تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: (الْمِيثَاق)

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي (الْمِيثَاق)

    _قال الشيخ صالح ال الشيخ فى شرح الطحاوية
    قال رحمه الله(والميثاق الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ).
    (الْمِيثَاقُ) يُذْكَرُ في بعض كتب العقائد لا في كلِّها؛ بل كثيرٍ منها أو الأكثر لا يذكرون مسألة الميثاق.
    والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته متّصل بمسألة القَدَرْ؛ بل هو مبحوث في القَدَرْ، ولذلك لا يستقل بحثُهُ عن مسألة القَدَرْ؛ بل هو مرتبط بالقَدَرْ، وذلك أنَّ الروايات والأحاديث التي فيها أخْذُ الميثاق من آدم وذريتِه فيها أنّه جعل فئة إلى الجنة وفئة إلى النار وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل فيم العمل؟ فقال «اعملوا فكل ميسر لما خُلِقَ له»(1) ونحو ذلك.
    فالأحاديث الصحيحة التي فيها ذِكْرُ الميثاق متصلة بالقَدَرْ وليس فيها تقرير لمسألة الميثاق في نفسه بكونه أمراً غيبياً أو لكونه حجةً على العباد دون مسألة القَدَرْ؛ بل هي المراد بها القَدَرْ.
    ولذلك الطحاوي رحمه الله جعل مسألة الميثاق مقدمة لبحثه في القدر؛ فقال (وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ. وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْعَدَدُ وَلَا يُنْقُصُ مِنْهُ.) فهذا العلم مذكور في أحاديث الميثاق.
    هذا الميثاق من الأمور الغيبية والاعتقاد؛ اعتقاد ذلك موافقٌ أو مُرَتَبٌ على معرفة ما جاءت به السنة.
    وأما القرآن الكريم فليس فيه ذِكْرٌ للميثاق الذي أخذه الله ? من آدم وذريته، وإنما جاء ذلك في عددٍ من الأحاديث في الصحيحين وفي غيرهما.
    ومسألة الميثاق من المسائل التي يتَّفِقُ عليها أرباب الفِرَقْ المختلفة، فلا خلاف في أنّ الميثاق أُخِذْ؛ لكن كيف يُفَسَّر؟
    يختلفون فيه كما سيأتي.
    فإذاً قوله (وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ) يعني أنَّهُ ثابِتٌ، وأنَّ هذا جاءت به الأدلة الصحيحة، وأننا نؤمن بذلك، وأنَّ الله أ لمَّا أخذ الميثاق جعل الذّرية إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في النار، وأنَّ الرّب أ مضت حكمته في استخراج ذرّية آدم من ظهره كأمثال الذَّرْ وجَعْلْ فريق في الجنة وفريق في النار.
    إذا تبين هذا الأصل العظيم فإنَّ هذه المسألة -وهي مسألة الميثاق- مما يَختلف فيها فَهْمُ أهل العلم جدًّا حتى إنك لا تجد فيها قولاً واضحاً واحداً لأهل السنة والجماعة ولا لغيرهم؛ فما من فرقة إلا ولهم أقوال مختلفة في مسألة الميثاق.
    وكذلك أهل السنة والجماعة اختلفوا جداً في مسألة الميثاق مع اتفاقهم على حصول الاستخراج من ظهر آدم وأخذ الميثاق عليه.
    إذا تبين هذا الإجمال في هذه المسألة المُشْكِلَة فإنَّ بحثها يكون في مسائل:
    __________http://islamport.com/w/aqd/Web/1809/215.htm#

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: (الْمِيثَاقُ)

