الشجاعة الأدبية في الاحتراز من الوقوع في أعراض المسلمين
هاني الشتلة
إنها حَلْقَة جديدةٌ فريدةٌ من حَلْقَات سلسلةِ فنونِ الإيذاءِ والمِحَن، التي لَقِيها النبي -صلى الله عليه وسلم- من أعداء الدين، ولقد كانت هذه المِحْنة أشدَّ في وَقْعِها على نفسه من كل المِحَن التي واجهته من قبل، وتلك هي طبيعة الشرِّ الذي يَصْدُر من المنافقين، فهو دائمًا أقسى من غيرِه، وأبلغُ في المَكِيدة والضرر؛ إذ تكون الفرص والأسباب خاضعةً لهم أكثرَ من غيرهم، وخبرُ الخوضِ في العِرْض الكريم للنبي - صلى الله عليه وسلم - صورةٌ فريدةٌ للأذى الذي تفرَّد به المنافقون، وقد كانت صورةً أبلغَ من غيرها في الإيذاء؛ لأن كل ما كان يُكَابِده قبل ذلك من المِحَن كان أمرًا متوقعًا، وقد وطَّن نفسه لقَبولِها وتحمُّلها، وليس التقاؤه بها في طريق الدعوة مفاجأةً له، أما هذه، فقد فوجئ بها؛ لأنها ليس مما قد اعتاد أو توقَّع، إنها شائعةُ خوضٍ في عِرضه، لو صحَّت، لكانت طعنةً نجلاءَ في أخصِّ ما يَعْتَزُّ به الإنسان، وأخص ما يتَّصِف به، وهو الشرف والكرامة، وما الذي أدراه أنها شائعة صحيحة أو باطلة؟ من هنا؛ كانت هذه الأذيَّة أبلغَ في تأثيرِها من كل ما عداها؛ لأنها جاءت لتُلْقِي بشعوره النفسي في اضطراب مُثِير لا مناصَ منه، ومع ذلك لو سارع الوحيُ إلى كشفِ حقيقة الأمر وفَضْح إفك المنافقين، لكان في ذلك مَخْلَصٌ من هذا الاضطراب والشكوك المثيرة، ولكنَّ الوحي تلبَّث أكثرَ من شهر لا يعلِّق على ذلك، فكان ذلك مصدرًا آخر للقلق، والظنون، والشكوك، والريبة.
ومع ذلك، فإن هذه المحنة جاءت منطويةً على حِكَم إلهية، استهدفت إبرازَ شخصيته - صلى الله عليه وسلم - وإظهارَها صافيةً مميَّزةً عن كل ما قد يَلْتَبِس بها.
إن معنى النبوة في حياته - صلى الله عليه وسلم - كان من المحتمل أن يَبْقَى مَشُوبًا في وَهم بعض المؤمنين به والكافرين على السواء، لو لم تَأْتِ تلك الحادثة، لتَهُزَّها هزًّا قويًّا، يفصل إنسانيته العادية عن معنى النبوة الصافية فيه، ثم لتُجَلِّي معنى النبوة والوحي تجليةً تامةً أمام الأنظار والأفكار؛ حتى لا يَبْقَى أي مجال التباس بينه وبين أي معنى من المعاني النفسية أو الشعورية الأخرى.
لقد فاجأت هذه الجَرِيرة سَمْعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في طَوْر الإنسانية العادية، يتصرَّف ويتأمل، ويفكر ويستفسر، شأنُه في ذلك شأنُ أي فرد من الأمة، فاستقبلها كما يستقبل مثلَها أيُّ بشر عادي، ليس له اطلاعٌ على غيبٍ مَكْنُونٍ، ولا ضميرٍ مجهولٍ، ولا على قصد ملفق كاذب.
فاضطرب كما يضطربون، وأخذ يقلِّب الرأي والأمر على وجوهه، ويستنجد في ذلك بمشورة أُولي الرأي من أصحابه.
