ابن خلدون .. الرؤية الثاقبة في الفكر الاقتصادي
د. مولاي المصطفى البرجاوي
يميِّز أغلـب الباحثيـن في سيرة ابن خلدون وحياته التي امتدَّت على مدى أربعةٍ وسبعين عاماً، بين ثلاث مراحل في حياته العُمُريَّة: مرحلة النَّشأة والتَّكوين التي قضاها في تونس، ومرحلة النضال السياسي التي تنقَّل فيها بين المغرب الأوسط والأقصى والأندلس، ومرحلة التَّدريس والقضاء التي امتازت بِهدوءٍ نسبيٍّ استقرَّ فيها في القاهِرة، وإن لَم يفُته أن يزورَ الشَّام والحجاز.
ويُمكننا القول: إنَّ ابنَ خلدون عاش عمراً حقيقيّاً أطْول بكثيرٍ من عمره الزَّمني؛ إذْ إنَّ العمر الحقيقيَّ يقاس بالأعمال، أمَّا العمر الزمني فيقاس بوحدات الزَّمن، فقد توزَّعت حياتُه بين التَّأليف، وتولِّي وظائف عامَّة لها أهميَّتها، وسِفارات في مهمَّات رسميَّة.
أما بالنسبة لمقدِّمته التي نستقي منها أهمَّ أفكارِه الاقتصاديَّة، فقد بدأ ابن خلدون في كتابتِها في عام 775هـ أثناءَ إقامتِه في قلعة ابن سلامة، ويصِف لنا ابن خلدون إقامتَه في هذه القلعة قائلاً: «وأقمتُ فيها أربعة أعوام، متخلِّياً عن الشَّواغل، وشرعتُ في تأليف هذا الكتاب وأنا مقيمٌ بها، وأكملتُ المقدِّمة على ذلك النَّحو الغريب الَّذي اهتديتُ إليْه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر، حتى امتخضت زبدتُها وتألَّفت نتائجها»، وقد أنهى ابن خلدون كتابة مقدمته في منتصف سنة 779هـ.
ثم إنَّ الــدراسات المنْجَزة من طرف المسلمين - بَلْهَ الغربيِّين - عن شخصيَّة ابن خلدون وكل ما تعلَّق به من أفكار وآراء، كثيرةٌ جدّاً لا يمكن حصْرها، وإذا كان بعض الناس قد اعتبر أنَّ ابن خلدون لم يَترُك علماً إلاَّ وتناول منه جزءاً: فمِن التَّاريخ إلى السياسة إلى الُملْك إلى الاقتصاد، فإنَّ علم الاقتصاد الذي لم يكن آنذاك - شأنه شأن كثير من العلوم - مستقلاً عن العلوم الاجتماعيَّة، قد حاز اهتماماً كبيراً من جانب ابن خلدون.
وتشكِّل «أفكار» عبدالرحمن بن خلدون الاقتصاديَّة المبادئ الأساسيَّة للفكر الاقتصادي الغربي، لكن بانتقاءٍ منهم لخدمة عقيدتِهم الماديَّة النَّصرانية التي شغلت الاقتصاديين على مدى القرنين التَّاسع عشر والعشرين، وأفرزت مدارس اقتِصادية غربية (الكلاسيكية، الاشتراكية، النيو - ليبرالية...) ومن أشْهر النظريات الاقتصاديَّة التي ظهرت في القرن العشرين: نظرية الاقتصاديِّ الإنجليزي (جون مينارد كينز) (توفي 1946م)، التي اكتملتْ في كتابه المنشور عام 1936م؛ فقد أدخل (كينز) العامل النفسي في التَّحليل الاقتصادي.
وهذا الانتقاء الحضاري ليْس غريباً في حقِّ هؤلاء الَّذين يُتْقِنون عمليَّة الانتقاء، وإلاَّ فكيف نفسر إسقاط نسبة الرِّبا من قِبل دولة اليابان مع الأزمة الماليَّة العالمية لسنة 2009م (الَّتي يسمُّونها زوراً وبهتاناً بالفائدة) إلى مستوى الصفر؟ واليابان هي التي يصِفها بعضهم بالقزم السياسي والعملاق الاقتِصادي؛ وذلك لحصار الأزمة المالية العالميَّة التي ضربت طولاً وعرضاً أقوى بلدان العالم.
والآن إليك - أخي القارئ الكريم - أهمَّ الأفكار التي جادت بها قريحة المؤرِّخ الإسلامي الكبير ابن خلدون - رحمه الله - التي تنصَّل الفكر الاقتصادي الغربي من الاعتراف بفضلِه الكبير عليهم في هذا المجال. وأفكار ابن خلدون لم تأتِه هكذا جزافاً، بل استقاها من كتاب الله وسنَّة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهذا لا يعني البتَّة أنَّ ابن خلدون لم يسقط في بعض الهفوات، وهذا ليس عيباً في حقِّ عمالقة الاجتِهاد بنوعَيْه (الشَّرعي والفكري)، على حدِّ تعبير الدكتور عمر عبيد حسنة.
العدل أساس العمران الاقتصادي:
لأن «العدل تُحْفظ به العمارة فالظُّلم يخلُّ بحفظها»، ويترجَم الظلم في البلد من خلال «وضْع الضِّياع في أيْدي الخاصَّة»، وكذلك يقوم المفسدون «بالعدوان على النَّاس في أموالهم»؛ لذا فإنَّ ابن خلدون يُزْجِي نصيحةً ليتَ كلَّ الحكَّام الفاسدين وأعوانهم يأخذون بها. يقول: «عليْنا أن ننزع الظلم عن النَّاس؛ كي لا تخْرب الأمصار وتكسد أسواق العمران، وتقفر الديار، وخاصَّة أنَّ الشَّارع أشار في غير موضع إلى تحريم الظلم».
ويذهب ابن خلدون إلى أبعد من الحديث عن رفْع الظلم، إلى المُدَد الزمنيَّة التي تستغْرِقها الدَّولة حتى تظهر آثار الظُّلم فيها؛ حيث يقول: «إنَّ نقْص العمران بالظُّلم يقع بالتَّدريج»، ويتوقَّف طولُ وقِصَر زمن الخراب «حسب كِبَر حجْم المِصْر».
ويقول: «يقع الخراب بالظُّلم دفعةً واحدةً عند أخْذ أموال النَّاس مجَّاناً، والعدْوان عليْهم في الحُرَم والدماء، ويقع الخراب بالتدريج»، بإحْدى الوسائل الثَّلاثة الآتية:
1 - بذرائع باطلة يتوسَّل بها؛ كالمكوس (الضَّرائب) المحرَّمة والوظائف الباطلة.
2 - تكْليف الأعمال وتسخير الرعايا بها؛ حيثُ يغتصبون قيمة عملهم.
3 - التَّسلُّط على النَّاس في شراء ما بأيديهم بأبْخس الأثمان.
القوانين الاقتِصاديَّة عند ابن خلدون:
لقدِ اكتشف ابنُ خلْدون قوانين اقتِصاديَّة متعدِّدة، مستنداً في ذلك إلى كتاب الله وسنَّة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وفقه الواقع، ويُمكن أن تصنَّف في مجموعتين:
الأولى: تتضمَّن قوانين تعمل على تفسير نقْل المجتمع من حالةٍ إلى حالة أخرى، أو من مرحلةٍ إلى مرحلة.
والمجموعة الثَّانية: تتضمَّن قوانين تعْمل على تفسير متغيِّرات اقتِصاديَّة معيَّنة.
من أمثِلة النَّوع الأوَّل: القانون المفسِّر لعلاقة العمران بالصَّنائع، والقانون المفسِّر لعلاقة العمران بالعلم والتَّعليم.
ومن أمثِلة النَّوع الثَّاني: القوانين المفسِّرة للأثمان، المتضمَّنة في نظريَّة القيمة عند ابن خلدون.
وفائِدة القانون عند ابن خلدون يُحَدِّدها النَّص السَّادس؛ فالقانون مِعْيار للصِّدق والصَّواب، أو هو مِعْيار لتَمْيِيز الحقِّ من الباطل، والقانون عنده معيار لتمْييز الحقِّ من الباطل، وبذلك تكون له مرجعيَّة بالنسبة للماضي والحاضر، ولَم يسحب ابن خلدون مرجعيَّة القانون إلى المستقْبل؛ والسَّبب في ذلِك هو إيمانه بأنَّ الغيب لله يُجريه وَفْقَ إرادته.
أوجه المعاش في عصْـر ابن خلـدون وما يُقابِلُها في عصرِنا الرَّاهن:
يقسِّم ابن خلدون الأعمالَ إلى نوعَين: فرْدي وجماعي، كما يفرِّق من جهة أخرى بين الإنتاج اليدوي والإنتاج الحضري، ثمَّ درس ابن خلدون الأعمال وصنَّفها من حيث طبيعتُها.
إنَّ المقصود من العملِ في نظَر ابن خلدون هو «ابتغاء الرزق»، وتعريف الرِّزْق: هو «الحاصل أو المقتنَى من الأموال بعد العمل والسَّعي، إذا عادت على صاحبِها بالمنفعة وحصلت له ثمرتُها من الإنفاق في حاجاته»، لقد وضع ابنُ خلدون تعريفَه هذا بالاستِناد إلى الفِقْه ثمَّ زاده تثبيتاً الحديث؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّما لك من مالِك ما أكلْتَ فأفنيتَ، أو لبِسْت فأبليْت، أو تصدَّقت فأمضيت»[1].
ويرى ابنُ خلدون أنَّ المعاش إمارة، وتجارة، وفلاحة، وصناعة:
• أمَّا الإمارة فليستْ بِمذهب طبيعي للمعاش، وهي تشمل الجندي والشرطي والكاتب، وهي عبارةٌ عن الجبايات السلْطانيَّة في ذلك الوقت، والضَّرائب والرُّسوم في عصْرِنا الحاضر.
• وأمَّا الفِلاحة والصِّناعة والتِّجارة، فهي الوجوه الطبيعية للمعاش.
• ونَجد أنَّ الفلاحة متقدِّمة على القطاعات كافَّة؛ لأنَّها كانت بسيطة وطبيعيَّة فطريَّة لا تحتاج إلى نظرٍ ولا علم؛ ولهذا تنسب الفلاحة في الخليقة إلى آدمَ أبي البشَر، وهو معلِّمها والقائم عليْها، وهذا يعني أنَّها أقدم وجوه المعاش وأنسبها إلى الطبيعة.
موقف ابن خلدون من تدخُّل الدَّولة في الحياة الاقتِصادية:
يقِف ابن خلدون موقفاً متشدِّداً من تدخُّل الدَّولة في الحياة الاقتِصاديَّة، خاصَّة في حالة الظُّلم والإفْساد والاحتِكار والتسلُّط، كما نُشاهِده عياناً في هذا العصْر، من خلال مساعدة الدَّولة لأصحاب النفوذ المالي، والقضاء على أصحاب المقاولات الصُّغرى، الَّتي لا تتلقَّى الدَّعم من طرف الدَّولة، ومن ثَمَّ تتعرض للإفلاس.
لذا يؤكِّد أنَّ «أكثر الأحكام السلطانية جائِرة في الغالب؛ إذِ العدل المحض إنَّما هو في الخلافة الشرعية وهي قليلة اللَّبث؛ فالسُّلطان والأمراء لا يتركون غنيّاً في البلاد إلاَّ وزاحموه في ماله وأملاكه، مستظلِّين بحكم سلطاني جائر من صنعهم».
يتبع