    [المسألة الأولى]:
    الميثاق ذُكِرَ في القرآن بمعنى العهد الشديد المؤكد كما في قوله سبحانه {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}[البقرة:84]، وكما في قوله أ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}[الأحزاب:7]، والآيات في ذكر الميثاق متنوّعة كثيرة.
    ومعنى الميثاق هو العهد الشّديد المؤكّد ومنه قوله ? في سورة يوسف {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ}؛ يعني عهدا شديدا مؤكّدا من الله ? تُشهِدُون عليه ربّنا، تشهدون عليه الله {لَتَأْتُونَنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}[يوسف:66].
    ---------------------------------------------------------[المسألة الثانية]:
    أنَّ الميثاق الذي أُخِذَ من آدم معناه على ما جاء في بعض الأحاديث: أنَّ الله ? استخرج ذرية آدم من ظهره؛ استخرج صورهم، وأنَّ هذا الاستخراج لأجل ظهور عِلْمِ الله ? فيهم ولأجْلِ أخْذ العهد عليهم بما يشاؤه الله ?.
    والأحاديث في هذا متعارضة متنوعة مختلفة، لهذا يُدْخِلُ أهل العلم تارَةً في بحث الميثاق دليل من القرآن على ذلك -وهو ليس بدليل في المسألة- وهو قول الله ? {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(172)أَ ْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ(1 73)وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الأعراف:172-174]، فيجعلون هذه الآية لأجل اختلاف الأحاديث وتنوع العبارات فيها يجعلونها من أدلة هذا الميثاق.
    وسيأتي بيان أنَّ هذا ليس بصحيح، وأنّ الميثاق الذي أخذه الله من آدم و ذريته لا دليل عليه من القرآن.
    الأحاديث تحتاج إلى عناية وإلى جمع، والاختلاف فيها كما ذكرنا والاضطراب والشذوذ كثير، فلعله أن يُجمَعْ ما صَحَّ من ذلك في الصحيحين ويُطَّرح الضعيف أو المضطرب أو المختلف، مع أنَّ كثيراً من العلماء دخل عليهم بعض تلك الألفاظ في بعض ولذلك اضطربت أقوالهم في المسألة.
    هذا ذكر سبب الاضطراب في هذه المسألة العظيمة.
    فإذاً الميثاق أمرٌ غيبي، والأخذ من آدم وذريته على ما جاء في الأحاديث حق وصواب، وأنّ هذا الميثاق لأجل مسألة القَدَرْ ولأجل العهد عليهم وهذا العهد أمر غيبي وليس متّصلاً بآية الأعراف.
    [المسألة الثالثة]:
    أنَّ آية الأعراف التي ذكرنا وهي قوله {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} لا يصح بها الاستدلال على ما أَوْرَدَهُ هنا الطحاوي في قوله (وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ).
    والطحاوي في كتابه مُشْكِلْ الآثار ذَهَبَ إلى تفسير الآية بالميثاق الذي أخذه ربنا من آدم وذريته، فَجَعَلَ الآية مُفَسَّرَةً بما جاء في السنة من حديث عمر وحديث ابن عباس وحديث عبد الله بن عمرو في أنَّ الميثاق مأخوذٌ من آدم وذريته تفسيراً لقول الله ? {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} فقال إنّ التفسير الصحيح هو ما جاءت به السنة من أنَّ آية الأعراف هذه تُفسَّر بالميثاق وأن قوله {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} لأنَّ آدم هو السبب فَذُكِرَ المُسَبَّبْ وهم بنو آدم ولم يذكر آدم لأنه هو السَّبَبْ كما قال ? {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ}[المؤمنون:12]، ويعني بذلك آدم عليه السلام {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةْ }[الأعراف:11]، يعني آدم عليه السلام.
    ولأجل هذا المأخذ من الطحاوي ذكر الشارح ابن أبي العز عندك هذه الآية في أول بحثه على هذه المسألة لأجل أنَّ الطحاوي نفسه ولأنَّ كثيرين جداً من أهل العلم يوردون الآية دليلاً.
    وهذا الاستدلال من الطحاوي المُصَنِّفْ ومن عدد كثير من أهل العلم فيه نظر على هذه المسألة.
    فالميثاق كما ذكرنا أمرٌ غيبي، وأما الآية فليس فيها ذكر الميثاق بل قال الله ? فيها {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} فهذا الذي في الآية:
    1 - أنَّ الله سبحانه أَخَذَ من بني آدم ولم يأخذ من آدم.
    2 - وأَخَذَ من الظهور على صفة الجمع ولم يأخذ من الظهر -ظهر آدم-.
    3 - وأنه أشْهَدَ بعضهم على بعض {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} وهذا ليس موجوداً في مسألة الميثاق.
    4 - وأنَّ هذا الاشهاد هو متعلق بمسألة الربوبية {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} وأنهم أجابوا بـ{بَلَى}.
    * لهذا نقول: إنَّ الآية ليس فيها مسألة الميثاق، وإنما دَلَّهُمْ على أنَّها مسألة الميثاق وجعلوها دليلاً على تلك المسألة ورتَّبوا عليها أشياء لأجل أمور:
    الأمر الأول: أن الصيغة متشابهة {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} وأنَّهُ جاء في الأدلة في السنة أنَّ الله سبحانه أخرج ذرية آدم من ظهره كهيئة الذَّرْ، فلما جاء هنا ذِكْرُ الظهر والاستخراج فجعلوا هذا تفسيراً لهذا كما ذكرت لكم من كلام الطحاوي ومن كلام كثيرين من أهل العلم من السلف والخلف.------------------------------------------
    الأمر الثاني: لأجل الربط ما بين الآية وبين مسألة الميثاق أنَّهُ قال {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} والإشهاد معناه الشهادة وهذا يقتضي أن يكون الاستخراج على ما جاء في الأحاديث وأنَّ الله خاطبهم وأنهم ردوا عليه إلى آخره.
    الأمر الثالث: هو أنَّهُمْ أجابوه بالقول {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} وهذا صريح في القول دون غيره.

