التجديد في الأدب (1)
للأستاذ أحمد أمين[1]
موضوع ثارَ فيه الجدل بين الكتَّاب، واحتدَم فيه الخلاف بين الباحثين، هل أدبنا العربي يحتاج إلى تجديد؟ وهل سواءٌ في ذلك شعره ونثره؟ وتعصَّب قوم للقديم يذودون عنه ويحافظون عليه، ولا يسمحون بأي تغيير فيه، وهبَّ المحدَثون ينعون على المحافظين جمودهم، وينذرونهم بسوء العاقبة إن هم ظلوا متمسكين بالقديم معرضين عن الجديد.
ولكن أسوأ ما يسوؤني في هذا الموضوع وأمثاله: الغموض والإبهام، فإذا سألت المجددين: ماذا يريدون بالتجديد؟ وما ضروبه؟ وما مناحيه؟ وماذا يقترحون أن يدخلوه على الأدب العربي؟ جمجموا بالقول وأتوا بكلمات غير محدودة المعنى، ولا واضحة الدلالة، وقد يجوز إذا حددوا أغراضهم وأبانوا عن مقاصدهم، أن يوافقهم المحافظون أو أكثرهم، ولا يكون ثمَّة خلاف، وإن يكن فخلاف معروف تقام عليه حجج واضحة.
من أجل هذا كلِّه أحاول أن أعرض لوجوه التجديد التي يُخيَّل إليَّ أنهم يريدونها، وأُدلي برأيي فيها، وأدعو الكتاب أن يسهموا فيها بآرائهم، ويستدركوا ما يفوتني من حججهم وأغراضهم:
في أدب كل لغة عناصر ثابتة لا يعتريها تغير، ولا ينالها تجدد، هي قدْرٌ مشترك من الأسلوب والتراكيب وتأليف الجُمل، به تمتاز اللغة من سائر لغات العالم، وينفرد أدب الأمة عن آداب العالم، وقدر مشترك من الفن، نتبيَّن به الجيد من الأدب في كلِّ عصر وكل جيل، هو فوق البيئة وفوق العوامل السياسية والاجتماعية، وفوق ما يطرأ عليها من كل تغيير.
وهذا وذاك هما اللذان يجعلاننا نتذوق الأدب الجاهلي، وندرك ما فيه من جمال، ونشعر بما فيه من نقص، ويستطيع الأديب منا أن يعرف خير ما قال امرؤ القيس، وما قال طرَفَة، وما قال زهير؛ وهو الذي يجعلنا نتذوق ما في القرآن الكريم من جمال في الأسلوب والمعنى، وندرك ما في العصر العباسي إلى عصرنا هذا من نثر وشعر، ونزنه ونقوِّمه، ونحكم على بعضه بالحسن والجمال والقوة، وعلى بعضه بالضعف والقبح والغموض.
ولولا هذا القَدْر المشترك لانقطعت الصلة بيننا وبين القديم، فلا نحس له جمالًا، ولا نتذوَّق له طعمًا.
وهذا النوع من العناصر لا يقبل تجديدًا ولا تغييرًا؛ إذ بتغييره تضيع اللغة وتفقد مشخصاتها، فلو قلبنا تركيب الجمل رأسًا على عقب، أو لم نراع الوضع الذي تسير على نهجه اللغة، لكان لنا من ذلك لغة جديدة، ليس بينها وبين الأولى نسب.
وهناك نوع آخر من العناصر في اللغة والأدب، خاضع للتغيير، قابل للتشكُّل، يتأثر بالبيئة وبدرجة الحضارة، وبالأساليب السياسية، وبالحياة الاجتماعية، وغير ذلك، وفي هذا النوع يكون التغيير والتجديد، ومن أجل هذا التغيير كانت الفروق واضحة بين الشعر العباسي والشعر الجاهلي، في التعبير والتشبيه والأسلوب والموضوع، ونحو ذلك، ومن أجل هذا أمكن الأديب إذا عرض عليه نوع من الأدب، أن يعرف عصره ولو لم يعرف قائله؛ لأنه يستطيع أن يتبيَّن خصائص كل عصر ومميزاته، ويطبق ذلك على ما يعرض عليه من شعر أو نثر، ومن أجل هذا أيضًا ترى الفرق واضحًا بين لغة الأدباء الآن وبين لغتهم منذ عشرين عامًا، وتجد الفرق واضحًا بين لغة الجرائد المصرية اليوم، وبين لغة الجرائد السورية والعراقية، وإن كانت كلها تصدر باللغة العربية، وتشترك في العناصر الأساسية.
وهذا التغيير أو التجديد في الأدب وتأثره بما حوله خضع له الأدب العربي وكل أدب على الرغم من المحافظين والجامدين؛ فقد رأينا في العصر العباسي مدرسة وعلى رأسها الأصمعي لا تحب إلا الشعر الجاهلي، ولا تحب من المحدثين إلا من قلَّد القدماء، ورأينا من كان يُنْشدُ الشعر فيستحسنه، فإذا قيل له: إنه محدث استهجنه، واتهم ذوقه، ولكن هذه المدرسة أخضعها الزمن لحكمه، ونشأ أدب عباسي جديد، احتفظ بالعناصر الأساسية للأدب العربي ولم يأبه لما عداها، وكان الفرق كبيرًا بين الأدبين كما قال الجاحظ: كم من الفرق بين قول امرئ القيس:
تَقولُ وقد مال الغبيطُ بنا معًا
وقول علي بن الجهم:
فبتْنا جميعًا لو تُراق زجاجةٌ *** من الماءِ فيما بيننا لم تَسَرَّبِ
وجاء المتنبي وعلى أثره المعريُّ، فجددا في الشعر من ناحية الأسلوب ومن ناحية المعاني، فأنكر عليهما أدباءُ عصرهما نزعتَهما الجديدة، حتى رأينا من بين العلماء من أبوا أن يعدوهما في الشعراء، ثم حكم الزمن على هؤلاءِ العلماء، ووضع المتنبي والمعري في مكانهما اللائق بهما.
وكان هذا هو الشأن في كل عصر، حتى عصرنا الحديث، نشأ قوم تأثروا بالأدب العربي القديم وحذوا حَذوه، ولم يخرجوا قيد شعرة عنه، فلو ركبوا الطائرة قالوا ركبنا الهودج والبعير، وإذا استهلكت البنزين قالوا رعت السَّعدان، وسموا الجنيهات الإنجليزية وعملة الورق دراهم ودنانير، وإذا لم يكن لهم من الأمر شيء، قالوا: لا ناقة لنا ولا جمل، إلى كثير من أمثال ذلك.
وتأدَّب قوم بالأدب الغربي إلى ثقافتهم العربية، فثاروا على كل ذلك، واختلفوا بينهم في مقدار هذه الثورة، فقوم يريدون أن يتحرروا من الأوزان والتزام القوافي، وآخرون يريدون أن يتحرروا من التشبيهات البالية والمجاز العتيق، وآخرون يعافون بعض الأساليب القديمة، والموضوعات التي جرى عليها السابقون، وكان صراعٌ بين الطائفتين نعرض له بعد.
على كل حال دلَّتنا أحداث الزمان على أن عوامل البيئة في التغيير والتجديد لا يمكن أن تقاوم، كما دلتنا على أن ليس كل تجديد يصادفه التوفيق ويتسع له صدر الزمن، وأن نجاح من نجح من دعاة التجديد، وفشل من فشل منهم إنما كان خاضعًا لقوانين طبيعية ظاهرة حينًا وخافية أحيانًا، وأن نوع التجديد إن كان صالحًا وكان مما تسمح به القوانين الطبيعية للأدب، فمعارضة المعارضين لا يكون لها من أثر إلا أن تؤخر زمن الإصلاح، وهو واقع لا محالة يومًا ما، وإذا لم تسمح بها هذه القوانين كانت دعوة التجديد صيحة في فضاء، أو خطًّا في ماء.
وبعد فأي أنواع التجديد يتطلبه المجددون؟ وهل من خير الأدب العربي قبوله أو رفضه؟
إن أول أنواع التجديد وأبسطها تجديد الألفاظ؛ لأنها مادة الأديب الأولية، وخيوطه التي ينسج منها قطعته الفنية.
وتجديد الألفاظ على ضربين:
(1) اختيار الألفاظ التي تناسب العصر ويرضاها ذوق الجيل الحاضر؛ لأن لكل أمة في كل عصر ذوقًا خاصًّا بها تختار ألفاظًا تناسبها، وتأنَس بها، وتمج ألفاظًا لا تستحسنها ولا تستسيغها، وذوق الأمة في حياة مستمرة، فهو كذلك في عمل مستمر إِزاء الألفاظ، وأدباء كل عصر لهم معجم يخالف معاجم اللغة القديمة، فلو أن أديبًا استعمل كلمة (هَبَيَّخ) للجارية الحسناء، لكفت في إسقاط قصيدته أو مقالته، ولو استعمل كلمة بُعاق للمطر أو السيل لدل على فساد ذوقه، وسوء أدبه، ومن أجل ذلك لا يستحسن في هذا العصر بعض ما كان يستحسن في عصور سابقة، فقد كان يستحسن من أبي الطيب قوله:
وترَى الفضيلةَ لا تردُّ فضيلةً *** الشمسُ تشرقُ والسَّحابُ كَنَهْورا
ولكن (كنهورا) الآن ثقيلة في اللفظ كريهة على السمع، وهذا بديهي لا يحتاج إلى إطالة، وكل من جهل هذه الحقيقة لا يفلح أن يكون أديبًا، لقد أراد الأستاذان الشنقيطي وحمزة فتح الله أن يُحييا غريب الألفاظ ويَستعملاه في قولهم وكتابتهم، ففشِلا كل الفشل، وكان الناس يستظرفون ذلك منهما كما نستظرف فتاة حضرية لبست ثياب بدوية، وفهِموا أن ذلك ليس جدًّا من القول، وليس طبيعيًّا أن تعيش بداوة القرن السابع في حضارة القرن العشرين، إنما يحيا الأديب يوم يوفق لاختيار الألفاظ الرشيقة التي تناسب ذوق عصره، والعصر الآن أميل إلى السرعة والاقتصاد، وكلاهما يتطلب الوضوح والجلاء لا الغموض والغرابة، لذلك أصبحت في معاجم لغتنا ألفاظ كثيرة ليس لها قيمة، إلا أنها أثرية تحفظ فيها كما تحفظ التحف في دار الآثار.
والضرب الثاني: ألفاظ تُخْلق خَلقًا، تلك الألفاظ التي تساير المدنية الحديثة بكل ما اخترعت من أدوات وصناعات، وما ابتكرت من فن وعلم ومعاني وآراء، واللغة العربية اليوم قاصرة كل القصور في هذا الباب، فليس لدينا ألفاظ لكثير مما اختُرع وابتُكِر، وهذه مشكلة المشاكل اليوم وقبل اليوم تجادل العالم العربي فيها طويلًا ولما يستقر على حال.
وكان لقصور الألفاظ أثرٌ كبير في ضعف الأدب، فكيف يستطيع الأديب أن يصف حجرة وكل ما فيها من أثاث ليس له ألفاظ تدل عليه؟ وكيف يستطيع الكاتب أن يؤلف رواية، وهو في كل خطوة يعثر بمسميات لا أسماءَ لها؟ ولذلك يهرب كثير من الأدباء من التعبير الخاص إلى التعبير العام، فإذا أراد أن يصف رجلًا يلبس طربوشًا قال: إنه يلبس عمامة أو قلنسوة، والحقيقة أنه لا يلبس عمامة ولا قلنسوة، وإنما يلبس طربوشًا، وإذا أراد أن يقول: إنه يضرب على البيانو، قال: إنه عزف على آلة موسيقية، وهذا منتهى الفقر في التعبير.
كل هذا حقن الأفكار في أدمغة الأدباء، وسبب ضعَّف الوصف والرواية وغيرهما في الأدب العربي الحديث، وجعل الأدباء يَفرون إلى الموضوعات الإنسانية العامة، والأفكار الميتافيزيقية، فإن نحن شئنا أن يكون الأدب ظلًّا لحياتنا - وحياتنا الآن - وجب أن نحل مشكلة الألفاظ حتى يطلق الأدباء من أغلالهم، وإلا ظلوا يدورون حول أنفسهم، وظل أدبُهم غذاءً ناقصًا للأمة ليس فيه كل العناصر التي لا بد منها للحياة.
وهناك تجديد في مناحي أخرى غير الألفاظ نعرض لها في مقالات تالية إن شاء الله.
-----------------------
[1] الأستاذ أحمد أمين، من كبار الكتَّاب في عصره، عالم بالأدب، واسع الاطلاع، منحته جامعة القاهرة لقب (دكتور) فخري سنة 1948، وهو: أحمد أمين ابن الشيخ إبراهيم الطباخ، اشتهر باسمه (أحمد أمين) وضاعت نسبته إلى (الطباخ)، ولد بالقاهرة سنة 1295هـ = 1878م، وعاش فيها وتوفي بها سنة 1373هـ = 1954م.
أُخذ عليه تأثره إلى درجة كبيرة ببحوث المستشرقين وكتاباتهم عمومًا، وما يتعلَّق منها بالموقف من الحديث النبوي والموقف من الصحابة خصوصًا. نشرنا له هذه المقالات لتميزها من الناحية الأدبية والتاريخية، ولكونها مقالات قديمة نرغب في إظهارها على شبكة الإنترنت، فلزم التنبيه على مذهبه ليكون المسلم على حذر من ذلك.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/literature_la...#ixzz6EDhzWepa