شهر رمضان المبارك
فضيلة الشيخ عثمان الخميس حفظه الله





" شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ .... (186) " سورة البقرة .
ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفُسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلله فلن تجد له ولياً مرشدًا ، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله أما بعد، فان خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم وإن شر الأُمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، أما بعد :
فانه قد جاء في الحديث المخرج في الصحيحين من حديث طلحة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا اله ألا الله وان محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت " هذه الأركان الخمسة .
قد جاءت في حديث طلحة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله قد كثرت علي شرائع الإسلام فماذا علي؟
قال :خمس صلوات في اليوم والليلة .
فقال : هل علي غيرها ؟
قال : لا إلا أن تطوع .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وصيام رمضان .
قال هل علي غيره ؟
قال : لا إلا أن تطوع .
قال : وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة .
قال : هل علي غيرها ؟
قال : لا إلا أن تطوع .
قال : فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص .
فقال :رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلح إن صدق .
فان من أركان الإسلام التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم صوم رمضان .
صوم رمضان أمر واجب وركن من أركان هذا الدين العظيم ، شُرع صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة ، وقد صام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات صلوات ربي وسلامه عليه ، وبعض أهل العلم يمنع من قول صوم رمضان يقول : شهر رمضان !! والصحيح أن هذا جائز وهذا جائز ، وقيل ان رمضان سمى بهذا الاسم لأنه يصام في الرمضاء أي في الحر الشديد .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان إيمانا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " وقال : " .. و رمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " .
الصيام اول ما فرض فرض في مكة ولكنه كان صوم عاشرواء ، فرض صوم عاشوراء في مكة وصامه النبي صلى الله عليه وسلم واستمر على ذلك سنوات ثم هاجر صلوات ربي وسلامه عليه وأمر بصوم عاشرواء في المدينة حتى نزل فرض الصيام فصار صوم عاشوراء بعد ذلك على التخيير من شاء صام ومن شاء أفطر .
والمرحلة الثانية في الصوم هي مرحلة صوم رمضان على التخيير لا على الوجوب كما جاء في قول الله تبارك تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)أَ َّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(184) " سورة البقرة ، فبين إن الصيام خير ولكنه ليس واجباً ، فكان الإنسان مخيراً بين الصوم وعدمه ، فإذا صام قبل منه وإذا لم يصم اطعم ، فهو مخير إما أن يصوم وإما أن يطعم ، ثم بعد ذلك نزل قول الله تبارك وتعالى : " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .... (186) " سورة البقرة، فصار بعد ذلك صوم رمضان واجبا ، إذاً عاشرواء ثم صوم رمضان على التخيير ثم صوم رمضان على الإلزام .
والصوم كما هو معلوم هو الإمساك عن المفطرات ، ولكن هل الإمساك عن المفطرات وهي شهوة البطن وشهوة الفرج .. هل هذا هو المقصود الأساسي من صوم رمضان؟
أبدا وإنما أراد الله تبارك وتعالى أن ترتقي النفوس ، وأن تسموا بهذا الصوم الذي فرضه الله تبارك وتعالى عليها ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة بأن يدع طعامه وشرابه " فالقضية ليست قضية طعام وشراب أو فرج وإنما القضية هي أن تسموا هذه النفوس بهذا الصيام .. أن نسموا بأنفسنا إذا صمنا الشهر المبارك ، ولذلك جاء : " والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم " يعني يمتنع لا من الاعتداء على الناس وشتمهم وسبهم لا بل من الرد عليهم !! تتحمل النفوس الرد فضلاً عن الإبداء ، يعني لا يبدأ الناس بالشتيمة ولا يبدأ الناس بالسب ولا يبدأ الناس بالاعتداء بل ولا يرد الاعتداء بمثله ولا الشتم بمثله وإنما يقول " إني امرؤ صائم " مع أن الرد جائز بالنسبة له ولكنه مع هذا يرتقي بنفسه عن أن يرد على الشتائم والساب وإنما يقول : " إني امرؤ صائم " أي الذي يمنعني من الرد إنما هو هذه العبادة التي أتلبس بها ألا وهي عبادة الصوم .
فهنيئا للصائمين حقيقةً أن يقبل الله تبارك وتعالى منهم وأن تسموا نفوسهم في هذا الشهر المبارك اعني شهر رمضان .. هو فرصة للإنسان في أن يعيد حسابات نفسه ويقيم نفسه ثم يقومها بعد ذلك من خلال العبادة التي يعيشها أثناء هذا الشهر المبارك.
فهي عدة عبادات في حقيقة الأمر هناك الامتناع عن الطعام والشراب وشهوة الفرج .. هناك قراءة القرآن .. هناك الاعتكاف .. هناك قيام الليل وغيرها من العبادات كثير ، يجد الإنسان نفسه مهيأً لكثير من العبادات خاصة إذا نظر الواحد منا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل شهر رمضان ...وصفدت الشياطين " وفي رواية : " ... صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ... " قال بعض أهل العلم : التصفيد انما هو لمردة الشياطين خاصة وليس لكل الشياطين . وقال آخرون : بل صفد الشياطين كلها ولذلك تقل المعاصي عند كثير من الناس .