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: (الْمِيثَاقُ)

    والجواب: أنَّ هذه الأمور اشتبهت على من استدل بالآية على مسألة الميثاق، والآية ليست دليلاً على مسألة الميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم و ذريته، وأَنَّ تفسير الآية اخْتُلِفَ فيه على قولين:
    1 - القول الأول:
    هو الذي ذكرنا من أنَّ الله استَخْرَجَ من ظهر آدم ذريته إلى آخره، وجعلوا السنة تفسيراً لما جاء في الآية والآية دليلاً، فلم يُفَرِّقُوا بين هذا وهذا.
    2 - والقول الثاني:
    وهو قول جماعات كثيرة من أهل العلم من جميع المذاهب والفِرَقْ والمحققين من أهل العلم أيضاً فقالوا إنَّ الآية تفسيرها هو:أنَّ الله أخذ من بني آدم من ظهورهم يعني:
    {أَخَذَ} يعني خَلَقَ وجَعَلَ، فجعلهم يتناسلون، و (أخذ بعضهم من بعض) يعني أنشأ بعضهم من بعض كما قال سبحانه {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}[الأنعام:133].
    (أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) يعني بما خَلَقَ من السبب من إراقة الماء في الأرحام إلى الحمل إلى الولادة.
    فقوله {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} لمَّا ذَكَرَ الربوبية هنا في الأخذ دلَّ على أنَّ معنى الأخذ هنا الخلق.
    قال {أَخَذَ رَبُّكَ} يعني خَلَقَ ربك.
    (من ظهور بني آدم ذريتهم) هذا سبك الآية {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ}.
    فتكون {مِنْ ظُهُورِهِمْ} بدل بعض من كل من بني آدم.
    {مِنْ ظُهُورِهِمْ} لأنَّ أصلاب الرجال فيها الماء فقال {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}.
    يعني خلق الذرية من الماء الذي في ظهور الآباء.
    (أخذهم) يعني أخَذَ بعضهم من بعض وهذا يُطْلَقْ من هذا وهذا يوجد بسبب هذا.
    {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} (أَشْهَدَهُمْ) هنا الإشهاد في القرآن له معنيان:
    - إشهاد بلسان المقال بأن يَشْهَدَ بقوله (اشهد أنه كذا وكذا قولاً).
    - والثاني إشهاد بلسان الحال، يعني أنَّ حالته تشهد.
    والإشهاد هذا بلسان الحال بمعنى ما جاء في قوله تعالى {مَا كَانَ للمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِم بِالكُفْرِ}[التوبة:17] فشهودهم على أنفسهم بالكفر هو بلسان حالهم من تألِيهِهِم غير الله وعبادتهم لغير الله،أمَّا هم فلا يقولون عن أنفسهم إنهم كفار؛ بل يقولون نحن الحنفاء.
    وكذلك في قوله ? {إِنَّ الإْنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}[العاديات:6] يعني شاهد بلسان حاله بأفعاله أنه كنود جاحد لنعمة الله ?.
    وهذا أيضاً في مثل قول الله تعالى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسَكُمْ}[النساء:135]
    هنا { شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسَكُمْ } يعني بلسان الحال أو بلسان المقال.
    فدل إذاً على أنَّ الإشهاد في القرآن له هذان المعنيان.
    ولهذا لمَّا كان الإشهاد على هذين المعنيين صار تفسير الآية {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ محتمل أن يكون بلسان المقال أو بلسان الحال.
    ولمَّا كان أول الآية فيه الأخذ بالخلق صار الإشهاد على الربوبية بلسان الحال لا بلسان المقال.
    {أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} يعني بحالهم وما جَعَلَ الله ? فيهم،في كل الأنفس من دلائل ربوبيته ووحدانيته التي تؤدي وتدل على أنَّهُ سبحانه هو المستحق للعبادة وحده دونما سواه.
    {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} بما جعل في أنفسهم من العبرة والدلالة على أَنَّ الذي خلقهم وفَطَرَهُمْ وأوجدهم وأبْدَعَهُم وبَرَأَهُمْ هو الله ? كما قال سبحانه {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ}[الطور:35]، وكما قال {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}[الذاريات:21].
    فإذاً تكون هنا الشهادة {أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} يعني جَعَلَ حالهم وما هم مُرَكَبُونَ عليه دال على الوحدانية وأيضا جعل بعضهم دليلاً على بعض.
    {أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} يعني جَعَلَ هذه الذّرية بعضها شاهداً على بعض بما أودع الله ? في الناس من دلائل وحدانيته وآثار ربوبيته ومعالم صنعته وبرءه ?.
    لهذا قاله سبحانه هنا {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} فذَكَرَ الربوبية التي هي الخلق وما يترتّب عليه.
    {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} يعني أنهم جميعاً جميع هذه الذرية إذا رجعوا لدلائل الوحدانية التي يشهدونها بلسان الحال فإنهم مقرون بالربوبية.
    وهذا هو الذي ذَكَرَهُ الله ? عن جميع الفئات والمشركين في أنّهم مقرون بالربوبية منكرون للإلهية.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: (الْمِيثَاقُ)

