لا تُصغروه فيَصغُر
حسام الحفناوي




لحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد؛
فإن قلوب الصغار مُستودعٌ لطاقات عظمى، ومَلَكات كُبرى، تحتاج من يُحسن رعايتها، ويَتَعَهَّد كَلاءَتَها، ولا يَمَلُّ من سَقْيها، ولا يَسْأَمُ من حِمْيَتها، ولا يتوانى عن دَفْع الصَّوائل عنها.
وإن من أفحش الأخطاء القاتلة لكبير مَلَكَاتهم، والمُوْهِنة لعظيم طاقاتهم: أن يكون جواب الكبار عن كثير من أسئلة الصغار واستفساراتهم: أنتم لا زلتم صغارًا!
فيالله، كم ضُيِّعت من مَواهب، وغُوِّرت من ينابيع؛ جَرَّاء قولهم آنف الذكر، الذي إن دل على شيء، فإنما يدل على قُصور في إدراك ما جَبَل الله - تعالى -عليه الصغار من قابلية للتحصيل المعرفي، والتنمية الذهنية، وتوسيع المدارك.
إن تعويد الصغار على مقابلة كثير من استفساراتهم بوصف عقولهم بالقصور عن فهم أجوبتها، يَغْرس في نفوس الصغار صواب ذلك الادِّعاء، ويُرَسِّخه، حتى يصير القُصور العقلي سِمَةً لها ملازمة، بعد أن كان القول به نوعًا من الهروب السهل، الذي يلجأ إليه غالبًا من عَجَز عن تبسيط الجواب لولده.
وماذا يضير الوالدين إن سُئلا عن شيء مما يزعمان قُصور عقل الطفل عن إدراكه، فأعملا ذهنيهما في التفتيش عن وسائل توضيحية، وأمثلة تقريبية، تتوافق مع مرحلته العُمرية، وتتناسب مع معارفه الأولية، وتتلاءم مع بيئته وما يلمسه من محسوسات، فيجعلان من الحَزَن - أمام عقل الطفل - سهلًا، ومن بعيد الإدراك قريبًا؟
إن اصطناع البيئات الحاضنة للمواهب، والراعية للعباقرة والمُبدعين يحتاج إلى جُهد وعطاء، وإدراك لما يُرام من ورائه من سامي الغايات، وشريف المَساعي، وإخلاص في التضحية والبَذْل الملازمان لسالك الطريق المذكور.
وكلها أمور تعين القائمين على تربية الأطفال بإذن الله - تعالى -على توسيع شُّعَبهم الذِّهنية، وتمهيد خلاياهم المُخِّيَّة، وتنظيف مَسامِّهم الدماغية، وتعبيد نتوآتهم العقلية.
إن الإقرار بالتفاوت العقلي بين الصغار أمر لا مَناص منه، ولا طائل من كبير الجدال فيه؛ فتفضيل الله - تعالى -بعض الناس على بعض في النِّعم من السنن الكونية الثابتة، والأقدار الربانية الحكيمة؛ ولكن عدم الاكتراث بالنِّعم سبيل لوقوع النِّقَم، وإهمال رعايتها طريق لمَحْق بَرَكتها.
وهل أضر على نعمة العقل من التقزيم للذات والتحقير للإمكانات؟ أليس هذا سبب رئيس في الهزيمة النفسية لدى كثير من أفراد الشعوب الإسلامية أمام الحضارة المادية الغربية المعاصرة؟
إشكالية وحلها:
ليس بوسعنا التغافل عن إشكالية تَعْرِض للساعين إلى تنمية عقول أبنائهم، الرافضين لتقزيم مواهبهم، وتحجيم طاقاتهم؛ تتمثل في وجود طائفة من الألفاظ والعبارات المتداولة في المجتمعات المعاصرة، تَطْرُق أسماع أبنائنا - رُغمًا عنا وعنهم - يَقْبُح بنا تفسيرها للصغار؛ لما تحويه من فُحْشٍ في المعاني، كالسِّباب، أو قَرْعٍ لأبواب موضوعات لا يَجْمُل قَرْعُها - بل لا مصلحة تُرْتَجَى من الاطلاع عليها - إلا بعد أن يَنْضُج الصغير، ويَشِبُّ، بل يلحقه من مضارِّ معرفتها ما يفوق المصالح المَظْنونة من ذلك، كأمور العلاقات الزوجية.
