أريد أن أعيش طفولتي
عبد الله عيسى


كنت جالسًا بالمسجد وقد نوَيْتُ الاعتكاف، وقد ذهَبْتُ إليه قبل الصلاة بوقت يسير وكافٍ، وبينما أنا جالسٌ أذكر ربِّي - سبحانه - وأستغفره، وأُهَلِّله وأُكبِّره، وأدعوه - سبحانه - أنْ يفكَّ كربي وكَرْب المسلمين، وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وطريقه القويم.
إذا بِصَبِي يدخل المسجد، عمرُه يقارب عشر سنوات، ويَبْدو عليه التَّعب والتأوُّهات، والإرهاق والإجهاد، وكانت ملابسه تدلُّ على أنه يعمل في إحدى المِهَن، وكانت ملامِحُ وجهه الصَّغيرة تدلُّ على الشَّقاء والوهن، الذي يعانيه في هذه السِّن.
وبالرغم من عمره الصَّغير، فقد رأيت أنَّ وجهه حزين كسير، وقدماه لا يستطيع أن يَمشي بهما ويسير، ونظرت إليهما فوجدتهما قد تشقَّق جلدهما، وظهر فيهما أثر العمل المضني والكد.
دخل الصبي فتوضَّأ بالماء واغتسل، ثم أقبل على الله ليصلِّي وهو في تعب وكسل، وشعرت أن مُقْلَتيه تترقرقان بالدُّموع، وكانت قطرات الماء تهبط من وجهه في خشوع، كأنَّها جوهر ودُرٌّ ثمين، يفيض على وَجْهه في حزن دفين، وهو يزيلها بيديه المُتْعَبتين المبتلَّتَيْن، ويشتكي إلى الله الحنَّان المنان.
وبعد أن انتهى من الصلاة في دقيقة، وجدتُه يمشي للخروج من المسجد بخطوات رقيقة، رغم أنه لم يتبقَّ على الصلاة غير دقيقة.
فأشرتُ إليه ليأتيني، فجاء في صمت وقلق وسكون، سلَّمْتُ عليه وسألته عن اسمه، فأجاب بصوت حنون، وأخذ يَعْدو وكان متلهِّفًا للخروج في جُنون، وشعرت بذلك، فلم أُطِل عليه الكلام، وكان يريد أن يذهب بسرعة في سلام.
ولكنني سألتُه: هل تعمل يا بُنَيَّ؟ فأجاب: نعم، أعمل في المخبز، واستأذنتُ من صاحب العمل؛ ليسمح لي بالصلاة، ثم أعود سريعًا للعمل، فهو طيب ودود! فتركته ينصرف في حفظ الله، بعدما سألتُه سؤالاً آخَر، كان يُلِحُّ عليَّ: كم ساعةً تعمل في المخبز في هذا العناء؟ فأجاب من الفجر حتى العشاء.
وبعدما انصرف ظللْتُ أحدِّث نفسي بهذا الكلام: ما الضوابط لعمالة الأطفال في الإسلام؟ فنحن نرى كثيرًا من الأطفال في هذا الزَّمان، في سوق العمالة، وكأن الإسلام لم يَكْفل لهم حقَّ الطُّفولة.
فالأساس في هذه المرحلة - مرحلة الطفولة - أن تَكُون لِلَّعب واللَّهو المُباح وسماع الحكايات، والتعلُّم أيضًا، واكتساب المهارات، ولا ضير أن يُسْنَد إلى الأطفال بعض الأعمال السَّهلة، التي تتناسب مع سِنِّهم وقدراتهم.
والأصل أن الطفل له حقٌّ أن يستمتع بالطُّفولة، وألاَّ نُحوِّل طفولته إلى رجولة، فهذا يؤثِّر عليه ولا شكَّ بالسَّلب، ويحرمه من مرحلة مُهِمَّة من مراحل حياته، ويحرمه من اللعب.
ولا بدَّ أن يلعب الطفل في سنِّ الطفولة، ويتعلَّم ما وَسِعَه أن يتعلَّم، خصوصًا لو كان من الأذكياء، والموهوبين، والفصحاء، ولا يجوز ما يفعله بعضُ الناس، من حرمانٍ للأطفال من التعليم بالكُلِّية، أو عدم إعانتهم على التعلُّم عند عدم الاستطاعة.
وهناك بعض الأعمال التي من الممكن أن يُؤَدِّيها الطفل، وهي الأعمال الطبيعية، كمن كان والده فلاَّحًا، فهو يأخذه معه إلى المزرعة في أوقات الفراغ، أو كان لوالده مَصْنع صغير أو دُكَّان، فيذهب معه؛ لكي يُتْقِن المهنة التي يَمْتَهِنُها أبوه.
أو يساعد والِدَه في العطلات، وفي الفراغ، وتلك الأوقات؛ حتى ينشأ وهو يتحمَّل المسؤولية، عندئذٍ هذا لا يكون من باب العمل غير المرغوب فيه وتكون البليَّة.
أما في حالة الاضطرار، إذا كانت أسرة الطِّفل فقيرة، ولا تملك ما يكفي لِسَدِّ حاجاتها الضرورية، فعندئذ لا بأس بأن يعمل الطفل في حالة قدرته على تحمُّل العمل، ولكنْ يعمل عملاً يتناسب مع سنِّه، فلا يُحمَّل فوق طاقته وسنه.
أما إذا كان عملاً شاقًّا ومُحالاً، فهذا ما لا يُجيزه الإسلام بأي حال؛ لأنَّه ضد فطرة الأطفال، وضد طبيعتهم في هذه المرحلة من السن، هذه المرحلة التي يكون فيها الطفل أحوجَ ما يكون إلى اللعب والتدليل.
والطفل إذا كان لم يبلغ الحُلُم بعْدُ، وما يزال صغيرًا، وكان دون العاشرة - على سبيل المثال - وضعيفًا، فلا بدَّ أن يُراعَى نوع العمل، ولا يكون مرهقًا؛ بحيث يتناسب مع قوته الجسمانيَّة؛ حتى لا يجهده ويكون مهلكًا، أو الانقطاع عن العمل إذا كان هذا العمل شاقًّا، ولا يتناسب مع قوته البدنية.
والطفل ميَّال بطبعه للهو واللعب، ففي هذا العمل الشاقِّ الطويل حرمانٌ له من هذا اللَّهو واللعب، والذي يحرص عليه الأطفال غالبًا.
وقد كان كثير من الأطفال في أيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعملون، بل كان منهم مَن يريد أن يجمع الزكاة من المسلمين، في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتلك السنين؛ ليكون جابيًا للزكاة من الناس والأَهْلين.
والإسلام يَحْظر على الأبَوَيْن إهمال العناية بالأطفال؛ خشية التشرُّد والضياع، كما يحظر استغلالَهُم وتكليفهم بالأعمال التي تؤثِّر على طاقاتهم الجسدية والعقلية والنفسية، وفَّقَنا الله جميعًا إلى مرضاته، وأظلَّنا تحت عرشه الكريم يوم لا ظِلَّ إلا ظلُّه، وجمَعَنا برسوله الكريم في أعلى علِّيِّين.