    {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} في قوله {بَلَى شَهِدْنَا} وجهان من الوقف:
    - الوجه الأول: أن يُوقَفَ على {بَلَى} ثم تستأنف {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
    - الوجه الثاني: أن يُوقَفَ على شهدنا {بَلَى شَهِدْنَا} ثم تقف، وتقول بعدها {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}.
    * والوجه الأول وهو أن يكون الوقف على {بَلَى} هذا أولى وأظهر في معنى الآية، {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}.
    {شَهِدْنَا} هذا من كلام بعضهم لبعض يعني بلسان الحال شهادة الحال.
    شهد بعضهم على بعض بلسان الحال، لم؟
    ليكون ذلك دليلاً من الأدلّة التي تكون دافعةً لاحتجاجهم يوم القيامة، فإنّ الله ? جعل دَفْعْ احتجاج المشركين يوم القيامة وتَنَصُّلِهِم من التّكليف ورغبتهم في عدم التّعذيب، جَعَل ثَمَّ حُجَجاً منها هذا الإشهاد؛ أنّ بعض هذه الذّرية شاهد على بعض.
    فهذه الآية فيها ذِكْرُ الشهداء وهم الذين يأتون يوم القيامة في قوله {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء}[الزمر:69] يشهد بعضهم على بعض بأنّ الدلائل ظاهرة وأنّكم مُقِرُّونَ بالربوبية، مُقِرُّونَ بالوحدانية، ويشهد الآباء على الأبناء، ويشهد الأبناء على الآباء، ويشهد بعضهم على بعض، حتى لا تكون ثَمَّ حجة.
    لكن هذه ليست الحجة التي يُحاسَبُون عليها ويُعَذَّبُونَ عليها وإنما هي دليل لقطع معذرتهم مع الدّليل الآخر وهو الأعظم وهو بعث الرسل.
    لهذا هذه الآية فيها ذِكْرُ دليل، وما رُتِّبَّ على هذا الإشهاد إنما هو مع بعثة الرسل.
    وتأمل حين قال {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} من الذي شَهِدَ؟
    الذرية شَهِدَ بعضهم على بعض {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}.
    {عَنْ هَذَا} الإشارة إلى أي شيء؟
    لدليل الربوبية، ودليل الربوبية هو الذي احتجّت به الرسل على ما جاءت به وهو توحيد الإلهية.
    فإذاً في قوله {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا} يعني أَشهد الله بعض الذرية على بعض على مسألة الربوبية لئلا يقولوا إنا كنا عن هذا غافلين.
    والرّسل جاءت بتقرير الحجة التي بعدها العذاب.
    مستمسكة الرسل بالأصل الذي شهد بعضهم على بعض فيه بلسان الحال وهو الإيمان بالربوبية.
    لهذا صارت الآية دليلاً على الربوبية وهذه حجة عليهم؛ ولكنها ليست الحجة التي بها يُعَذَبُون، ولكنها قاطعة لنزاعهم ورغبتهم في التنصّل من العذاب.
    والثاني أنَّ في قوله {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} يعني عن هذا الدليل الذي هو التوحيد -توحيد الربوبية أو الفطرة- الذي ذَكَّرَتْ به الرسل أو الذي جاءت الرسل بإحيائه في الأنفس ليدلّ الناس على ما يستحقه الله ? من توحيد العبادة.
    {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا} يعني الذين يحتجون بالغفلة أو يحتجون بالتقليد، {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} فهم احتجوا إما بالغفلة أو احتجوا بعدم الشرك، بمتابعة الآباء وهذا لو حصل يوم القيامة أنْ احتجوا به فإن الله سبحانه أقام عليهم الحجة بالشهداء وأقام عليهم الحجة بالرسل والعذاب إنما يكون بـ [.....](1)
    دلائل الصّنعة وما أقام الله ? في الإنسان من عقل وفِكْرٍ بحيث يستدل بهذه المخلوقات على خالقها أ، وإنما بالثاني مع الأول وهو بعثة الرسل.
    إذا تبيّن لك ذلك فإنّ:
    1- أولاً: الآية إذاَ ليس فيها حجة لمن ذهب بأنَّ هذه الآية في الميثاق، ليس فيها دليل على الميثاق.
    2- ثانياً: الآية ليس فيها حجة لمن قال إنه بالفطرة أو بالتوحيد أو بما أُخِذَ من الميثاق الأول أنَّ هذا كافٍ عن إقامة الحجة على العباد، وأنّه بذلك الميثاق وذلك الإشهاد وإقرارهم على أنفسهم والشّهادة في الربوبية والعبادة؛ لأنه إذا لم تبلغهم الرّسالات ولم تأتِهم الرسل أنَّ تلك الشهادة كافية في تعذيبهم، فليس فيها دليل على أنّ هذه حجة كافية في تعذيبهم، بل لابد من إقامة الحجة الرّسالية.
    لذلك ترى أن أئمة أهل العلم المحققين كشيخ الإسلام وأئمة الدعوة دائماً يذكرون الحجة الرّسالية، لابد من إقامة الحجة الرّسالية.
    لماذا لفظ الرّسالية؟
    حتى لا يَتَوَهَّمْ المُتَوَهِّم أنَّ الحجة الفطرية كافية.

