الخارطة الفقهيّة
خالد بن عبد اللّه المزيني


للمكان أثره العميق على الإنسان، بوصفه ظرفاً مهيمناً على الإنسان من جميع جهاته، والإنسان أبداً محكوم بثلاثية الزمان والمكان والحال، وقديماً تكلم العلماء عن خصائص المكان، وخصائص البلدان، وخصائص الهواء (المناخ)، وثمة ثروة أدبية واجتماعية وفقهية في هذا الخصوص، في كتابات الجاحظ وابن خلدون وابن تيمية وغيرهم.
والذي يهمنا في هذا الموضع البحث في أثر المكان على الفقه، لا بذاته، بل بكونه ظرفاً محيطاً بالفقه والفقيه، وفي المنظومة التراثية إشارات إلى ما يُسمّى (فقاهة البلدان)، فلكل بلدٍ مدرسته الفقهية ذات النكهة الخاصة، ولا يقدح هذا في وحدة الأصول، وتطابق الثوابت بين عامة الأمصار الإسلامية، على ما أشار إليه الإمام الأصبهاني من أنك إذا سألت عالمين من علماء السنة في أي مصر من أمصار الإسلام، عن أصل من أصول الدين، وكل واحد منهما في مصر من الأمصار لا يعرف صاحبه، إلاّ جاء جوابهما على غاية التطابق، وما ذاك إلاّ لوحدة المصادر التي يستقون منها، ووحدة نظام الاستدلال في هذا الباب.
وما سوى ذلك من مسائل فروع الدين؛ فلكل بلد فقهه ولونه المذهبي الخاص، حتى على صعيد أتباع المذهب الواحد؛ فحنفية العراق غير حنفية العجم، ومالكية العراق غير مالكية المغرب والأندلس، وشافعية العراق غير شافعية مصر، وحنابلة الشام، غير حنابلة العراق، وهكذا.
هذا مع كون هذه الأمصار قد مصَّرتها العرب، أو افتتحتها عَنوةً، فصارت عربية إسلامية، وصار النظام العام فيها نظاماً قرآنياً على هدي النبوة، فلم يكن اختلاف المذاهب الفقهية آنذاك بسبب اختلاف البلدان راجعاً إلى تفاوت مستوى التدين بين حواضر المركز (الحرمان الشريفان) وحواضر الأطراف (العراقان وغيرهما)، كما قد يتخيل البعض، وإن كنا لا ننفي هذا المأخذ بالكلية، فقد كان الخلل يتطرق إلى المركز من الأطراف، واستحدث الغلو والجفاء والنسك الفاسد في الأطراف غالبًا.
ومع هذا كله فقد ينفرد البعيد بعلمٍ يخفى على القريب، وقد تظهر السنة في طرف وتخفى في المركز، وكان تنوع المذاهب معهوداً، مع استتباب الدين، واستقرار النظام العام في الجملة، ولما سُئل ابن عباس عن أمصار العرب: هل للعجم أن يحدثوا فيها شيئاً من الرموز غير الإسلامية؟ قال: "أيما مصر مصَّرَته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه [أي: كنيسة]، ولا يضربوا فيه ناقوساً، ولا يشربوا فيه خمراً، ولا يتخذوا فيه خنزيراً، وأيما مصر مصّرته العجم ففتحه الله على العرب، فنزلوا فيه، فإن للعجم ما في عهدهم، وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم، ولا يكلفوهم فوق طاقتهم". ا. هـ [أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهما، ونقل الإمام ابن تيمية الاتفاق على معناه].
إن حسن الالتفات إلى هذه "الخارطة الفقهية"، وفهم الخصائص التي ينفرد بها كل بلد، ممّا يوسّع مدارك الباحث، ويفسح أفق النظر العلمي ويرشِّده، ويساعده على إتقان مهارة الحفر المعرفي للأفكار والنظريات الفقهية الخاصة بالبقاع المختلفة، كما أن الجهل بهذا المأخذ، والاعتماء عن خصائص البيئات الثقافية، واقتضاءات ظروفها وأحوالها؛ يصيب الإنسان بعمى الألوان، فالتكلف، فالتعصب المقيت، ولله درّ إمام دار الهجرة؛ إذ أبى أن يُحمل الناس على موطّئه في القصة المشهورة، التفاتاً منه إلى ما تقدم.
وفي كل بلد تروج منظومة من المعايير المحلية، والتقاليد المعرفية، التي تصيب الحق تارة، وتنبو عنه تارة، انسجاماً مع قاعدة التقابل والزوجية الكونية؛ فسبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون.
قال الإمام سليمان بن يسار للإمام يحيى بن سعيد ذات مرة: لو أُنزل أخوان من حصن، فسكن أحدهما الشام، وسكن الآخر العراق، ثم لقيت الشامي لوجدته يذكر الطاعة وأمر الطاعة والجهاد، ولو لقيت الآخر لوجدته يسأل عن الشُّبَه؛ يقول: كيف شيء كذا وكذا، وكيف الأمر في كذا وكذا [أخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (2/215)]، ولا يخفى أن هذا الفقيه التابعي الكبير يتحدث عن جغرافية عصره، لا كل عصر.
ومن الأغلاط في هذا الصدد: الأسئلة التي تستدعي هموم بيئة أخرى أجنبية عن البيئة التي تُطرح فيها، والسؤال المغلوط والملغوم يستدعي جواباً مغلوطاً أو ملغوماً في أحيان كثيرة؛ فأسئلة الحرب في بلد السلم، وأسئلة الضرورة في بلد الرخاء، وأسئلة الغنى في بلد الفقر، ونظائر هذه النقائض مما يضطرب به حبل الفقه في البلدان، ويفقده بوصلته المعرفية، وقد كان السلف كالإمام مالك مثلاً ينكرون على هؤلاء المخلطين بين البيئات المعرفية المختلفة.
لقد كانت جادّة الفقهاء مراعاة الفوارق الحضارية بين الأمصار، ومن اللطائف في هذا الباب: أنه ورد النهي عن بول الإنسان في مستحمّه، وأن عامة الوسواس منه، [والحديث رواه أصحاب السنن الأربعة]، قال ابن ماجه: سمعت علي بن محمد الطنافسي يقول: "إنما هذا في الحفيرة، فأما اليوم فلا، فمغتسلاتهم الجص والصاروج والقير، فإذا بال فأرسل عليه الماء لا بأس به "ا. هـ..
وقد احتفى الفقهاء بهذا الاستدراك، وتلقّوه بالقبول. وهذا يعني أن التقدم العمراني يستتبع تغيّراً في النظر الفقهي، بما لا يخدش ثبوت الثوابت التي هي أقطاب الفقه ومحاوره وأطنابه.