قد يقول قائل : لكن تبقى المعاصي !! نقول : نعم صفدت شياطين الجن ولكن أين شياطين الإنس ؟؟ فالشياطين من الجن وهناك شياطين كذلك من الإنس ،
فشياطين من الجن وشياطين من الإنس : " إذا كانت أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ونادى مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة " وذلك في الشهر كله و هذا يبين لنا حديثاً مشهوراً يتداوله الخطباء وللأسف الذي يقول عن شهر رمضان : " أوله رحمه وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار " هذا الحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بل رمضان أوله رحمه وأوسطه رحمه وآخره رحمه ، وأوله مغفرة وأوسطه مغفرة وآخره مغفرة ، وأوله عتق من النيران وأوسطه عتق من النار وآخره عتق من النار ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة " وليس العتق خاصًا بآخر شهر رمضان بل هذا ثابت في كل يوم من أيام رمضان، أسأل الله تبارك وتعالى أن يعتق رقابنا ورقابكم جميعاً من نار جهنم .
وفي هذا الشهر يشرع الاعتكاف وهو ان يتخلص الإنسان من مشاغل هذه الدنيا ويفرغ نفسه لعبادة ربه تبارك وتعالى ، وإن اعتكف العشر الأواخر كلها فهذا شيء طيب وإن اعتكف يوماً أو يومين فهذا أيضا طيب وإن كان الاعتكاف في العشر كلها أفضل ولكن من لم يتهيأ له ذلك أن يعتكف العشر كلها فلا اقل من أن يعتكف يوماً أو ليلة يعني يدخل قبل المغرب ويخرج بعد الفجر أو يدخل قبل الفجر ويخرج بعد المغرب او يجمع يوما وليله او يومين وليلتين وهكذا كلما أكثر فالله أكثر سبحانه وتعالى .
ويشغل الإنسان نفسه في هذا الشهر بقراءة القرآن وكان سلفنا الصالح يكثرون من ختم القرآن في هذا الشهر فكان الواحد منهم يختم في كل يوم ختمه ، في اليوم الواحد يختم ختمه كاملة وهذا يسير على من يسر الله تبارك وتعالى له ذلك ، قد لا تستغرق الختمة عشر ساعات أو اقل من ذلك وكان بعض سلفنا الصالح ربما ختم خاصة في العشر الأواخر في اليوم الواحد ختمتين أو أكثر حرصًا منه على قراءة القران في هذا الشهر .
نعم قد يقول قائل النبي صلى الله عليه وسلم نهى عبد الله بن عمرو بن العاص عن أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث .فقال أهل العلم : نعم هذا من حيث الجملة في كل يوم .. في كل السنة ولكن هناك عبادات خاصة في رمضان قد تتهيأ النفوس فيه للعبادة أكثر من غيره من الأيام فيكثر من ختم القران في هذا الشهر الكريم .
وكذلك يكثر الإنسان من قيام الليل في هذا الشهر المبارك اعني شهر رمضان حيث انه تتهيأ النفوس أكثر لقيام الليل ولعل هذا يكون مفتاحًا لان يكون قيام الليل ديدنا له حيث يستمر الأمر ، لا يكون رمضان يبتدئ به الإنسان قيام الليل ثم ينتهي قيام الليل بانتهاء رمضان ، وإنما يكون رمضان مفتاحاً لقيام الليل فيستمر بعد ذلك على هذا القيام سوءًا صلاها في جماعة كالتراويح والقيام أو صلاها في بيته مع أهله كل هذا جائز لا شيء فيه ، ولكن المهم من هذا كله أن يحرص المسلم على أن يستثمر هذه الأوقات وهذه الفرص ، لان الفرصة تفوت فإذا لم نستثمر هذه الفرصة خلال هذا الشهر المبارك الذي اسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستثمر أوقاته فيه فإن لم نستثمرها فان هذا سنندم عليه كثيراً في يوم لا ينفع فيه الندم ، فلذا ادعوكم جميعاً وأدعو نفسي على أن نهيأ أنفسنا من الآن لاستقبال هذا الشهر المبارك ، ونهيأ أنفسنا كذلك في هذا الشهر المبارك ونهيأ أنفسنا كذلك في آخر الشهر المبارك حتى نستمر على هذه العبادة العظيمة التي يريدها الله تبارك وتعالى منا ، وأن نقلل من النوم في رمضان .. أن نقلل من السهر .. أن نقلل من اللعب .. أن نقلل من تضييع الوقت الذي وللأسف قد ضيعه كثير من الناس في متابعاتهم للمسلسلات والأفلام وغيرها من الملهيات .. نعم الملهيات الكثيرة التي لا تعود على الإنسان بالنفع بل قد تعود عليه بالضرر ، وتتنافس كما تعلمون المحطات الفضائية في تضييع هذه الأوقات إلا من رحم الله تبارك وتعالى وقليل ما هم ، وإلا أكثر هذه المحطات تتنافس لشغل الناس عن الخير في هذا الشهر .
فهلموا جميعاً إلى استثمار أوقاتنا فيما يعود علينا بالنفع وأن يرضي علينا ربنا ونسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحب ويرضى وأن يثبتنا على طاعته وأن يتقبل منا ومنكم صالح العمل .
والله أعلى وأعلم وصلى الله الله وسلم وبارك على نبينا محمد .