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: (الْمِيثَاقُ)

    إذا تبين ذلك فإنَّ تفسير الشهادة هنا وهذه الآية عند المحققين من أهل العلم على ما ذكرنا هو بالفطرة؛ الفطرة التي فطر الله ? الناس عليها، وهي الفطرة في الربوبية التي تدل على الألوهية، وهي في معنى قوله ? {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}[الروم:30]، وفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة»(1).
    وهذا الذي ذَكَرْتُ من تفسير الآية على وجه التفصيل والبسط هذا هو مذهب واختيار أئمة أهل السنة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير رحمه الله في تفسيره وشارح الطحاوية وأئمة الدعوة والشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره وهو تفسير جماعات كثيرة من أهل العلم.
    وهو الذي يتعيَّن في الموافقة مع أصول التوحيد وأصول العقيدة بعامة.
    وهو الذي يتعين مُوَافَقَةً لحكمة الله ?.
    وهو الذي يتعين مُوَافَقَةً لما هو مقرر في الشريعة من مسألة إقامة الحجة في أحكام المرتد.
    لهذا غَلِطَ في هذه الآية جماعات، ومن المعاصرين جماعات أيضاً فجعلوها حجَّةً على أنَّهُ ليس ثَمَّ حاجة لإقامة الحجة على العباد؛ بل الفطرة كافية، والعهد الأول كافي وإلى آخره.
    وهذا ولاشك ليس بمرضيّ.
    والحجة لا تقوم على العباد بشيء لا يتذكرونه أصلاً، وإنما العباد أمامهم الدّلائل.
    أما تَذَكُّر ميثاق وتَذَكُّرْ شهادة وتَذَكُّرْ هذه الأشياء، فإنّ أحداً لا يتذكر ذلك، وإنما الرسل تُذَكِّرُهُمْ بذلك فتكون الحجة بالرسل لا بذلك الأمر الأول.
    لهذا ذكرتُ لك في أول البحث أنَّ مسألة الميثاق مرتبطة بالقدر، وليست متصلةً بالتكفير، ليست متصلةً بالحجة، ليست متصلة بهذه المسائل، وإنما هي -يعني الميثاق- مرتبط بالقدر لا غير، وليس حجة على خلاف القدر، إنما هو دليل على القدر فقط دون ما سواه.
    والمسألة بما ذكرتُ لك تكون قريبةً واضحة، ولا يكون ثَمَّ إشكال في هذه الآية ولله الحمد، وهي من الآيات المُشْكِلَة كما ذكرتُ لك؛ لكن بتأمل قول المحققين والنّظر في تصحيح الأحاديث وعِلَلِهَا وأنَّ الأحاديث التي فيها الرّبط ما بين الآية والميثاق فيها اضطراب وفيها ضَعف في بعضها ضعف في الإسناد وفي بعضها علّة بالوقف وثَمَّ أشياء أُخر لا نطيل بالكلام عليها.
    س/ اتضح عدم دخول الآية في الميثاق فما معنى الميثاق الذي ذكره أهل العلم ؟
    ج/ معنى الميثاق هو العهد لكن إيش هذا العهد؟ إيش حقيقته؟
    قال العلماء: معناه الفطرة؛ الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
    فإذاً مسألة الميثاق ما فيه شيء غريب، هو الفطرة (كل مولود يولد على الفطرة)، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}؛ يعني جَعَلَهُم مفطورون عليها لما أخَذَ الميثاق.
    فإذاً مسألة الميثاق -يعني العهد- لما استخرجت الذرية معناه الفطرة السابقة وهكذا، يعني الميثاق ما فيه شيء جديد، الميثاق ليس فيه شيء جديد عن غيره ولا يتميز بشيء.
    س/ هل الإشكال بين الآية والأحاديث جاء من قوله تعالى {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا}[الأعراف:173]؟