وكان من مقتضى الحكمة الإلهية في إبراز هذا الجانب الإنساني المجرد عنده - صلى الله عليه وسلم - أن يتأخَّر الوحي كل هذه الفترة مسيرةَ شهرٍ؛ كي تتجلَّى للناس تلك الحقائقُ، وقد كانت السيدة التي تم الخوض في عِرْضها أوَّلَ مَن تجلَّت لها تلك الحقيقة، حتى ذهبت في توحيدِها وعبوديتِها لله وحدَه مذهبًا أنساها ما سواه ومَن سواه؛ لذا أجابت حين طَلَبت منها أمُّها أن تشكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما سُرِّي عنه ببراءتها، وقال لها: يا عائشة، أما الله - عز وجل - فقد برَّأك.
وقد انساقت وراء الحالة - التي كوَّنتها الحكمة الإلهية؛ تثبيتًا لعقيدة المؤمنين، وقطعًا لإفك المنافقين، وإظهارًا لمعنى العبودية الشاملة لله وحده - قائلة: لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، فهو الذي أنزل براءتي. للهِ دَرُّك يا أم المؤمنين!.
ولنَتْرُكِ الحديث عن تلك المحنة، ولنَدَعِ الصديقةَ بنت الصديق - رضي الله عنهما - تَقُصُّ الرواية بنفسها؛ فإنَّا نحب أن نسمعها من أُمِّنا، فتقول:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرجَ أَقْرَع بين أزواجه، فأيَّتهن خرج سهمُها خرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوةٍ غزاها، فخرج سهمي، فخرجتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ما نزل الحجابُ، فأنا أُحْمَل في هَوْدَجِي، وأُنْزَل فيه، فَسِرْنا حتى إذا فَرَغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك، وقَفَل - رجع - ودَنَونا من المدينة قافلين، آذَن ليلةً بالرحيل، فقمتُ حين آذنوا بالرحيل، فمشيتُ حتى جاوزتُ الجيشَ، فلما قضيتُ شأني، أقبلتُ إلى رَحْلِي، فإذا عِقْدٌ لي من جَزْعِ ظَفَارِ - مدينة بعُمان - قد انقطع، فالتمست عِقْدي وحبسني ابتغاؤه.
وأقبل الرَّهْط الذين كانوا يُرَحِّلُون لي، فاحتملوا هَوْدَجِي، فَرَحَّلُوه على بعيري الذي كنتُ رَكِبتُ، وهم يَحْسَبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خِفافًا لم يُثْقِلهن اللحم، إنما يأكلن العُلْقَة - القليل - من الطعام، فلم يَسْتَنْكِر القوم خفَّةَ الهَوْدَج حين رفعوه، وكنتُ جاريةً حديثةَ السنِّ، فبَعَثوا الجمل وساروا، فوجدتُ عِقْدي بعد ما استمرَّ الجيش، فجئتُ منازلَهم، وليس بها داعٍ ولا مجيبٌ، فأمَّمتُ منزلي الذي كنتُ به، وظننتُ أنهم سيفقدوني، فيرجعون إليَّ، فبَيْنَا أنا جالسة في منزلٍ، غلبتني عيني فنمتُ، وكان صَفْوَان بن المُعَطَّل السُّلَمِي ثم الذَّكْوَاني من وراء الجيش فأَدْلَج، فأصبح عند منزلي، فرأى سوادَ إنسانٍ نائمٍ، فأتاني فعَرَفني حين رآني - وكان يراني قبل الحجاب - فاستيقظتُ باسترجاعِه - قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون - حين عَرَفني، فخمَّرت وجهي بجلبابي.
والله ما كلَّمني كلمةً ولا سمعتُ منه كلمةً غيرَ استرجاعه، حتى أناخ راحلتَه، فوَطِئ على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش، بعدما نزلوا مُوغِرين في نحر الظَّهِيرة - شدة الحر - فهَلَك مَن هلك، وكان الذي تولى الإفكَ عبدُالله بنُ أُبَيِّ بن سَلُول، فقَدِمنا المدينة، فاشتكيت - مرضت - حين قدمت شهرًا، والناس يُفِيضون في قول أصحاب الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يَرِيبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللُّطْف الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيُسَلِّم، ثم يقول: كيف تِيكُم - اسم إشارة للبعيد -؟ ثم ينصرف، فذاك الذي يَرِيبني، ولا أشعر بالشر.
