْضًا بِصِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَى ذلك، وهي كَثِيرَةٌ، فالكِتَابُ والسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بذلك.
(3) أيْ: ومِن أَعْظَمِ آياتِهِ المُشَاهَدَةِ بالأَبْصَارِ، اللَّيْلُ والنَّهَارُ، وكونُ اللَّيْلِ يَأْتِي عَلَى النَّهَارِ فيُغَطِّيه، حتَّى كأنَّه لَمْ يكنْ، ثُمَّ يَأْتِي النَّهَارُ فيَذْهَبُ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ، حَتَّى كَأَنَّ اللَّيْلَ لَمْ يَكُنْ، فَمَجِيءُ هذا، وذَهَابُ هذا بهذه الصِّفَةِ، وهذه الصُّورَةِ المُشَاهَدَةِ: دَالٌّ أَعْظَمَ دَلاَلَةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ خَالِقِه ومُوجِدِه.
(4) أيْ: ومِن أَعْظَمِ آياتِهِ المُشَاهَدَةِ بالأَبْصَارِ، الشَّمْسُ والقَمَرُ، وكَوْنُهُمَا يَجْرِيانِ هذا الجَرَيانَ المُتْقَنَ {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} دَلَّ أَعْظَمَ دَلاَلَةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ مُوجِدِهِمَا تَعَالَى وتَقَدَّسَ.
(5) أيْ: ومِن أَعْظَمِ مَخْلُوقاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِه تَعَالَى السَّمَاواتُ السَّبْعُ، وسَعَتُها وارْتِفَاعُها، والأَرَضُونَ السَّبْعُ، وامْتِدَادُها وسَعَةُ أَرْجَائِهَا، ومَا فِي السَّمَاواتِ السَّبْعِ، مِن الكَوَاكِبِ الزَّاهِرَةِ، والآياتِ البَاهِرَةِ، ومَا فِي الأَرَضِينَ السَّبْعِ مِن الجِبَالِ والبِحَارِ، وأَصْنَافِ المَخْلُوقاتِ، مِن الحَيَواناتِ والنَّبَاتَاتِ، وسَائِرِ المَوْجُودَاتِ، ومَا بَيْنَ السَّمَاواتِ والأَرْضِ، مِن الأَهْوِيَةِ والسَّحَابِ، وغَيْرِ ذلك: دَالٌّ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ البَارِي جَلَّ جَلاَلُه، وعَلَى تَفَرُّدِه بالخَلْقِ والتَّدْبِيرِ.
(6) أيْ: ومِن حُجَجِ وَحْدَانِيَّتِه تَعَالَى، وبَرَاهِينِ فَرْدَانِيَّتِه ، الدَّالَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَه المُصَنِّفُ: مَا تَعَرَّفَ بِهِ تَعَالَى إِلَيْنَا، بِمَا نَرَاهُ مِن مَخْلُوقَاتِهِ.
ومنها: اللَّيْلُ والنَّهَارُ، فمَجِيءُ هذا، وذَهابُ هذا مِن دَلاَئِلِ قُدْرَتِهِ، وحِكْمَتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِه ، والشَّمْسُ والقَمَرُ مَخْلُوقَانِ مُسَخَّرَانِ دَائِبَانِ يَجْرِيانِ دَالاَّنِ عَلَى تَفَرُّدِه تَعَالَى، بالخَلْقِ والتَّدْبِيرِ.
وهذا وجْهُ اسْتِدْلاَلِ المُصَنِّفِ بالآيةِ ههنا.
(7) لأَِنَّ السُّجُودَ عِبَارَةٌ عَن نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ، والشَّمْسُ والقَمَرُ مَخْلُوقانِ مُتَصَرَّفٌ فيهما، يَعْتَرِيهِمَا التَّغَيُّرُ، فَلاَ يَسْتَحِقَّانِ أنْ يُسْجَدَ لَهُمَا.
(8) أَمَرَ عِبَادَه أنْ يُفْرِدُوه بالعِبَادَةِ وحْدَه، فكَمَا أنَّه المُتَفَرِّدُ بِخَلْقِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ، والشَّمْسِ والقَمَرِ، وسَائِرِ المَخْلُوقاتِ، فهو المُسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وحدَه، لاَ شَرِيكَ لَه.
