عابدة متعبدة


أ. سميرة بيطام

ميمونة السوداء [*]


روى الفُضيل بن عياض أن عبدالواحد بن زيد قال: سألت الله - عز وجل - ثلاث ليال أن يُريني رفيقي في الجنة فرأيت كأن قائلاً يقول: يا عبدالواحد، رفيقك في الجنة ميمونة السوداء، فقلت: وأين هي؟ فقال: في آل بني فلان بالكوفة.

قال: فخرجت إلى الكوفة وسألتُ عنها فقيل: هي مجنونة بين ظهرانينا تَرعى غنيمات لنا، فقلت: أريد أن أراها، قالوا: اخرج إلى الجبَّان، فخرجتُ فإذا بها قائمة تُصلي وإذا بين يدَيها عُكاز لها، وعليها جُبَّة من صوف، عليها مكتوب: لا تباع ولا تشترى، وإذا الغنم مع الذئاب، فلا الذئاب تأكل الغنم ولا الغنم تخاف الذئاب.

فلما رأتني أوجزَت في صلاتها ثم قالت:


ارجع يا بن زيد ليس الموعد هاهنا إنما الموعد ثَمَّ، فقلت: رَحمك الله ومن أعلمَك أني ابن زيد؟ فقالت: أما علمت أن الأرواح جنْد مجنَّدة، فما تعارَف منها ائتلف وما تناكَر منها اختلف؟ فقلت: عِظيني، فقالت: واعجبًا لواعظ يوعَظ، ثم قالت: يا بن زيد إنك وضعت معايير القسط على جوارحك لخبرتك بمَكتوم مكنون ما فيها، يا بن زيد إنه بلَغني أنه ما من عبد أُعطي من الدنيا شيئًا فابتغى إليه ثانيًا إلا سلبه الله حب الخلوة معه، وبدَّله بعد القرب البعد، وبعد الأنس الوحشة، ثم أنشأت تقول:
يا واعظًا قام لاحتِساب
يزجر قومًا عن الذنوب

تَنهى وأنت السقيم حقًّا
هذا من المُنكَر العَجيب

لو كنت أصلحت قبل هذا
عيبك أو تبتَ من قريب

كان لما قلت يا حبيبي
موقع صدق من القلوب

تنهى عن الغي والتمادي
وأنت في النَّهي كالمريب

فقلت لها: إني أرى هذه الذئاب مع الغنم، فلا الغنم تفزع من الذئاب ولا الذئاب تأكل الغنم، فأي شيء هذا؟ فقالت: إليك عني؛ فإني أصلحت ما بيني وبين سيدي، فأصلح بين الذئاب والغنم!

[*] - منقول عن الإمام أبي الفرج بن الجوزي من كتابه "صفة الصفوة"، حققه وعلق عليه محمود فاخوري، وخرَّج أحاديثه الدكتور محمد رواس قلعة جي، المجلد الثالث، دار المعرفة لبنان، الطبعة الثالثة، السنة 1985، (ص: 195، 196).