حتى خَرَجتُ بعد ما نَقهْت - أَفَقْت من المرض - فخَرَجَتْ معي أمُّ مِسْطَح قِبَل المَنَاصِع - مواضع لقضاء الحاجة - وهو مُتَبَرَّزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليلٍ، وذلك قبل أن تُتَّخذ الكُنُف - بيوت الخلاء - قريبًا من بيوتنا، وأمرُنا أمرُ العرب الأُوَل في التبرُّز قِبَل الغائط، فكنا نتأذَّى بالكُنُف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقتُ أنا وأم مِسْطَح، وهي ابنة أبي رُهْم بن عبد مناف، وأمُّها بنت صَخْر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق، وابنُها مِسْطَح بن أُثَاثة، فأقبلتُ أنا وأم مِسْطَح قِبَل بيتي، وقد فَرَغنا من شأننا، فعَثَرَت أم مِسْطَح في مِرْطِها، فقالت: تَعِس مِسْطَح، فقلتُ لها: بئس ما قلتِ، أَتَسُبِّين رجلاً شهِد بدرًا؟ قالت: أي هَنْتَاهْ - أَيْ هذه، أو أيُّ امرأة أنتِ - أولم تسمعي ما قال؟ قالت: قلتُ: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددتُ مرضًا على مرضي، فلما رَجَعت إلى بيتي، ودخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "تعني: سلَّم" ثم قال: كيف تيكم؟ فقلتُ: أَتَأْذن لي أن آتِيَ أبويَّ.
قالت: وأنا حينئذٍ أريد أن أستيقن الخبر من قِبَلهما، قالت: فأَذِن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئتُ أبويَّ، فقلتُ لأمي: يا أُمَّتَاه، ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بُنَية هوِّني عليك، فوالله لقلَّما كانتِ امرأة قطُّ وَضِيئةً عند رجل يحبُّها، ولها ضرائرُ، إلا أكثرن عليها، قالت: فقلت: سبحان الله، أوَلقد تحدَّث الناس بهذا؟ قالت: فبكيتُ تلك الليلة حتى أصبحتُ لا يَرْقَأ - لا ينقطع - لي دمع، ولا أَكْتَحِل بنوم، حتى أصبحت أبكي.
فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين استَلَبث - تأخَّر - الوحيُ، يستأمرهما في فِرَاق أهله، قالت: فأمَّا أسامة بن زيد، فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يَعْلَم من براءة أهله، وبالذي يَعْلَم لهم في نفسه من الوُدِّ، فقال: يا رسول الله، أَهْلُكَ، وما نعلم إلا خيرًا، وأما علي بن أبي طالب، فقال: يا رسول الله، لم يُضَيِّقِ الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تَسْأَل الجارية تَصْدُقْك.
قالت: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَرِيرَةَ، فقال: أَيْ بَرِيرَةُ، هل رأيت من شيءٍ يَرِيبك؟ قالت بَرِيرَة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمرًا أَغْمِصُه عليها أكثرَ من أنها جاريةٌ حديثة السنِّ تنام عن عَجِين أهلها، فتأتي الدَّاجِن - أي: الشاة التي تألف البيت، ولا تخرج إلى المرعى - فتأكله.
فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستعذر يومئذٍ من عبدالله بن أُبَيِّ بن سَلُول، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: يا معشر المسلمين، مَن يَعْذِرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمتُ عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي، فقام سعد بن معاذ الأنصاري، فقال: يا رسول الله، وأنا أَعْذِرك منه، إن كان من الأَوْس، ضربتُ عُنُقه، وإن كان من إخواننا من الخَزْرج، أمرتنا ففعلنا أمرك.
قالت: فقام سعدُ بن عُبَادة - وهو سيِّد الخَزْرج، وكان قبلَ ذلك رجلاً صالحًا، ولكن احتملته "غلبته، وحملته، وأغضبته" الحَمِيَّة - فقال لسعد: كذبتَ لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أُسَيد بن حُضَير - وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال لسعد بن عُبَادة: كذبتَ لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافقٌ تجادل عن المنافقين، فتساور الحَيَّان الأَوْس والخَزْرج حتى هَمُّوا أن يقتتلوا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمٌ على المِنْبر، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُخَفِّضهم حتى سكتوا وسكت.
