الأمن النفسي
عبد الله القرشي


ما أجمل أن يعيش الإنسان في هذه الحياة، في أمن وأمان قرير العين، مطمئن الفؤاد، ساكن النفس، لا يعرف هماً ولا قلقا، ولا خوفاً ولا اضطرابا.
إن خاف فإنما يخاف من الله أن يكون فرط في حقه، أو اعتدى على أحد من خلقه.
فما أجمل عيش هذا الإنسان؟ وما أسعد باله؟.
إن هذه أمنية يتمناها الخلق جميعهم، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم، مؤمنهم وكافرهم.
ولكن تبقى هذه أمنيات وأماني لا حقيقة لها في واقع الإنسان، إلاّ إذا آمن بالله الواحد الديان.
نعم إن سكون النفس واطمئنانها، وأمنها وأمانها، لا يتحقق بمال وفير، أو جاه عريض .. أو .. أو.. كلا، فلقد علمتنا الحياة أن أكثر الناس قلقاً وضيقاً واضطراباً، هم المحرومون من نعمة الإيمان، وإن بلغوا ما بلغوا، فإن حياتهم لا طعم لها ولا مذاق؛ لأنهم لا يدركون لها معنى، ولا يعرفون لها هدفاً.
ولكي ندرك هذه الحقيقة، فإليكم نموذجاً من نماذج الخوف والاضطراب لرجل ملك المال الوفير، والحياة العريضة، فقد بلغ قمة الترف والنعيم المادي، ولكنه فقد الإيمان، فانتابه الخوف من كل مكان، وقد كتب هذه الرسالة بيده، معبراً فيها عن خوفه وتعاسته، يقول: "إنني أعيش في خوف دائم، في رعب من الناس والأشياء، ومن نفسي، لا الثروة أعطتني الطمأنينة، ولا المركز الممتاز أعطاني، ولا الصحة، ولا الرجولة، ولا المرأة، ولا الحب، ولا السهرات الحمراء، ضقت بكل شيء، بعد أن جربت كل شيء.
إنني أكره نفسي.. أخاف من نفسي.. ألا ترى الأشباح من حولي؟ ألا تحس بالخوف يفتح فمه لكي يلتهمني؟ مم هذا؟ الهموم؟ ليست لي هموم.
إن همي الأكبر هو هذه الحياة، المال عندي، المركز والجاه، والمرأة والجمال..... كل شيء بين يدي.... فلماذا أنا خائف إذن؟ من الله؟ كلا.
إن الله لا وجود له في حياتي، ممّ إذن أخاف؟ من الموت؟ ربما ولكني لا أبالي، إنه عندي مجرد ظاهرة.
إلى أن قال: لا بد أن أخاف؛ لأنني لا أجد ما أخاف منه، إنني تائه في الحياة؛ لأنني بلغت قمة الحياة.
إن الحياة الآن هي عدوي، عرفت الآن مم أخاف؟ إني أخاف منه".
وهكذا يعيش أولئك المحرومون من حلاوة الإيمان حياة الخوف والقلق والاضطراب، مهما بلغوا من وفرة المال والتنعم بالملذات.
ومن هنا يقرر ربنا -تبارك وتعالى- قاعدة مهمة لمن أراد الحياة الآمنة المطمئنة، حيث يقول الله -عز وجل-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82].
ألا ما أعظمها من آية لو تأملناها حقاً، لقد وعد ربنا بتحقيق الأمن، ولكن بشروط:
الشرط الأول: الإيمان.
الشرط الثاني: عدم الإشراك بالله.
وما هو الوعد: (أولئك لهم الأمن) مطلقاً في كل زمان ومكان: الأمن النفسي، الأمن على الأرزاق، الأمن على الآجال، الأمن في الدنيا، الأمن عند الموت، الأمن بعد الموت، الأمن عند دخول الجنان: (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ) [الحجر: 46)].
وعد الله: (ومن أصدق من الله حديثاً). (ومن أصدق من الله قيلاً).
إذن طريق الأمن. الإيمان: أنه كلما كان الإنسان أكثر إيماناً كلما كان أكثر أمنا واطمئناناً، والعكس بالعكس.
وإليكم الآن نماذج وصوراً من أمن المؤمنين في هذه الحياة الدنيا؛ فمن تلك الصور: أن المؤمن آمن على رزقه.
إن أكثر ما يخيف الناس اليوم هو خوفهم على أرزاقهم، فهو الشبح الذي يقلقهم ليل نهار.
