تعظيم الله سبحانه وتعالى
منصور صالح حسين الجادعي



أختي المسلمة: إن تعظيم الله –سبحانه تعالى - وتعظيم ما يستلزم ذلك من شعائر الله - تعالى -وحدوده من أجلّ العبادات القلبية وأهم أعمال القلوب، التي يتعين تحقيقها والقيام بها، وتربية الناس عليها، وبالذات في هذا الزمان الذي ظهر فيه ما يخالف تعظيم الله - تعالى -: من الاستخفاف والاستهزاء بشعائر الله - تعالى -، والتسفيه والازدراء لدين الله - تعالى - وأهله، والتكاسل والتباطؤ عن تنفيذ أمر الله وشرعه.
والعظيم قد بين لنا عظمته ورأيناها في خلقه وشرعه، وقرأناها في كتابه وسنة نبيه، - سبحانه وتعالى - العظيم المتعال، خلق السموات بغير عمد، أرسى الجبال، أجرى السحاب في السماء والفلك في البحر، أنزل المطر، مهد الأرض، فلق الحب والنوى، صرَّف الرياح، خلق كل شيء فأحصاهم عددا، - سبحانه وتعالى - ما أعظم شأنه وما أجل سلطانه، لو تفكر الإنسان في مخلوقاته لعرف عظمته، ولو تأمل آياته لدلته على وحدانيته، سبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك ولا قدرناك حق قدرك، يقول الله - سبحانه وتعالى -: (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) [مريم: 90] قال الضحاك والسدي: "(يتفطرن) أي يتشققن من عظمة الله وجلاله فوقهن"[1].
فما أحوجنا إلى الأمور التي تقوي منزلة التعظيم لله - سبحانه - في قلوبنا وما أكثرها، فمنها:
- المعرفة الحقيقية بالله - سبحانه وتعالى - وما له من عظمة، فمن كانت معرفته بالله - سبحانه وتعالى - كبيرة كان تعظيمه لله كثيرا، قال أحمد بن عاصم: "من كان بالله أعرف كان له أخوف"[2]، ويدل على هذا قوله - تعالى -: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28] وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له))[3]. وقال بعض السلف: "من عرف الله أحبه على قدر معرفته به وخافه ورجاه وتوكل عليه وأناب إليه ولهج بذكره واشتاق إلى لقائه واستحيا منه وأجلَّه وعظمه على قدر معرفته به"[4]، ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - عليه وهو يبين منزلة التعظيم: "فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التعظيم، وهذه المنزلة تابعة للمعرفة؛ فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب - تعالى - في القلب، وأعرف الناس به: أشدهم له تعظيما وإجلالا، وقد ذم الله - تعالى -من لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته، وأقوالهم تدور على هذا فقال - تعالى -: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح: 13] قال ابن عباس ومجاهد: لا ترجون لله عظمة، وقال سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته، وقال الكلبي: لا تخافون لله عظمة، قال البغوي: والرجاء بمعنى المخوف، والوقار العظمة اسم من التوقير وهو التعظيم، وقال الحسن: لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة، وقال ابن كيسان: لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيرا، وروح العبادة: هو الإجلال والمحبة فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت، فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم فذلك حقيقة الحمد والله - سبحانه - أعلم"[5].
وقد وردت نصوص كثيرة تجعل الإنسان يستشعر عظمة ربه وخالقه العظيم، يقول الله - سبحانه وتعالى -: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة: 255] ومن تأمل في هذه الآية عرف قدر تلك العظمة.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سبحانه وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67])[6].
وانظر إلى هذا المخلوق العظيم الدال على عظمة خالقه - سبحانه وتعالى -، يقول الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله جل ذكره أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض وعنقه منثنٍ تحت العرش، وهو يقول: سبحانك ما أعظمك ربنا، فرد عليه ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبا))[7].
ومن المعرفة الحقيقية معرفة ما سمى الله به نفسه من أسماء وما اتصف به من صفات ومن هذه الأسماء: العظيم، الكبير، الجبار، العزيز، المتكبر، المهيمن، القادر، القاهر، المعز، المذل، الحميد، المجيد، ذو الجلال والإكرام،...فتعظ م الله - عز وجل - لا يتحقق إلا بإثبات الأسماء والصفات التي أثبتها لنفسه أو أثبتها له النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجه اللائق به - سبحانه -، وكذا نفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من صفات النقص والذم.
يقول العلامة السعدي: "وهو الموصوف بصفات المجد، والكبرياء، والعظمة، والجلال، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجل وأعلى، وله التعظيم والإجلال في قلوب أوليائه وأصفيائه، قد ملئت قلوبهم من تعظيمه وإجلاله، والخضوع له والتذلل لكبريائه"[8].
ويقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي: "إن الإنسان إذا سمع وصفاً وصف به خالق السموات والأرض نفسه، أو وصفه به رسوله، فليملأ صدره من التعظيم، ويجزم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والجلال والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فيكون القلب منزهاً معظماً له - جل وعلا -، غير متنجّس بأقذار التشبيه... "[9].
- ومن الأمور التي تزيد من تعظيم الله وإجلاله في القلوب: النظر بتفكر إلى هذا الكون الفسيح الذي يحتوي على عظيم قدرة الله، وبديع صنعه، وعجيب خلقه، وقد قص علينا القرآن كثيرا من هذه الآيات الدالة على عظمته ومنها:
قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 95 - 100].
وقال - تعالى -: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) [ق: 6 - 11].
- ومن الأمور التي تزيد من تعظيم الله وإجلاله في القلوب: قراءة كتاب الله بتفكر وتأمل والتعرف على حكم وأسرار هذا الوحي وكيف اشتمل على تلك الحقائق التي أبهرت العقول، وحيرت الفهوم، ولم تكتشف إلا في عصر التقدم العلمي، هذه الأمور تدل على عظمة هذا الكتاب الذي هو كلام العظيم - سبحانه وتعالى -.
ولما لتعظيم الله من أهمية فإن نبينا محمدا كان يربي أمته عليه، فعندما قال أعرابي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فإنا نستشفع بالله عليك، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سبحان الله، سبحان الله! فما زال يسبّح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه))[10].
وقد عرف سلفنا الصالح عظمة الله - سبحانه - فظهر على جوارحهم وتصرفاتهم أثر ذلك التعظيم، فهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول لبعض أصحاب المراء والجدل: "أما علمتم أن لله عبادا أصمتهم خشيته من غير عي ولا بكم وإنهم لهم العلماء الفصحاء النبلاء الطلقاء، غير أنهم إذا تذاكروا عظمة الله - عز وجل - طاشت لذلك عقولهم، وانكسرت قلوبهم، وانقطعت ألسنتهم، حتى إذا استفاقوا من ذلك تسارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية، فأين أنتم منهم؟ "[11].
وهذا إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رحمه الله تعالى -، لما سأله أحدهم عن قوله - تعالى -: (الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5] كيف استوى؟
يقول الرواي: فما رأيته وجد[12] من شيء كوجده من مقالته، وعلاه الرحضاء[13]، وأطرق القوم، فجعلوا ينتظرون الأمر به فيه، ثم سُرِّي عن مالك، فقال: الكيف غير معلوم، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني لأخاف أن تكون ضالاًّ، ثم أُمر به فأُخرج"[14]، فانظر إلى تعظيم هذا الإمام لله - سبحانه وتعالى - وكيف تغير حاله وتبدل لونه عندما سئل ذلك السؤال، وما كان ذلك منه - رحمه الله - إلا لمعرفته بالعظيم - سبحانه وتعالى -.
والذي نريد أن نصل إليه بعد هذا: أننا يجب علينا أن نعظم ربنا - سبحانه وتعالى - بقلوبنا ويظهر أثر ذلك التعظيم على جوارحنا، فنسمع أوامره وننقاد لها، ونقول سمعنا وأطعنا، راضين مستسلمين، كما كان أسلافنا الصالحون من الصحابة والتابعين، عندما كان يتنزل الوحي بين أظهرهم، فيبادرون بالتسليم والامتثال.
نريد أن يظهر أثر ذلك التعظيم بأداء الفرائض والواجبات التي كتبها الله علينا، وترك المحرمات والمنكرات التي نهانا عنها، فلو استشعر الناس عظمة الله - سبحانه وتعالى - في كل حياتهم لما وجدت تلك المخالفات التي يقع فيها كثير منهم، من ارتكاب للمنكرات وإتباع للشهوات والإعراض عن أوامر رب الأرض والسماوات.
لو وجد تعظيم الله لما وجدنا من نساء المسلمين الكاسيات العاريات، والمتسكعات في الأسواق والطرقات، والمتبرجات والمتزينات في الأندية والأماكن العامة.
إن تعظيم الله وإجلاله في قلب المؤمن رادع عظيم للمرء أمام كل وساوس شيطانية ونزغات شهوانية تساور المرء حتى توقعه فيما حرم الله - سبحانه وتعالى -، فعن النواس بن سمعان الأنصاري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعا، ولا تتعرجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد يفتح شيئاً من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم))[15].
نسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا من المعظمين له ولأمره وشرعه وحدوده، وجميع أحكامه، وكل ما عظمه - سبحانه وتعالى -، والحمد لله رب العالمين.
__________________
[1] تفسير القرطبي (16/ 4).
[2] مدارج السالكين (3 / 338).
[3] رواه مسلم (2 / 779) رقم (1108).
[4] مدارج السالكين (3 / 339).
[5] مدارج السالكين (2/495).
[6] رواه البخاري (4/1812) رقم (4533).
[7] المعجم الأوسط (7 /220) رقم (7324) وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع الصغير رقم (1714).
[8] تفسير السعدي (ص 946).
[9] منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: (ص36).
[10] رواه أبو داود (4/369) رقم (4728)، وضعفه الألباني.
[11] ذم الكلام وأهله للهروي- (4/259)
[12] غضب.
[13] العرق.
[14] عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني (ص 9).
[15] مسند أحمد ط الرسالة (29/181) رقم (17634)، وقال محققوه: "حديث صحيح"