قالت: فمَكَثت يومي ذلك لا يَرْقَأ لي دمع ولا أَكْتَحِل بنوم، قالت: فأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتينِ ويومًا، لا أَكْتَحِل بنوم ولا يَرْقَأ لي دمع، يَظُنَّانِ أن البكاء فالقٌ كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي، فاستأذنت عليَّ امرأةٌ من الأنصار فأَذِنت لها، فجَلَست تبكي معي.
قالت: فبينا نحن على ذلك، دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسَلَّم، ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لَبِث شهرًا لا يُوحَى إليه في شأني.
قالت: فتشهَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس، ثم قال: أما بعد، يا عائشةُ، فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً فسيُبَرِّئُك الله، وإن كنتِ أَلْمَمْتِ بذنبٍ، فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله، تاب الله عليه.
قالت: فلما قضى رسول الله مقالته، قلص - انقطع واستمسك - دمعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرة، فقلتُ لأبي: أَجِبْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ لأمي: أَجِيبِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قالت: فقلت - وأنا جاريةٌ حديثةُ السنِّ، لا أقرأ كثيرًا من القرآن -: إني والله لقد عَلِمتُ: لقد سمعتم هذا الحديث، حتى استقر في أنفسكم، وصدَّقتم به، فلئن قلتُ لكم: إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدِّقوني بذلك، ولئن اعترفتُ لكم بأمر - والله يعلم أني منه بريئة - لتصدِّقُني، والله ما أجد لكم مثلاً إلا قولَ أبي يوسف، قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)[يوسف: 18] [1].
قالت: ثم تحوَّلت، فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا حينئذٍ أعلم أني بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن واللهِ ما كنت أظن أن الله منزلٌ في شأني وحيًا يُتْلَى، ولَشَأني في نفسي كان أحقرَ من أن يتكلم الله فيَّ بأمرٍ يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها.
قالت: فوالله ما رام - ما قام - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أُنْزِل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء - شدة الكرب - حتى إنه ليَتَحدَّر منه مثل الجُمَان - اللؤلؤ الصغير - من العرق، وهو في يوم شاتٍ من ثِقَل القول الذي ينزل عليه.
قالت: فلما سُرِّي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُرِّي عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلَّم بها: يا عائشة، أمَّا الله - عز وجل - فقد برَّأك، فقالت أمي: قومي إليه، قالت: فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله - عز وجل - وأنزل الله: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)[النور: 11]، العشر الآيات كلها.
فلما أنزل الله في براءتي، قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان يُنْفِق على مِسْطَح بن أُثَاثة؛ لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مِسْطَح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِي نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[النور: 22] [2]، قال أبو بكر: بلى والله، إني أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا.
قالت عائشة: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل زينب بنت جَحْش عن أمري، فقال: يا زينب، ماذا علمتِ أو رأيتِ؟ فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، ما علمتُ إلا خيرًا.
قالت: وهي التي كانت تُسَاميني - تنافسني وتعاليني، وتطلب من السمو والرفعة والحظوة عند رسول الله ما أطلب - من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعَصَمها الله بالورع، وطَفِقت أُختها حَمْنَة تُحَارِب لها، فهَلَكَت فيمن هَلَك من أصحاب الإفك [3].
ويرسم القرآن الكريم لنا صورة لتلك الفترة التي أَفْلَت فيها الزِّمام، وتم الخوض فيها في العِرض الكريم، وهي فترة اختلَّت فيها المقاييس، واضطربت فيها القيم، وضاعت فيها الأصول والأخلاق، لدرجة الخوض بالباطل في عِرض النبي - صلى الله عليه وسلم - وعِرْض صاحبِه الصديق، وعِرْض الصديقة بنت الصديق، فيقول - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات ُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُم ْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[النور: 11 - 17].
وهي صورة فيها الخِفَّة والاستهتار وقلة التحرُّج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام، بما قد يتعرَّض له الفرد في الخوض في عرضه، لسانٌ يتلقى عن لسانٍ، بلا تدبُّر ولا تروٍّ، ولا فحص ولا إمعان نظر، حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاَّه الرؤوس، ولا تتدبره القلوب، وتقولون بأفواهكم لا بوعيكم، ولا بعقولكم ولا بقلوبكم، إنما هي كلماتٌ تتقاذفها الأفواه، ككُرَة الثلج المنحدرة من مكان إلى آخر، قبل أن تستقرَّ في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول.
