الحمد لله الذي لا يُنال فضل إلا برحمته، ولا يُدرَك خير إلا بنعمته، لا تُحصَى آلاؤه، ولا تجزى نعماؤه، ولا يُكافأ فضله، ولا يُبلَغ شكره، أحمده حمدًا يرضاه ويتقبله، وأسأله التوفيق والسداد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
قال الله تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36]، وقال الله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14].
وحول هذه الآية يُقال: "ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث، لا تُقبل واحدة منها بغير قرينتها: أولاها قوله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 43]، فمن صلَّى ولم يؤدِّ الزكاة لم تقبل منه الصلاة، والثانية قوله تعالى: ﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ [النور: 54]، فمن أطاع الله ولم يطِعِ الرسول لم يُقبَل منه، والثالثة قوله تعالى: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ﴾ [لقمان: 14]، فمن شكر الله في نعمائه، ولم يشكر الوالدين لا يقبل منه"[1].
أيها المسلم أيتها المسلمة، أبوك الذي عاش من أجل سعادتك، يتعب لتستريح، ويشقى لتسعد، يترك ماله وبيته ومتاعه لك، ولو شاء لأنفقه في سبيل الله، ليكون له عند الله تعالى، ما حقه عليك؟
أمك التي حملتك بين أحشائها تسعة أشهر، ووضعتك في ألمٍ يشبه ألم الموت، وأرضعتك عامين وقتما تريد في ليل أو نهار، وطرحت عنك الأذى بيديها في رضًا وسعادة، وسهرت على راحتك، ما حقها عليك؟
حق الوالدين عليك البرُّ والإحسان؛ قال الله تعالى: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60].
كيف يكون برهما؟
بطاعة أمرهما، وسرعة إجابتهما، والرفق بهما، والتذلل لهما، والإصغاء إليهما دون انصراف عنهما بشاغل أيًّا كان، وإدخال السرور عليهما بهدية، أو بعمل يفرحهما، بصلة رحمهما، بإظهار الفرح والبِشْرِ عند رؤيتهما، تقبيل أيديهما ورأسيهما، أخذ رأيهما، الاستئذان منهما، تعويد أولادك برَّهما، كثرة الدعاء والاستغفار لهما أمامهما ومن خلفهما، أحياءً وأمواتًا، إكرام صديقهما، تجنب ما يغضبهما، تقديرهما والتأدب معهما غاية الأدب: بعدم سبقهما إلى طعام، أو كلام، أو جلوس، أو المشي أمامهما، إلا إذا خِفْتَ عليهما خطرًا فستبقهما إليه، ولا تبخل عليهما بمالك، ولا تمنَّ عليهما بشيء فعلته، ولا تقدِّم عليهما مالًا، ولا ولدًا، ولا زوجةً، ولا دنيا، ولا عملًا، ولا ترفع نفسك عن خدمتهما، ولا تكلفهما ما لا يطيقانه، ولا تقبِّح رأيهما أو تقلل من شأنهما، أو تعبس في وجوههما، ولا ترفع صوتك عليهما، ولا تنهرهما ولا تُحزِنهما، فأنت مطالب بأن تقدم لهما كل ما تستطيع من البر والإحسان وجميل القول وأحسنه وألينه، مع اعترافك لهما بالعجز والتقصير، واعلم أنك لن توفِّيَهما حقهما مهما بالغت في البر والإحسان؛ لذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجزي ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه))[2].
ولا ينبغي لمسلم ولا مسلمة أن يثنيَ والديه عن خير أو معروف يريدانه، ولا أن يمنعهما من برٍّ أو صدقة أو حج؛ حتى لا يكون عدوًّا لهما يفسد آخرتهما ليصلح دنياه؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التغابن: 14].
أيها المسلم، أيتها المسلمة، تيقن أنك لن تسعد في الدنيا وتهنأ في الآخرة إلا بدعائهما لك، ورضاهما عنك.
تأمل معي منزلة بر الوالدين وجزاء تلك العبادة الجليلة التي أمرنا الله بها مرة بعد مرة، تلك العبادة المحببة إلى نفس كلِّ مَن سلِمت فطرته، وخلصت نيته، وحسنت سريرته.
تأمل منزلة بر الوالدين وجزاء البار بهما:
1- بر الوالدين أحب الأعمال وأقربها إلى الله تعالى: عن أبي عمرو الشيباني يقول: أخبرنا صاحب هذه الدار، وأومأ بيده إلى دار عبدالله، قال: ((سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: حدثني بهن، ولو استزدتَه لزادني))[3].
2- أن بر الوالدين يعدل أعظم العبادات: أخرج الطبراني عن أنس بن مالك قال: ((أتى رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني أشتهي الجهاد، وإني لا أقدر عليه؟ قال: هل بقي أحد والديك؟ قال: أمي، قال: فأبْلِ الله عذرًا في برِّها، فإذا فعلت ذلك، فأنت حاجٌّ ومعتمر ومجاهد، إذا رضيَتْ أمك، فاتقِ الله وبرَّها))[4].
3- بر الوالدين سبب في بر الأبناء: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعِفُّوا تعف نساؤكم، ومن تُنصِّلَ إليه فلم يقبل، لم يرد عليَّ الحوض يوم القيامة))[5].
4- أن بر الوالدين يكفر الذنوب والكبائر: عن ابن عمر: ((أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أصبت ذنبًا عظيمًا، فهل لي توبة؟ قال: هل لك من أمٍّ؟ قال: لا، قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: فبرَّها))[6].
وقال رجل لعبدالله (يعني: ابن المبارك رضي الله عنه): "إني قتلتُ نفسًا، فهل لي من توبة؟"، قال: "ألك أبوان؟"، قال: "أمي حيةٌ"، قال: "الزمها وبرها، واجعل التراب على رأسك، وابكِ على نفسك ما بقيت، وإياك أن تيأس من رحمة الله؛ فإنك إن أيست من رحمة الله، كان أعظم عليك من هذا الذنب الذي ركبته"[7].
5- بر الوالدين يزيد في العمر: عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يردُّ القدر إلا الدعاء، وإن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه))[8].
6- بر الوالدين سبب في رضا الله تعالى: عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين))[9].
7- بر الوالدين مما يفرج الله به الكرب: عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما ثلاثة نفر يمشون، أخذهم المطر، فأوَوا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالًا عمِلتموها صالحةً لله، فادعوا الله بها؛ لعله يفرجها عنكم، قال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم حلبت، فبدأت بوالدي أسقيهما قبل بَنيَّ، وإني استأخرت ذات يوم، فلم آتِ حتى أمسيتُ، فوجدتهما ناما، فحلبتُ كما كنت أحلب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما، وأكره أن أسقيَ الصبية، والصبية يتضاغَون عند قدمي حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلتُهُ ابتغاء وجهك، فافرج لنا فرجةً نرى منها السماء، ففرج الله، فرَأَوا السماء ...))[10].
8- سبب في دخول الجنة: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رغِم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: مَن أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة))[11]، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دخلتُ الجنة فسمعت فيها قراءةً، فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلكم البر كذلكم البر))[12]، وعن معاوية بن جاهمة السلمي قال: ((أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ويحك! أحيَّةٌ أمك؟ قلت: نعم، قال: ارجع فبرَّها، ثم أتيته من الجانب الآخر، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ويحك! أحية أمك؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: فارجع إليها فبرها، ثم أتيته من أمامه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ويحك! أحية أمك؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: ويحك! الزم رجلها، فثَمَّ الجنة))[13].
حق الوالدين على الأبناء عظيم جدًّا، وبرهما من أوجب الواجبات، لا يُوفَّق له إلا من أحبه الله ووفقه لطاعته؛ لذلك تجد في حياة السلف الصالح رضوان الله عليهم نماذجَ مشرقةً في البر بالوالدين:
صور مشرقة من بر الوالدين:
لقد كان وما زال دأب الصالحين بر الوالدين، والمنافسة في إكرامهما وإرضائهما والإحسان إليهما؛
فهذا نوح عليه السلام لم ينسَ والديه حين دعا لنفسه؛ كما حكى القرآن: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَالْمُؤْمِنَات ِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ﴾ [نوح: 28]، وهذا عيسى عليه السلام يذكر أن أهم ما يميزه بر والدته؛ كما في الآية: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾ [مريم: 32]، وموقف إبراهيم عليه السلام من أبيه آزر الذي ظل على عناده وكفره، فتراه ينصحه بأسلوب رقيق عذب، فيجعل كل جملة تبدأ بـ﴿ يَا أَبَتِ ﴾ التي تُشعِر بالرقة والاحترام واللطف، حتى أخذت أباه العزة بالكفر، فهدد إبراهيم عليه السلام بالرجم إن عاد إلى النصح، وطلب منه الهجر، ومع ذلك ردَّ عليه ردًّا جميلًا غاية في اللطف والرحمة؛ قائلًا: ﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴾ [مريم: 47]، وهذا إسماعيل عليه السلام تركه أبوه في الصحراء صغيرًا - بوحي من الله - وعاد إليه غلامًا ليقول له: ﴿ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ﴾ [الصافات: 102]، فرد عليه ردًّا جميلًا بارعًا غاية في الاستسلام والطاعة والبر؛ قائلًا: ﴿ قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102].
وتأمل بر الصحابة ومن تبعهم بالوالدين:
عن عبدالله بن دينار: ((أن رجلًا من الأعراب لقي عبدالله بن عمر بن الخطاب بطريق مكة، فسلَّم عليه عبدالله، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامةً كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله، إنهم الأعراب، وإنهم يرضَون باليسير، فقال عبدالله: إن أبا هذا كان ودًّا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه))[14].
عن أبي مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب: ((أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بالعقيق، فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: عليكِ السلام ورحمة الله وبركاته يا أماه، تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، يقول: رحمكِ الله كما ربيتِني صغيرًا، فتقول: يا بني، وأنت فجزاك الله خيرًا، ورضي عنك كما بررتني كبيرًا))[15]، و((رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلًا قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة، فقال: يا ابن عمر، أتراني جازيتها؟ قال: ولا بطلقة واحدة من طلقاتها، ولكن قد أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيرًا))[16]، وعن مصعب بن عبدالله قال: سمعت أبي يقول: سمعت جدي يقول: قال عامر بن عبدالله بن الزبير: ((مات أبي فما سألت الله حولًا إلا العفو عنه))[17]، سنة كاملة ما له دعاء سوى العفو عن أبيه.
وعن ابن عون قال: ((دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فرأه خافضًا صوته كأنه يتضرع، فقال: ما شأن محمد؟ أيشتكي شيئًا؟ قالوا: لا، ولكن هكذا يكون عند أمه))[18].
وعن حجر بن عبدالجبار الحضرمي قال: كان في مسجدنا قاصٌّ يُقال له: زرعة، فنُسب مسجدنا إليه وهو مسجد الحضرميين، فأرادت أم أبي حنيفة أن تستفتني في شيء، فأفتاها أبو حنيفة فلم تقبل، فقالت: لا أقبل إلا ما يقول زرعة القاصُّ، فجاء بها أبو حنيفة إلى زرعة، فقال: هذه أمي تستفتيك في كذا وكذا، فقال: أنت أعلم مني وأفقه، فأفتِها أنت، فقال أبو حنيفة: قد أفتيتُها بكذا وكذا، فقال زرعة: القول كما قال أبو حنيفة، فرضيت وانصرفت، وقال النخعي: حدثنا محمد بن محمود الصيدناني قال: حدثني ابن شجاع قال: سمعت الحسن بن زياد يقول: حلفت أم أبي حنيفة بيمين فحنثت، فاستفتت أبا حنيفة فأفتاها فلم ترضَ، وقالت: لا أرضى إلا بما يقول زرعة القاص، فجاء بها أبو حنيفة إلى زرعة، فسألته، فقال: أفتيكِ ومعكِ فقيه الكوفة؟ فقال أبو حنيفة: أفتها بكذا وكذا، فأفتاها، فرضيت[19]، وعن ابن عون أن أمه نادته فأجابها، فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين[20]، وكان زين العابدين كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها[21].
ومن العجيب أن الصحابة رضوان الله تعالى عنهم لم يكتفوا ببر الوالدين في حياتهم فحسب، بل كانوا يبحثون عن كيفية برهم بعد موتهم؛ فعن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: ((بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبويَّ شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما))[22]؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24]؛ حيث ذكر الله تعالى كلمة التربية؛ ليتذكر العبد شفقة الوالدين وتعبهما في التربية ورحمتهما؛ ليرحمهما كما رحماه ويرفق بهما كما رفقا به؛ فينال بذلك فضل الله ورضاه في الدنيا والآخرة.
اللهم اجعلنا من الأبناء البررة وأكرمنا ببرهما في الدنيا والآخرة.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين؛ أما بعد:
فالوالدان يُكرَمان ويُخدَمان ويُحترَمان، ويعظم شأنهما، ويشكر جهدهما، ويكون ذلك بصدق وإخلاص، حتى لو أخطأ الوالدان، فإنهما يوعظان برفق ولين؛ قال الله تعالى في سياق الحديث عن الإحسان إلى الوالدين: ﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 25].
الكثير منا لا يشعر بالنعمة إلا إذا فقدها، فلا يعرف قدر الأبوين إلا مَن فقدهما؛ لأنهما نعمة من الله ورحمة وبركة، تتنزل بهما الرحمات، ويكون برضاهما رضا الله تعالى؛ يقول شوقي في وصف عظيم رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته مشبهًا لها برحمة الأبوين بأولادهم:
وإذا رحمتَ فأنت أمٌّ أو أبٌ *** هذان في الدنيا هما الرحماءُ
وأنت إذا تأملت الناس حولك، وجدتَ أن أهل البر بالوالدين سعداء، وأهل العقوق أشقياء تعساء، لا ينصلح لهم حال ولا يهنأ لهم بال، ولقد كان لي صديق لا ينشغل بشيء عن أبويه، وقد بلغا من العمر أرذله، فكان رحمه الله من بره أن جعل لهما وقتًا خاصًّا بهما بين المغرب والعشاء كل يوم، لا يثنيه عن هذا الموعد شيء مهما كان، يضاحكهما ويسمع منهما ويؤنسهما، مع قضاء حوائجهما في الأوقات الأخرى، وقد رأيت لهذا الرجل تيسيرًا وتوفيقًا عجيبًا في شتى أمور حياته، فما وقفت أمامه مشكلة، ولا ضاقت به معضلة، وما أرى ذلك إلا لبرِّهِ لأبويه، فبر الوالدين هو سعادة الدنيا والآخرة.
رزقنا الله وإياكم بر الوالدين والإحسان إليهما، وجمعنا وإياكم ووالدينا والمؤمنين والمؤمنات مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من الجنة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
--------------------------
[1] روح البيان، إسماعيل حقي (6/ 172)، ط: دار الفكر، بيروت.
[2] رواه مسلم.
[3] متفق عليه.
[4] لم يروِ هذا الحديث عن الحسن إلا ميمون بن نجيح، تفرد به إبراهيم بن الحجاج، ولا يُروَى عن أنس إلا بهذا الإسناد.
[5] رواه الطبراني، وضعفه الألباني.
[6] رواه الترمذي.
[7] تعظيم قدر الصلاة، أبو عبدالله محمد بن نصر بن الحجاج (2/ 648)، ط: مكتبة الدار، المدينة المنورة.
[8] رواه ابن ماجه، وقال الأرنؤوط: حسن لغيره دون قوله: ((إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)).
[9] أخرجه الترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم.
[10] متفق عليه.
[11] رواه مسلم.
[12] هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
[13] رواه ابن ماجه، وقال الأرنؤوط: حسن لغيره وقد اختلف في إسناده.
[14] رواه مسلم.
[15] رواه البخاري في الأدب المفرد، وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد: حسن الإسناد.
[16] الكبائر، الإمام الذهبي، ص: 42.
[17] تاريخ دمشق لابن عساكر (28/ 243).
[18] الزهد، الإمام أحمد، ص: 248.
[19] تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (15/ 487)، ط: 1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2002م.
[20] سير أعلام النبلاء (3/ 366).
[21] وفيات الأعيان، ابن خلكان (3/ 268)، ط: دار الصادر، بيروت، 1990م.
[22] الترغيب والترهيب للمنذري (3/ 222)، ط: 1، دار الكتب العلمية، بيروت، رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، وزاد في آخره: ((قال الرجل: ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه! قال: فاعمل به)).


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/138663/#ixzz6E8MspIBr