تعديل سلوك الآباء قبل تعديل سلوك الأبناء


علاء الدين عبد الهادي



لعلك -أيها القارئ- في غنى عن مقدمات أسوقها هنا حول صعوبة التربية السليمة في ظل الأوضاع التي نعيشها وأزمات جيلنا المعاصر؛ حيث يسود التحلل الأخلاقي، وزعزعة الثوابت، وانتكاس الفطر، وتشوه الأعراف السائدة في المجتمع، وتغييب القدوات الحقيقية لصالح قدوات مريضة، وأفكار منحرفة، واستيلاء كتائب الإعلام المضلل على القلوب والألباب، وقد صاحب هذا بطبيعة الحال تراجع دور المؤسسات التي كان يناط بها التربية خارج البيت، كالمسجد ودعاته الصالحين المصلحين، والمدرسة وروادها التربويين، وغير ذلك مما يعلمه القاصي والداني؛ ولأن الأسرة -خط الدفاع الأخير- نواة المجتمع، بينما المجتمع يتهاوى أمام أعيننا؛ فلا عجب حينها أن تصبح المخرجات التربوية للأسرة -وأقصد بها هنا سلوك الأبناء والبنات- مشوهة كذلك.
الطفل انعكاس لصورتنا
ولك أن تعجب -أيها القارئ الكريم- من سلوك الآباء والأمهات؛ حيث يكثِرون الشكوى المريرة من الأبناء والبنات؛ بسبب اعوجاج سلوكهم وقلة انضباطهم، وسوء أخلاقهم، وقلة برهم، وتتعدى الشكوى إلى مأكلهم ومشربهم ودراستهم وأحوالهم عموما، ويلومون عليهما لومًا شديدًا، ويتأففون منهما ويتذمرون، وربما راح الواحد فيهم يعقد المقارنات بين حال أبنائه معه هذه الأيام وحاله هو مع أبيه ومعلمه في سالف العصر، ويغفل عن حقيقة واضحة أمام عينه، أنه لا الزمان هو الزمان، ولا المجتمع هو المجتمع، ولا هو كأبيه، ولا هي كأمها، {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} (الليل: 4).
نتاج عوامل عدة
نحن نغفل أحيانًا عن كون كثير من السلوكيات غير المرضية في الأبناء، إنما هي نتاج عوامل ومؤثرات عدة، أهمها سلوكنا وأحوال المجتمع والدائرة المحيطة، وهذه الأسرة وتلك الدائرة هما أول ما يتشرب منه الطفل سلوكه، ويرث عنه نظرته للحياة وكيفية التعاطي معها، وما ينبغي فيها، وما لا ينبغي، وإن كنا قد قدَّمنا بمجموعة عوامل جديرة أن تحرف الإنسان الكبير الراشد عن سواء السبيل -إلا أن يعصمه الله-؛ فما بالك بالطفل الصغير الذي ما زالت شخصيته تتشكل، وما زال عوده غضًّا لم يشتد؟!
مطالبة الطفل أن يكون كبيرًا
نجد كثيرًا من الآباء والأمهات يحاولون -بحسن نية في الغالب- تعديل سلوك الأبناء بالمواجهة المباشرة مع الطفل أمرًا ونهيًا، وإلزامًا وإملاءً، ووضعًا للقواعد وتوقعًا للكمال منه، وهذه المواجهة المباشرة والتركيز على ما ينبغي عمله أو تركه ربما يصلح بعضه مع الكبار الراشدين، ولكن ليس بإملاء الفضائل يتربى الطفل عليها، ولا هكذا يتشكل وجدانه وجوهر شخصيته، ولا بهذه الطريقة نضعه على طريق السواء النفسي والصلاح الحقيقي النابع من إدراك العبد لأهمية تزكية نفسه وإحياء فؤاده. نعم، تزكية نفسه ولو كان طفلًا صغيرًا.
التركيز على ما نريده
ونحن في ظل هذه الشكاوى نقع في خطأ آخر وهو التركيز على ما نريده لا ما يحتاجه الطفل، وعلى رغباتنا وتوقعاتنا لا على طبيعته ونفسيته وطريقة تشكلها، وعلى طلب راحة أنفسنا لا على التعامل مع المؤثرات الضاغطة عليه.
التفاعل مع الطفل
تعديل سلوك الطفل يأتي بالتفاعل معه وليس بالإملاء: على عكس الكبير الذي نطالبه هو بتعديل سلوك نفسه أو تصحيح أخطائه؛ فإن تعديل سلوك الطفل ذي السن الصغير يتركز العمل فيه على الآباء بإرشادهم وتعليمهم، وربما تعديل سلوكهم ابتداءً، وربما اتسعت الدائرة لتشمل مخاطبة الأصدقاء والأقارب والمحيطين بتوجيهات معينة، يتعاونون فيها مع الآباء؛ مما يُحدث أجواء معينة نأمل منها تعديل سلوك الطفل في النهاية، بأن يكون إتيان الفعل الحسن ومجانبة الفعل القبيح نابعًا منه وعن قرار حر يتخذه، وهذه التفاعلات السلوكية والنفسية لا شك تحتاج ابتداءً حاضنة يبنيها الكبار والمحيطون من الأجواء الطبيعية، والسلوكات السوية، والعلاقات الدافئة، والحنان المتدفق، والشعور بالأمان والمحبة التي يشعر بها الطفل ويحظى بها، ثم حينها، وحينها فقط -بتوفيق الله- تؤتي التوجيهات ثمارها ويصبح السلوك السوي ممكنًا، ثم يصير عادة ثم يتأصل طبعًا.
التوفيق مِن الله
ولا ينبغي أن نغفل أبدًا عن كون التربية الحسنة ومجانبة السلوك السيئ يحتاج دومًا إلى التوكل على الله {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة:23)، وأن توفيق المربين إلى الإصلاح، وتوفيق الأبناء إلى الصلاح، إنما هو محض فضل من الله {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} (هود:88)، وأن تزكية النفوس إنما تكون منه -سبحانه.