(9) أيْ: ومِن أَعْظَمِ الدَّلاَئِلِ، والمُعَرِّفاتِ التي تَعَرَّفَ بِهَا سُبْحَانَه إِلَى عِبَادِه: خَلْقُ السَّمَاواتِ والأَرْضِ مِن غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، وتَقْدِيرُ أَقْوَاتِهَا فيها فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.
وأَصْلُ الخَلْقِ إِيجَادُ المَعْدُومِ عَلَى تَقْدِيرٍ واسْتِواءٍ، وإِبْدَاعُه مِن غَيْرِ أَصْلٍ سَابِقٍ، ولاَ ابْتِدَاءٍ مُتَقَدِّمٍ:
- قَالَ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} .
- وقَالَ: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} .
(10) اسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ وعَظَمَتِه، قَالَ مَالِكٌ: (الاسْتِواءُ مَعْلُومٌ، والكَيْفُ مَجْهُولٌ، والإيمانُ بِهِ واجِبٌ، والسُّؤَالُ عنه بِدْعَةٌ).
وبهذا قَالَ السَّلَفُ، وأَدِلَّةُ عُلُوِّه عَلَى خَلْقِهِ واسْتِوائِهِ عَلَى عَرْشِهِ أَكْثَرُ مِن أنْ تُحْصَرَ، وأَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى ذلك.
(11) أيْ: يَأْتِي باللَّيْلِ، فيُغَطِّي بِهِ النَّهَارَ، ويُلْبِسُهُ إيَّاه، حتَّى يَذْهَبَ بنُورِهِ، ويُغْشِيَ النَّهَارَ باللَّيْلِ.
{يَطْلُبُه حَثِيثًا} طَلَبًا سَرِيعًا، لاَ يَفْصِلُ بَيْنَهما شَيْءٌ، ولاَ يُدْرِكُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ.
(12) مُذَلَّلاَتٌ، جَارِيَةٌ في مَجَارِيها بِأَمْرِ اللَّهِ، لاَ تَتَقَدَّمُ ولاَ تَتَأَخَّرُ، وإذا تَأَمَّلْتَ هذا العَالَمَ وجَدْتَه عَلَى أَحْسَنِ نِظَامٍ وأَتَمِّه، وأَدَلِّه عَلَى وُجُودِ خَالِقِه جَلَّ وعَلاَ، ووَحْدَانِيَّتِ ه وقُدْرَتِه، وكَمَالِ عِلْمِه وحِكْمَتِه.
(13) فهو المُتَفَرِّدُ بالخَلْقِ، كَمَا أَنَّه المُتَفَرِّدُ بالأَمْرِ، فَلاَ شَرِيكَ لَهُ في الخَلْقِ، كمَا أنَّه لاَ شَرِيكَ له في الأَمْرِ، له الخَلْقُ كلُّه، وله الأَمْرُ كلُّه، وبيدِه الخَيْرُ كلُّه، وهو عَلَى كلِّ شيءٍ قَديرٌ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} .
(14) أيْ: بَلَغَ في البَرَكَةِ نِهَايتَها، إِلَهُ الخَلْقِ ومَلِيكُهُم، ومُوصِلُ الخَيْرَاتِ إِلَيْهِم، ودَافِعُ المَكَارِهِ عَنْهُم، والمُتَفَرِّدُ بإيجادِهِم وتَدْبِيرِهم، لاَ إِلَهَ إلاَّ هو، ولاَ رَبَّ سِوَاه.
(15) أيْ: ومِن مَعَانِي الرَّبِّ، ومِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ المَعْبُودُ، كَمَا أنَّه يُطْلَقُ عَلَى الخَالِقِ والرَّازِقِ والمَالِكِ والمُتَصَرِّفِ، ومُرَبِّي جَمَيعِ الخَلْقِ بالنِّعَمِ، وإِذَا قُرِنَ بالمَعْبُودِ شَمِلَ مَعَانِيَ عَدِيدَةً.
ومَعْنَى المَعْبودِ المَأْلُوهُ، المُسْتَحِقُّ أنْ يُعْبَدَ وحْدَه، دونَ كلِّ مَن سِوَاه.