وكم نسمع وتسمعون عبارات يطلقها الناس، تدل على خلل في هذه القضية فمن ذلك قولهم:.. فلان قطع رزق فلان، فلان ضيع رزق فلان، إلى غير ذلك من العبارات.
ولذلك يصبح الشخص عبداً لماله، عبداً لوظيفته، عبداً لمنصبه، يكذب ويحتال، يخادع ويصانع، لا يفرق بين حلال وحرام، فالحلال ما حل في الجيب، رضا مسؤوله مقدم على رضا الله؛ لأنه يخاف أن يهدد في رزقه، فيعيش ذليلاً مهاناً.
أمّا المؤمن الذي خالط الإيمان بشاشة قلبه، فهو من أكثر الناس أمناً على رزقه؛ فإن الأرزاق بيد الله، وفي ضمان الله الذي لا يخلف وعده، ويضيع عبده.
وقد خلق الأرض مهاداً وفراشا وبساطاً، ووعد المخلوقات جميعها بكفالة الأرزاق، وعداً كرره وأكده، وأقسم عليه: (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً)[الكهف: من الآية98)].
وقال: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 58)].
وقال: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات: 22)].
وقال: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)[هود: من الآية6)].
وقال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت: 60)].
فهذه الضمانات، يعيش المؤمن حياته آمناً على رزقه ليقينه بأن الله لن يهلكه جوعاً، وهو الذي يطعم الطير في الوكنات، والسباع في الفلوات، والأسماك في البحار، والديدان في الصخور.
لقد كان المؤمن يذهب إلى ميادين الجهاد في سبيل الله وهو يرجو إحدى الحسنيين، وقد ترك خلفه ذرية ضعافاً، فيذهب إلى الزوجة من يثير مخاوفها على رزقها ورزق عيالها إذا ذهب زوجها إلى الجهاد، فتقول كلمة تعلّم بها الرجال قبل النساء، تقول في ثقة واطمئنان: "زوجي عرفته أكالاً ولم أعرفه رزاقاً، فلئن ذهب الأكال فقد بقي الرزاق".
وهذا الخليل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- يأمره ربه بأن يذهب بزوجه هاجر، وابنه إسماعيل، ويضعهما بواد غير ذي زرع، لا ماء ولا شجر، أرض موحشة مخيفة.
يا لله! ما أشده من موقف! وما أصعبه.! فهذا إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ من الكبر عتياً. ثم رزق بفلذة كبده إسماعيل، الذي طال اشتياقه لرؤياه، وأحب لقياه، ومع ذلك يأمره ربه -جل وعلا- أن يتركهما في الأرض الموحشة، وفعلاً وضعهما في ذلك الوادي، دون أن يشغل نفسه ببناء بيت يأويان إليه، ومن غير أن يبحث لهما عمن يسكن بجوارهما ليحميهما من غارات قطاع الطريق، ومن هجمات الوحوش الضارية.
وبعد أن وضع عندها طعامها، وتولى عنهما استجابة لأمر ربه الذي لا يضيع عبده.
وهنا قامت هاجر مسرعة إلى زوجها، يتقدمها الخوف على نفسها، فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟
وهو صامت لا يجيبها، ماض في طريقه: يا إبراهيم إلى من تدعنا؟ لماذا تتركنا وحدنا؟ وجعل إبراهيم لا يلتفت إليها، ثم قالت له: "آلله أمرك بهذا؟".
قال: "نعم".
قالت: إذن لا يضيعنا الله، ثم رجعت!.
وهنا لما علمت أن الأمر أمر الله اطمئنت اطمئنانا كاملاً، وأمنت على نفسها ورضيعها، فقد أبدل الله خوفها أمناً، وجعل عاقبة أمرها يسراً، وتفجر الماء بين قدمي إسماعيل وأصبح معجزة خالدة إلى يوم الدين.
فأي أمن وقر في قلب إبراهيم؟! وأي أمن وقر في قلب هاجر؟! وهل كان يتحقق ذلك إلا بالإيمان بالله -عز وجل-؟!
فعلام الخوف إذن من قطع الأرزاق أو نقصها؟! علام جمع الأموال من الحرام والمكاسب الغير مشروعة؟!
اطمئنوا فقد نفث جبريل -عليه السلام- في قلب محمد -صلى الله عليه وسلم-: "أنه ليس نفس تموت حتى تستوفي رزقها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله. فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته"[أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (13/ 227) برقم (35473) والبيهقي في شعب الإيمان (13/19) برقم (9891) والبغوي في شرح السنة (14/303 و304) برقم (4111) و(4113) وصححه الألباني في صحيح (2085)].
وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو فر أحدكم من رزقه لأدركه كما يدركه الموت"[أخرجه الطبراني في الأوسط (4/363) رقم (4444) و في الصغير (1/366) رقم (611) بإسناد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1704)].
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه-: "ما من امرئ إلا وله أجل هو واطئه، ورزق هو آكله، وأجل هو بالغه، وحتف هو قاتله، حتى لو أن رجلاً هرب من رزقه لأتبعه حتى يدركه كما أن الموت مدرك من هرب منه ". أ. ه.
فلنأمن على أرزاقنا، ولنعلم أن السبب الذي يقطعها أو ينقصها، إنما هو معصية الله؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: "إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه".
وأرجو أن لا يفهم أحد: أن نترك الأعمال، ونقول: الرزق مكتوب ومكفول، كلا، فالسعي للرزق مطلوب.
وكما يأمن الإنسان على رزقه، فهو كذلك آمن على أجله؛ فإن الله قدر له ميقاتاً مسمى، أياماً معدودة، وأنفاساً محدودة، ولا تملك قوة تُنقص من هذا الميقات أو تزيد فيه: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ )[النحل: من الآية61)].
فقد أيقن المؤمن بأن الله قد فرغ من الآجال والأعمار، وكتب على كل نفس: متى وأين تموت!.
ومن كانت منيته بأرض *** فليس يموت في أرض سواها
وبهذا ألقى المؤمن عن كاهله هم التفكير في الموت، والخوف على إنه لا يعيش في خوف من الموت، ولا جزع من مرارة كأسه، إنه زائر لا بد من لقائه، وقادم لا ريب فيه: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ)[الجمعة: من الآية8)].
بل إن المؤمن وحده يحب الموت والاستشهاد في سبيل الله؛ فهو يعلم أن ما عند الله خير وأبقى.
وما الموت إلا رحلة غير أنها *** من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي
قال يحي بن معاذ: "لا يكره لقاء الموت إلا مريب، فهو الذي يقرب الحبيب إلى الحبيب".
فإذا أمن الإنسان على أجله، وأنه بيد الله وحده، وأن الخلق لا يملكون له ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة أورثه ذلك قوة في الحق، وثباتاً في مواطن البأس والشدة لا تتزلزل له قدم، ولا يتزعزع له ركن.. لا يخشى الناس قلوا أو كثروا.. ولا يبالي بالأعداء وإن أرغوا وأزبدوا.
إن الخوف والحرص هما اللذان يضعفان النفوس، ويحنيان الرؤوس، ويذلان الأعناق.
وإذا لم يكن حرص ولا خوف؛ فلا سبيل إلى الضعف بحال.
وكما يعيش المؤمن في هذه الحياة آمناً مطمئناً، آمناً على رزقه، آمناً على أجله، آمناً على كل شيء، فهو كذلك يتمتع بالأمن والأمان عند موته، وعند لقاء ربه.
إن أصعب لحظة وأخوفها، هي اللحظات الأخيرة من هذه الدنيا، هي اللحظات الحاسمة، هي اللحظة التي ينسى فيها الخليل خليله والصديق صديقه، في هذه اللحظة ينتاب الإنسان الخوف كل مكان، فهو خائف من حقوق طالما أضاعها، وحرمات طالما ارتكبها، فكيف القدوم على الله وقد فرط في حقوقه؟! فإذا نظر إلى أطفاله من حوله يبكون اشتد ألمه، وعظم فمن لهؤلاء الأطفال بعده، من يؤويهم؟ من يرعاهم؟ من ينتبه عليهم؟ فيزداد ألماً إلى ألم وخوف إلى خوف.
ولكن المؤمن الذي آمن بالله، واستقام على دين الله يؤمن في هذه اللحظات، وتتنزل عليه ملائكة الرحمة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، وفي ذلك يقول الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت: 32)].
وقال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُم ُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[الأنبياء: 103)].
وقال - تعالى -: (يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) [الزخرف: 70)].
فهذا هو الأمن في الآخرة، ويوم يدخلون الجنة يقال لهم: (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) [الحجر: 48)].
فيا من يريد الأمن في الدنيا والآخرة. يا من يريد الراحة النفسية، والعيشة الهنية، والسعادة الأبدية:

عليكم بالإيمان والعمل الصالح، فلا أمن بلا إيمان، ولا سلام بلا إسلام.
نسأل الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يشرح صدورنا للإيمان.