تقذفون عِرْض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتَدَعُون الألم يَعْصِر قلبه وقلب زوجه وأهله، وتُلَوِّثون بيت الصديق الذي لم يُرْمَ في الجاهلية، وتتَّهمون صحابيًّا مجاهدًا في سبيل الله هو صَفْوان بن المُعَطَّل السُّلَمِي، وقد مدحه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ولقد ذكروا رجلاً ما علمتُ عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي.
وتمسُّون عصمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصِلَته بربِّه، ورعاية الله له، وهو عند الله عظيم، وما يَعْظُم عند الله إلا الأمر الجَلَل، الذي تتزلزل له الرواسي، وتَضِجُّ من هوله الأرض والسماء.
وبالتالي كان ينبغي عليكم إذا سمعتموه أن تتملَّككم الشجاعة الأدبيَّة، بألا تخوضوا في هذا الحديث، وأن تَجْفِل القلوب من مجرد سماعه، وأن تتحرَّج من مجرد النطق به، وأن يكون لديكم الشجاعة الأدبيَّة، فتُنْكِروا أن يكون هذا موضوعًا للحديث أصلاً - فضلاً عن الاحتراز من الخوض في أعراض المسلمين - وأن تتوجَّهوا إلى الله تُنَزِّهونه عن أن يَدَع نبيَّه لمثل هذا الأمر، وأن تقذفوا بهذا الإفك بعيدًا عن ذلك الجو الطاهر الكريم.
وعندما تصل هذه اللمسة إلى أعماق القلوب، فتهُزُّها هزًّا وهي تُطْلِعها على ضخامة ما جَنَت، وبشاعة ما عَمِلت، عندئذٍ يَجِيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم، في أسلوب التربية المؤثر، في أنسب الظروف للسمع والطاعة والاعتبار، مع تضمين اللفظ معنى التحذير من العودة إلى مثل ما كان، ومع تعليق إيمانهم على الانتفاع بتلك العِظَة، فالمؤمنون لا يمكن أن يكشف لهم عن بشاعة عمل كهذا الكشف، وأن يحذَّروا منه مثل هذا التحذير، ثم يعودوا إليه وهم مؤمنون، وقد قال - تعالى - محذِّرًا: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[النور: 4-5].
إنَّ ترك الألسنة تُلْقِي التهم على المحصنات، وهنَّ العفيفات الطاهرات الحرائر، دون دليل قاطع - يترك المجال فسيحًا لكل مَن شاء أن يقذف بريئة أو بريئًا بتلك التهمة النكراء، ثم يمضي آمنا! فتُصْبِح الجماعة وتُمْسِي، وإذا أعراضها مجرَّحة ومباحة، وسُمْعَتها ملوَّثة ومستباحة، وإذا كل فرد فيها متَّهم أو مهدَّد بالاتهام، وإذا كلُّ زوج فيها شاكٌّ في زوجه، وكلُّ رجل فيها شاك في أصله، وكلُّ بيت فيها مهدَّد بالانهيار.
وهي حالة من الشك والقلق والرِّيبة لا تطاق؛ ذلك إلى أن اطِّراد سماع التُّهم، يوحي إلى النفوس المتحرِّجة من ارتكاب الفِعْلة - أن جوَّ الجماعة كلَّه ملوَّث، وأن الفِعْلَة فيها شائعة، فيقدم عليها مَن كان يتحرَّج منها، وتهون في حسِّه بشاعتُها بكثرة تَرْدَادها، وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها! ومن ثَمَّ لا تُجْدِي عقوبة الزنا في منع وقوعه، والجماعة تُمْسِي وتُصْبِح وهي تتنفس في ذلك الجوِّ الملوَّث، المُوحِي بارتكاب الفحشاء؛ لذا وصيانةً للأعراض من التَّهجم، وحمايةً لأصحابها من الآلام التي تُصَبُّ عليهم، شدَّد القرآن الكريم في عقوبة القذف، فجعلها قريبة من عقوبة الزنا، ثمانين جلدة، مع إسقاط الشهادة، والوَصْم بالفسق.
يتبع