(16) هذا خِطَابٌ لِجَميعِ الخَلْقِ، وهو أَوَّلُ أَمْرٍ يَمُرُّ بِكَ في المُصْحَفِ الكَرِيمِ، كَمَا أنَّ أوَّلَ فِعْلٍ يَمُرُّ بِكَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وتَقْدِيمُ المَعْمُولِ هنا يُفِيدُ الحَصْرَ، أيْ : لاَ نَعْبُدُ سِوَاكَ، كَمَا أنَّ أوَّلَ شَيْءٍ دَعَتْ إليه الرُّسُلُ مِن أَوَّلِهم إلى آخِرِهم {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} .
ومَعْنَى {اعْبُدُوا ربَّكُم} ومَعْنَى قَوْلِ الرُّسُلِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} ومعنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} هو مَا فَسَّرَه ابْنُ عَبَّاسٍ بقَوْلِه: (كلُّ مَوْضِعٍ في القُرْآنِ {اعْبُدُوا اللَّهَ} فَمَعْنَاهُ: وحِّدُوا اللَّهَ، وقَالَ: عِبَادَةُ اللَّهِ تَوْحِيدُ اللَّهِ) يَعْنِي: اعْبُدُوه وحْدَه، دونَ كلِّ مَن سِوَاه.
وهذا يُفِيدُكَ عِظَمَ شَأْنِ التَّوْحيدِ، وأنَّه أَوْجَبُ الواجباتِ، وأَنَّه أوَّلُ فَرْضٍ عَلَى المُكَلَّفِ، عِلْمًا وعَمَلاً، وهو مَدْلُولُ شَهَادَةِ أنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ، التي أَوْجَبُ الواجباتِ: العِلْمُ بِمَعْناهَا، والعَمَلُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، مِن إِفْرَادِ اللَّهِ بالعِبَادَةِ، والبَرَاءَةِ مِن الشِّرْكِ وأَهْلِه.
وصُدُورُ العِبَادَةِ مِن غَيرِ تَوْحيدٍ لاَ يُسَمَّى عِبَادَةً، ولَيْسَ بِعِبَادَةٍ، وإذا صَدَرَتْ مِمَّن أَشْرَكَ فيها مَعَ اللَّهِ غَيرَه، فهي بِمَنْزِلَةِ الجَسَدِ الذي لاَ رُوحَ فيه.
وإِذَا عَبَدَ اللَّهَ تَارَةً، وأَشْرَكَ مَعَه تَارَةً، فَلَيْسَ بِعَابِدٍ للَّهِ عَلَى الحَقِيقَةِ، كَمَا سَمَّى اللَّهُ المُشْرِكِينَ مُشْرِكِينَ، وهم يَعْبُدُونَ اللَّهَ ويُخْلِصُونَ له العِبَادَةَ في الشَّدَائِدِ، وعندَ رُكُوبِ البِحَارِ، وتَلاَطُمِ الأمْوَاجِ: يَهْرُبُونَ ويَفْزَعُونَ، ويَلْجَؤُونَ إليه تَعَالَى وحدَه، ويَعْرِفُونَ أنَّ تلك الآلِهَةَ ليستْ شَيْئًا في الحَقِيقَةِ، وأنَّها لاَ تَنْفَعُهم عندَ الكُرُوبِ، ومَعَ ذلك كلِّه سَمَّاهُم اللَّهُ مُشْرِكِينَ، بل نَفَى عنهم تلك العِبَادَةَ بالكُلِّيَّةِ، في غيرِ مَوْضِعٍ مِن كِتَابِهِ.
ولَمْ يَرِدْ في العِبَادَةِ إلاَّ إِفْرَادُه تَعَالَى بِجَمِيعِ أَنْواعِهَا، فَمَن أَطَاعَه في جَمِيعِ مَا أَمَره به منها فَقَدْ وحَّدَه، وإلاَّ فَلاَ، وكونُه تَعَالَى ربَّنا يُفِيدُ ويَقْتَضِي: أنْ نَعْبُدَه وحدَه، وأنْ لاَ نَجْعَلَ له شَرِيكًا في رُبُوبِيَّتِه، ولاَ في أُلُوهيَّتِه وعِبَادَتِه.
(17) أي: الذي أَوْجَدَكُم، ومَن قَبْلَكُم مِن العَدَمِ، فَلاَ تَجْعَلُوا المَخْلُوقَ شَرِيكًا للخالقِ في عِبَادَتِه، فهو سبحانَه أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عن الشِّرْكِ، بل وحِّدُوه سبحانَه، لَعَلَّكُم تَنْجُونَ مِن عِقَابِه، وأَليمِ عَذَابِه.
(18) أيْ: بِسَاطًا غَيرَ حَزْنَةٍ تَتَمَكَّنُونَ مِن المَسِيرِ فيها، والمُكْثِ عَلَى ظَهْرِها، وتَنْتَفِعُونَ منها بأَنْواعِ الْمَنافِعِ.
(19) قُبَّةً مَضْرُوبَةً عَلَيْكُم، وسَقْفًا مَحْفُوظًا، مُزَيَّنًا بالمَصَابِيحِ، والعَلاَمَاتِ التي تَهْتَدُونَ بِهَا في ظُلُمَاتِ البَرِّ والبَحْرِ.
(20) أيْ: وأَنْزَلَ مِن السَّحَابِ المَطَرَ، فإِنَّ كُلَّ مَا عَلاَكَ فَهُو سَمَاءٌ، فأَخْرَجَ بالْمَاءِ مِن جَمِيعِ أَنْواعِ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُم تَتَمَتَّعُونَ بِهِ، وتَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى عِبَادَتِه وحدَه، وكُلُّ صِفَةٍ مِن هذه الصِّفَاتِ مُفِيدَةٌ ومُقْتَضِيَةٌ إِفْرادَ رَبِّ العَالَمِينَ بالعِبَادَةِ.
(21) أيْ: ومَن كانَ هذا وصْفَه، فهو المُسْتَحِقُّ أنْ تَعْبُدُوه وحدَه، لاَ تَجْعَلُونَ له أَنْدَادًا، أَمْثَالاً ونُظَرَاءَ، بِصَرْفِ شَيْءٍ مِن أنْواعِ العِبَادَةِ لَهُم، وأَنْتُم تَعْلَمُونَ أنَّها لاَ تُمَاثِلُه بوجْهٍ مِن الوُجُوهِ.
أو كُنْتُم تَعْلَمُونَ تَفَرُّدَه بإيجادِ المَخْلُوقَاتِ، وإِنْزَالِ المَطَرِ، وجَعْلِ الأَرْضِ فِرَاشًا، والسَّمَاءِ بِنَاءً وأنَّه لاَ يَرْزُقُكُم غَيْرُه. يَحْتَجُّ تَعَالَى عَلَيْهِم بِمَا أَقَرُّوا بِهِ وعَلِمُوه، مِن تَوْحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى مَا جَحَدُوه وأَنْكَرُوه، مِن تَوْحيدِ الأُلُوهِيَّةِ، فإنَّه تَعَالَى كَثِيرًا مَا يُقَرِّرُ فِي كِتَابِه تَوْحِيدَ أُلُوهِيَّتِه، بِتَوْحيدِ رُبُوبِيَّتِه، فإنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ هو: الدَّلِيلُ الأَوْضَحُ، والبُرْهانُ الأَعْظَمُ، عَلَى توحيدِ الأُلُوهِيَّةِ.
(22) هو عِمَادُ الدِّينِ أَبو الفِدَاءِ، إِسْمَاعِيلُ بنُ عُمَرَ، القُرَشِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، الحَافِظُ، صَاحِبُ التَّفْسيرِ المَشْهُورِ، والتَّارِيخِ، وغَيْرِهِمَا، المُتَوَفَّى سَنَةَ أَرْبَعٍ وسَبْعِينَ وسَبْعِمائةٍ.
(23) يعني: أنَّ الآياتِ دَلَّتْ عَلَى أنَّ الذي خَلَقَ هذه الأَشْياءَ، وأَوْجَدَها مِن العَدَمِ، عَلَى غَيرِ مِثَالٍ سَبَقَ، هو المُسْتَحِقُّ للعِبَادَةِ، وحْدَه دونَ مَن لَمْ يكنْ لَهُ شِرْكَةٌ فيها، ولاَ في غَيْرِهَا، وإنْ قَلَّ، بل مَن سِوَاه تَعَالَى وتَقَدَّسَ: مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ، مُتَصَرَّفٌ فيه، فيَكُونُ في ذلك أَوْضَحُ بُرْهانٍ، أَنَّه سبحانَه هو المُسْتَحِقُّ أنْ يَعْبُدَه وحدَه، دونَ كلِّ مَن سِوَاه، لاَ إِلَهَ غَيْرُه، ولاَ رَبَّ سِوَاه.