    ج/ لا، هذه ما لها علاقة؛ لأنَّ الآية قال {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني لئلا تقولوا يوم القيامة، أقام الله هذه الدلائل بالربوبية وأقام دلائل الوحدانية لئلا تقولوا يوم القيامة أو تحتجوا بالغفلة، ولئلا تحتجوا بالتقليد، { أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ}[الأعراف:173] فلا تحتجوا بالغفلة ولا تحتجوا بالتقليد، فثمَّ فِطْرَة مَرْكُوزَة ورُسُل أُرسِلَتْ إليكم تدلكم بهذه الفطرة المركوزة على حق الله أ، فليس ثَمَّ إذاً حجة لأولئك، فقطع الله المعذرة وأقام الحجة وأبان المحجة، ولله الحمد والمنة.
    نكتفي بهذا القدر. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.[شرح العقيدة الطحاوية صالح ال الشيخ]

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: (الْمِيثَاق)

    قال شيخ الإسلام رحمه الله معلقاً على آية الميثاق المتقدم ذكرها (( ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد، إحداهما؛ {أن تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين}، فتبين أن هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته، وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل، وإن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري، وهو حجة على نفي التعطيل، والثاني؛ {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم}، وهذا حجة لدفع الشرك كما أن الأول حجة لدفع التعطيل، فالتعطيل مثل كفر فرعون ونحوه والشرك مثل شرك المشركين من جميع الأمم، وقوله: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل}، وهم آباؤنا المشركون وتعاقبنا بذنوب غيرنا، وذلك أنه لو قدر أنه لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم ووجدوا آباءهم مشركين وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم، إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك قالوا: نحن معذورون وآباؤنا هم الذين أشركوا ونحن كنا ذرية لهم بعدهم تبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم، فإذا في فطرتهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين بطلان الشرك وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم، فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية، كما قال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه"، فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها، وهنا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة لبطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا. وهنا لا يناقض قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}، فإن الرسول يدعوا إلى التوحيد، ولكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم، فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم ومعرفتهم بذلك، وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله، فلا يمكن أحدا أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلا، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني، لكونه عارف بأن الله ربه لا شريك له، فلم يكن معذورا في التعطيل والإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب، ثم إن الله سبحانه - لكمال رحمته وإحسانه - لا يعذب أحدا إلا بعد إرسال رسول إليهم، وإن كانوا فاعلين لما يستحق به الذم والعقاب، كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول، فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب، والرب تعالى - مع هذا - لم يكن معذبا لهم حتى يبعث إليهم رسولا ))[درء تعارض العقل والنقل ج 8 ص 490 – 492]

