من درر الأعلام - وفـــــــــاء الشـريعـة بمصــالــح الخلـــــــق في العاجل والآجــــل




وائل رمضان


الشيخ

عبدالرزاق عفيفي

رحمه الله

الأمة المحمدية شريعتها خاتمة الشرائع، ورسولها خاتم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لا نبي بعده؛ فاقتضت حكمة الله أن تكون شريعته فيهم عامة دائمة إلى يوم القيامة كفيلة بمصالحهم الدينية والدنيوية، منظمة لنواحي حياتهم المختلفة، مغنية لهم عما سواها في أمورهم وشؤونهم، ولو طال بهم الأمد، واختلفت أحوالهم على مر الأيام والعصور حضارة وثقافة، وتباينت أفكارهم ذكاء وغباوة، وحالهم قوة وضعفاً وغنی وفقراً.

تكاليف الشريعة

جاءت تكاليف هذه الشريعة جملتها وتفصيلها, mقواعدها وجزئیاتها بتحقيق مقاصد التشريع الضرورية التي لابد منها في قيام مصالح العباد الدينية والدنيوية، ولا تستقيم أحوالهم إلا بها، وذلك يرجع إلى ما يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وأنسابهم وعقولهم وأموالهم، وبتحقيق مقاصده التي تيسر عليهم طريق العمل للوصول للغاية المنشودة، وتجعلهم في سعة وسهولة وترفع عنهم المشقة والحرج، وبتحقيق ما يجمل حالهم، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

واقع الحياة

وصحيفة الوجود وواقع الحياة في تاريخ الأمم أصدق شهيد بذلك؛ فمن ابتغى الهدى في غير شريعة الله من النظم والقوانين الوضعية أضله الله، ومن حكIQم غيرها في عقيدته أو عبادته أو معاملاته فهو مبتدع، فيه جاهلية، سيء الظن بربه معجب بفكر نفسه أو أفكار من اتخذهم من زعمائه أربابا في التشريع، يشرعون له ما يضاهي به شريعة الله، بل یؤثر قوانينهم مع قصورها على شريعة أحكم الحاكمين، وكفى بذلك زيغا وضلالا وكفرا وطغيانا، قال -تعالى-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153)، وقال -تعالى-: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف:3)، وقال -تعالى-: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85)، وقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50)، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (الأنعام:115-116).

وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (الحجرات:7)، إلى غير ذلك من النصوص التي حثت على العمل بكتاب الله وهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحذرت من الحيدة عن ذلك والإعراض عنه تباعا للآراء، ونحاتة الأفكار دون بينة من الله أو حجة عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم .

أركان الشريعة

وإليك كلمات في أركان الشريعة والسياسة في البلاغ، وأمثلة من نصوص الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين، وسوف يتبين لك منها سعة الشريعة وغناها بالنصوص والقواعد العامة، والجزئيات الخاصة التي تشرح حق الله على عبده، وحق العبد على ربه، وحق الراعي والرعية، وتحدد موقف الدولة من الدولة في السلم والحرب، والعلاقة بين أفراد الشعب وجماعاته؛ بل بینت حقوق الحيوانات على راعيها وحدث من تسخيره لها وتسلطه عليها على وجه من العدالة يكفل لها البقاء، وحل جميع ما يجد من المشكلات العامة والخاصة على أقوم طريق وأهدى سبيل.

للشريعة أصول

إن للشريعة أصولا إليها ترجع، ودعائم عليها تقوم، فشريعة الصلاة والصيام والزكاة ونحوها من العبادات التي لا يستقيم أداؤها ولا التنسك بها إلا إذا عرف العابد أن من يتقرب إليه غني كريم، قوي متين، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، إلى غير ذلك من صفات الجلال والإنعام وقوة البأس وشدة الانتقام؛ فإنه إذا عرفه العباد بذلك أشربت قلوبهم حبه، واستشعرت كمال الذل له والخوف منه، فأسلموا وجوههم إليه، وعبدوه عبادة من يعلم أنه يسمعه ويراه ويراقبه في كل شؤونه وأحواله رجاء رحمته وخشية عذابه.

شريعة المعاملات

وشريعة المعاملات لا تعدو -ذلك النهج- نهج العبادات، فإن استقامة الناس في أخلاقهم، وعدلهم في رضاهم وغضبهم، وإنصافهم لأوليائهم وأعدائهم، ونصحهم في بيعهم وشرائهم، وجميع معاملاتهم يتوقف على شعور القلب بهمينة قوة غيبية فوق قوى العالم، قوة رب قادر يخفض ويرفع ويعطي ويمنع على سن قويم من الحكمة والعدالة، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، بذلك الشعور يستقیم حال الإنسان، وينتظم أمره في سره وعلنه، فيرعى الحقوق دفعا لعذابه ونقمته، وبذلك الشعور وحده يجتمع شمل العالم ويعم الأمن والسلام مرافق الحياة.

الثقة واليقين

حصول الثقة واليقين في نفوس المكلفين بمصدر الشريعة وتبلغها، أضف إلى ذلك أن ثبوت الشريعة في ذاتها عند المكلفين، والإيمان بها يتوقف على معرفة مصدرها والثقة بطريق بلاغها؛ فيجب إذاً على العباد أن يعلموا أولا أن لهم ربا خلاقا عليما حكيما، بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجعون، إلى غير ذلك مما تفرد به من صفات الربوبية، ويؤديها على وجهها استمدادا لفضل الله ورحمته، ودفعا للتي استوجبت إخلاص العبادة منه ليسلموا وجوههم إليه كونا وشرعا، ويعبدوه مخلصين له الدين رغبة ورهبة، وأن يعلموا ثانيا أنه -تعالى- يرسل رسله ليبلغوا عنه شريعته رحمة منه وفضلا، ويؤيدهم بالمعجزات، ويعصمهم في البلاغ حكمة منه وعدلا؛ ليميز الكاذب من الصادق والمبطل من المحق، فيثق العباد بشريعة ربهم، ويأمنوا عليها من الدخل والافتراء، وتقوم عليهم بها الحجة، قال -تعالى- {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة:44-47).


دعوة التوحيد

لهذا بدأت الرسل دعوتها بالتوحيد، وإثبات الرسالة والجزاء يوم المعاد، فجرت على موجب العقل ومقتضى الفطرة، وكان لزاما على الدعاة أن يبدؤوا ما بدأ به الرسل، ويتبعوا ذلك القول في الفروع وتفاصليها وكل ما يكمل الأصول ويحمي حماها بحسب الأهمية وما يشعر به الدعاة من حاجة المدعوين شعوبا وأفرادا.