والسبيل الأمثل لحَلِّ تلك الإشكالية فيما أظن هو: أن يكون هناك نوع جواب على ما يسألون، دون ذكر لما لا يَحْسُن ذِكْرُه أمامهم، ولا الدخول في شيء من التفاصيل، كأن يقول للصغير إذا سأل عن معنى كلمة قبيحة سمعها: هذه كلمة قبيحة، يقولها ذووا الأخلاق السيئة، الذين لم ينالوا من التربية حظًا، ولا حازوا من الفضيلة نصيبًا، فلا ينطق من كان في أدبك وخُلقك مثلها؛ فنُطْقُها يُغْضِب الله - تعالى -على ناطقها - ولا تقل له: عليك فإنه ليس بمُكَلَّف شرعًا - ويُبَغِّض الناس فيه، مع الحرص على إعفاء أُذُنَي الصغير الطاهرتين من سماع شرح المعنى السيئ، وصيانة قَلْبه الغَضِّ من جَوَلان ما يُسْتَرْذَل من الخواطر - تبعًا لمعرفة المعاني - وصَوَلانه في جَنَباته.
فمن فعل هذا؛ فقد جمع بين الإفادة والحراسة، فيُعْلِمه بقُبْح ما سمع، وسوء خُلُق قائله، ويُنَزِّه سمعه وفؤاده عن التدنس بمراذيل الأقوال والمعاني، وهذا خيرٌ من صَدِّ الصغير - كشأن الكثير من الناس - بغِلْظة من غير إيضاح ولا إفهام، فلا عَلِم للغلظة من عِلَّة، ولا أدرك للتنفير عن الكلمة المقبوحة من سبب.
الآثار الإيجابية لما قدمنا من التوجيهات التربوية:
لا يخفى ما لإكبار الصغار من آثار تربوية حميدة يتفيؤ المسلمون ظِلالها إذا شَبُّوا عن الطوق، وصاروا رجال الأمة، وحَمَلة رسالتها.
فمَنْ عَوَّد صغاره الاستشارة وطلب النصح؛ استكشافًا لمكنونات عقولهم، ومخزونات طاقاتهم، وتدريبًا على حمل جِسام المَهام، مع التوجيه والتقويم، ليس كمَن رَبَّى صغاره على قناعة العجز عن صغار المسائل، وتوافهها، وحشا عقولهم وقلوبهم - قبل آذانهم - بعبارات تصغير الشأن، وتقليل القيمة.
أمثلة تاريخية:
إن الناظر في السيرة النبوية الكريمة، وسير السلف الصالح، وتراجم عقلاء الأمم، ودُهاة الملوك، وجهابذة القادة، ليرى كثيرًا من صور إعداد الصغار للمهام العظيمة، وتهيئتهم للأمور الكبار، ومن تتبع سير العظماء والأكابر على مدار التاريخ، علم حرصهم على ما ذكرنا، وعاين كبيرَ قَدْره عندهم، ولَمَسَ جليل منزلته لديهم.
أفيحسب المطالع لتاريخ أمتنا العظيم أن هذا العدد الهائل من القادة الأفذاذ قد صاروا أهلًا لتلك القيادة بين عشية وضحاها من غير إعداد طويل بدأ منذ نعومة أظفارهم؟
ألم يستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن حزم على أهل نجران وهو ابن سبع عشرة سنة؟ [1] ألم يستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد - رضي الله عنه - على جيش فيه كبار الصحابة - رضي الله عنهم - وهو في العشرين أو دونها؟ [2].
ألم يكن عمر - رضي الله عنه - يُدخل ابن عباس - رضي الله عنهما - مع شيوخ بدر من أكابر الصحابة رضي الله عنهم؟ [3].
ومن أَدْمَن النظر في كتب التواريخ والسير، ظفر بالكثير من ذلك، وليس المراد من هذا المقال حَشْد الأمثلة، وإنما المراد تصويب خطأ تربوي، رأيت توارد كثير من الناس عليه، وتواصيهم به، والله الموفق لا رب سواه، وصلى الله وسلم على محمد وصحبه وآله، والحمد لله رب العالمين.
________________
[1] تهذيب التهذيب (8/19).
[2] المصدر نفسه (1/183، 182).
[3] أخرج ذلك البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.