    وقال ابن القيم أحكام أهل الذمة ج 2 ص527 : ((وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ). وهذا يقتضي إقرارهم بربوبيته إقراراً تقوم عليهم به الحجة وهذا إنما هو الإقرار الذي احتج به عليهم على ألسنة رسله كقوله –تعالى-: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ)... (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ). ونظائر ذلك كثيرة يحتج عليهم بما فطروا عليه من الإقرار بربهم وفاطرهم ويدعوهم بهذا الإقرار إلى عبادته وحده وألا يشركوا به شيئاً هذه طريقة القرآن ومن ذلك هذه الآية التي في "الأعراف" وهي قوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ..) ولهذا قال في آخرها: (أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ...). فاحتج عليهم بما أقروا به من ربوبيته على بطلان شركهم وعبادة غيره، وألا يعتذروا، إما بالغفلة عن الحق، وإما بالتقليد في الباطل فإن الضلال له سببان: إما غفلة عن الحق، وإما تقليد أهل الضلال... ))

    وقال رحمه الله في أحكام أهل الذمة ج 2 ص 1011 - 1014 (( فهو سبحانه يقول: أذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مقرين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم، فهذا الإقرار حجة عليهم يوم القيامة.. (أَن تَقُولُواْ) أي: كراهية أن تقولوا أو لئلا تقولوا: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ). أي: عن هذا الإقرار لله بالربوبية وعلى نفوسنا بالعبودية... (أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ...). فذكر سبحانه لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد: إحداهما أن يقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين فبين أن هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري وهو حجة على نفي التعطيل. والثاني أن يقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون، وهم آباؤنا المشركون: أي أفتُعاقبنا بذنوب غيرنا؟ فإنه لو قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم ووجدوا آباءهم مشركين وهم ذرية من بعدهم ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة والطبيعة، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون وآباؤنا الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم. فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم. فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية الفعلية السابقة لهذه العادة الطارئة، وكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها؛ وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا، وهذا لا يناقض قوله –تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). فإن الرسول يدعو إلى التوحيد ولكن الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع بياض في الأصل، والسياق يقتضي وضع "وإلا" لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن بأن الله ربهم، ومعرفتهم أمر لازم لكل بني آدم به تقوم حجة الله في تصديق رسله فلا يمكن أحداً أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلاً ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له فلم يكن معذوراً في التعطيل والإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب ثم إن الله –سبحانه- لكمال رحمته وإحسانه- لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال الرسول إليه وإن كان فاعلاً لما يستحق به الذم والعقاب فلله على عبده حجتان قد أعدهما عليه لا يعذبه إلا بعد قيامهما: إحداهما: ما فطره وخلقه عليه من الإقرار بأنه ربه ومليكه وفاطره وحقه عليه لازم. والثاني: إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك وتقريره وتكميله فيقوم عليه شاهد الفطرة والشرعة ويقر على نفسه بأنه كان كافراً كما قال –تعالى-: (وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ) [الأنعام: 130]، فلم ينفذ عليه الحكم إلا بعد إقرار وشاهدين وهذا غاية العدل ))
    وقال شيخ الاسلام ابن تيمية (( الحمد لله أما قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". فالصواب أنها فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي فطرة الإسلام، وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى). وهي: السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة. فإن حقيقة "الإسلام": أن يستسلم لله لا لغيره وهو معنى لا إله إلا الله وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال: "كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟"، بين أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن وأن العيب حادث طارئ. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فيما يروي عن الله: "إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطانا". ولهذا ذهب الإمام أحمد –رضي الله عنه- في المشهور عنه: إلى أن الطفل متى مات أحد أبويه الكافرين حكم بإسلامه لزوال الموجب للتغيير عن أصل الفطرة وقد روى عنه وعن ابن المبارك وعنهما أنهم قالوا: "يولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة" وهذا القول لا ينافي الأول فإن الطفل يولد سليماً وقد علم الله أنه سيكفر فلا بد أن يصير إلى ما سبق له في أم الكتاب كما تولد البهيمة جمعاء وقد علم الله أنها ستجدع..." إلى أن قال "ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً ولكن سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق: الذي هو الإسلام بحيث لو ترك من غير مغير لما كان إلا مسلماً. وهذه القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع: هي فطرة الله التي فطر الناس عليها))[مجموع الفتاوى - ج 4 ص245 ]

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •