أسلوبية الانزياح في النص القرآني
محمد تحريشي
وقد نتساءل عن العبرة من مثل هذه الإشارات؟ ولماذا هذا التخيّر؟ ولعل السبب هو أن أبو عبيدة تخيّر هذه المستويات لأنها تمثل أعلى مستويات البناء اللغوي، وفي الوقوف عليها كشف للقدرات التعبيرية لهذا البناء، ثم إن دراسة اللغة المجازية "هي أعلى مرتبة لاستخراج قدرات البناء اللغوي من تغيير المعنى ونقله، أو تحريكه في اتجاهات يتسع في بعض منها ويضيق في بعض آخر"(37). ويعكس هذا التغيير العلاقة الحميمية بين الفكر واللغة التي تتسع وتتطور وتنحرف لتشمل مساحات الفكر، وقد تعطى لذلك عدة تفسيرات قد تكون نفسية أو اجتماعية أو أسلوبية فنية جمالية.
إن الاستعمال المجازي هو شكل من أشكال التطور الدلالي للغة، والذي يأتي عن طريق توسيع المعنى أو تضييقه أو نقله (38)، "ولاشك أن تضييق المعنى أو توسيعه يعد ضرباً من المجاز"(39). وقد استفاد القرآن الكريم كثيراً من هذه الطرائق، والتي بوساطتها طوّر الطاقة الدلالية للغة العربية، عندما أمدّها بأوضاع جديدة تعكس النقلة النوعية التي حدثت للعرب بمجيء الإسلام.
وقد أرجع العرب القدماء أسباب العدول عن الحقيقة إلى الاتساع والتوكيد والتشبيه (كما سبقت الإشارة إليه)، وأمكن لهم هذا الحصر؛ لأنهم تعاملوا مع نصوص محدودة مقيّدة بزمان ومكان معينين، وكذا فعل أبو عبيدة، إذ تعامل مع النص القرآني ضمن إطار زماني ومكاني لم يتعدَّه، كاشفاً عن الجوانب الخفية لهذا النص. كقوله تعالى:"فمنهم من يمشي على بطنه"(40): فقال فيه "فهذا من التشبيه؛ لأن المشي لا يكون على البطن إنما يكون لمن له قوائم، فإذا خلطوا ماله قوائم بما لا قوائم له جاز ذلك، كما يقولون: أكلت خبزاً ولبناً، ولا يقال: أكلتُ لبناً، ولكن يقال أكلتُ الخبز…"(41).
إن هذا النقل أو التحويل الذي كشف عنه أبو عبيدة ماكان ليحصل لولا التطور الدلالي الذي أصاب اللغة، وماكان ذلك ممكناً لولا المجاورة التي وقعت بين المعاني، بين ماله قوائم، ومالا قوائم له على سبيل التشابه، والذي يعني التداني لا المطابقة التامة، ويأتي هذا على سبيل اقتراض معنى لمعنى لضرورة تعبيرية تواصلية، وانطلاقاً من مثل هذا التحليل وضع هذا الناقد تصوراً عاماً لكثير من علوم البلاغة، فقد "تحدث عن جملة مجازات"، ولم يعطها الأسماء الاصطلاحية، وإنما أدرك الطريقة التعبيرية والنوعية البلاغية، فشرحها ممثلاً لها.
والمجازات التي درسها أبو عبيدة، وأشار إليها في المقدمة تبلغ تسعاً وثلاثين حالة تتنوع على علوم البلاغة، المعاني والبيان والبديع وعلم النحو"
(42).
إن هذا الناقد، وهو يبحث في هذه التبديلات، كان يؤسس لنمط إجرائي، ويقنن لتناول النص القرآني بالدراسة والتحليل، لقد كان يتجه نحو التقعيد ووضع الأسس، ومع هذا كله فقد لقي كتابه "معارضات شديدة"؛ لأنه وضع تصورات المجاز في القرآن الكريم واتسم بالجرأة على التأويل، فاعتبره العلماء من قبيل التفسير بالرأي"(43).
لقدكان لأبي عبيدة رؤية واضحة، في معالجة النص القرآني وقراءته وتحليله من مستوى فني جمالي يعتمد على التأويل، وقدرة كبيرة على التخريج، ولعل هذا هو الذي أزعج بعض العلماء؛ لأنه قد تجاوز، حسب زعمهم، حدوداً لا يمكن تجاوزها، فأظهره هؤلاء في صورة شخصية غريبة في أصلها ومعتقدها وثقافتها وعطائها العلمي، مدخول الدين، مدخول النسب(44). بل أكثر من ذلك فقد نسب إليه التعصب الشعوبي، واللحن المتعمد في اللغة، وكسر أوزان الشعر، وكذا الخطأ في قراءة القرآن نظراً(45).
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل إلى حدّ عدّ عمله هذا تجرؤاً على كتاب الله، فقد تمنى الفراء أن يضرب أبا عبيدة لمسلكه في هذا التفسير(46)، وحرّم أبو حاتم السجستاني كتابه "المجاز" وقراءته. كما قال بذلك الزجاج والنحاس والأزهري(47)، وهؤلاء كلهم من كبار العلماء الذين بذلوا جهوداً في سبيل الكشف عن خبايا النص وخدمة لغة الكتاب المقدس.
إن ما قدّمه أبو عبيدة يشكّل، في حد ذاته نظرة تطورية تكشف عن المد الدلالي للنص القرآني، ويكشف في الوقت نفسه عن مستوى من التحليل يتعامل مع النص تعاملاً واقعياً يبتعد فيه عن التعامل العاطفي، بذلك كانت دراسته فتحاً جديداً في مجال الدراسة العربية للنصوص؛ لأنها قدمت تصوراً عاماً للخصائص التعبيرية لدلالة اللفظ في مجالات الاستعمال المتعددة، والتي يمثل القرآن الكريم أرقى هذه المستويات الاستعمالية.
ولقد تحرر هذا الناقد من تلك القراءة السابقة للنص المقدس، وانطلق في فهم هذا النص من منطلق يعتمد فيه على تخير للعبارات التي تحفز على التحليل، وتستدعي الوقوف، وترتكز على المجاز، وقد استعان "بمخزون ثقافته من الشعر العربي لدعم آرائه، وحشد سيلاً من الأبيات الشعرية، مما يؤكد غزارة محفوظاته. وهذا المنهج صرفه عن الاشتغال بالقصص القرآني، وتفصيل القول فيه، كما صرفه عن تتبع أسباب النزول باستثناء إشارات عابرة ونادرة يقتضيها فهم النص، وأهمل أقوال السلف وملاحظاتهم وشروحاتهم وكان يعمل برأيه في تخريج المعاني(48). ولا أحد ينكر قيمة السياق في تحديد معنى أي نص، الذي لا يمكن قراءته إلا ضمن سياقه، وتعدّ أسباب النزول من أهم عناصر سياق القرآن الكريم، كما تشكل القصص القرآني إطاراً موجهاً لفهم الكثير من الآيات القرآنية.
وعلى الرغم من هذا كله، فإن أبا عبيدة قد وفق في قراءة النصوص التي وقف عندها إذ ربطها بسياقات تعكس التوجه الذي يقوم على إعمال الرأي في تخريج المعاني، وكان بحق، منهلاً للكثير من الدارسين (49) كالبخاري 255 هـ، وابن قتيبة 276 هـ، والطبري 310هـ، وابن دريد 321 هـ، وابن النحاس 370 هـ ، والجوهري 391 هـ وابن حجر العسقلاني، وبهذا كان الرجل نموذج القارئ المثقف المعاصر الفردي، والذي ينطلق من الخصائص الداخلية للنص.
ويقوم أحد الدارسين المحدثين جهد كل من أبي عبيدة والفراء، إذ يقول: "ومع أن أبا عبيدة والفراء وغيرهما من رواد الدراسات البيانية اللغوية والنحوية قد أبرزوا كثيراً من خصائص التعبير البياني في القرآن خاصة، وكلام العرب عامة؛ فإن أياً منهم لم يرتفع بعملية وضع قوانين لتفسير الخطاب ـ البيان القرآني ـ إلى المستوى الذي قفز إليه بها معاصرهم محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 هـ لقد كان الإمام الشافعي على معرفة دقيقة باللغة العربية وأساليبها التعبيرية، كما كان على اطلاع على المجادلات الكلامية العقدية التي عرفها عصره، وكان فوق ذلك فقيهاً تشغله قضايا التشريع والتقنين، أكثر مما يشغله شيء آخر ـ ولذلك لم يحصر اهتمامه في الجوانب البيانية البلاغية في القرآن"(50).
إن الحقل الإجرائي مختلف بين هؤلاء الدارسين، فأبو عبيدة والفراء كانا يسعيان إلىممارسة إجرائية تكشف عن خصائص الأساليب القرآنية الجمالية والفنية، وتحدد عناصر التركيب القرآني، وتنهل من نظرة حديثة للنص المقدس لتصل إلى مواطن الإعجاز فيه من خلال الوقوف عند فصاحته وبلاغته وبيانه، فالدراسة هي دراسة جمالية فنية ـ في حين انطلق الشافعي من أساس شرعي ديني ليكشف عن الأحكام الشرعية، وكيف استطاع القرآن الإبانة عن هذه الأحكام. ومن هنا كان الكتاب، وفق هذا المنظور نصاً يبين عن أحكام ونواه وأوامر.
هوامش
1 ـ رمضان عبد التواب 1967: لحن العامة والتطور اللغوي 32 ط/1 ـ دار المعارف القاهرة.
2 ـ ثعلب أبو العباس 1985: الفصيح تح: صبحي التميمي ـ دار الشهاب الجزائر.
3 ـ نصر حامد أبو زيد 1982: الاتجاه العقلي في التفسير100/ط/1، دار التنوير، بيروت.
4 ـ أحمد مصطفى المراغي 1950: تاريخ علوم البلاغة العربية 49ط/1، مصطفى البابي الحلبي.
5 ـ الأعراف: 30.
6 ـ الإنسان: 31.
7 ـ مجاز القرآن: 231.
8 ـ شوقي ضيف البلاغة تطور وتاريخ 29 ط/4، دار المعارف مصر، عن ابن تيمية كتاب الإيمان 35.
مكرر ـ الاتجاه العقلي في التفسير 855.
9 ـ هنريش بليت 1989 البلاغة والأسلوبية 36 ط/1، تر: محمد العمري ـ منشورات مجلة دراسات سيمائية أدبية لسانية ـ الدار البيضاء.
10 ـ التوبة: 92.
11 ـ مجاز القرآن: 1: 267 ، 268.
12 ـ اللغة والإبداع الأدبي 16 .
13 ـ غافر: 67.
14 ـ مجاز القرآن: 1 : 9.
15 ـ التحريم : 4.
16 ـ الخصائص 2 : 419 ومابعدها حتى 423.
17 ـ الصاحبي في فقه اللغة 349 ـ 355 ـ 351.
18 ـ السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين، المزهر في علوم اللغة وأنواعها: 1.
19 ـ هنري بليت البلاغة والأسلوبية 37.
20 ـ من ذلك ماذكرناه في كتابه 1 : 237.
21ـ الزخرف : 85.
22-المصدر نفسه 1: 159، 160.
23-اللغة والإبداع الأدبي 17.
24-التوبة: 1. 2.
25-المصدر السابق 1: 252.
26-اللغة والإبداع الأدبي 15.
27-معاني القرآن 1: 54، 165 تح: أحمد يوسف نجاتي، محمد علي النجاز مطبعة دار الكتب المصرية.
27-الكامل في اللغة والأدب 2: 30 المكتبة التجارية بمصر.
28-الصاحبي في فقه اللغة 356-360 المكتبة السلفية القاهرة 1322هـ.
29-1938 فقه اللغة وسر العربية، 337، 338 ط/ 1 تح: مصطفى السقا وآخرين، مصطفى البابي بمصر.
30- 1981 العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده 2: 45، 46 ط/ 5 تح: محمد محيي الدين عبد الحميد دار الجيل.
31-المرجع نفسه 2: 46.
32- اللغة والإبداع الأدبي 14.
33-المرجع نفسه 15.
34-من ذلك ما ذكرناه في 1: 73، 79، 128، 174، 368.. الخ من كتابه.
35-الأنعام: 6.
36-المصدر نفسه 1: 186.
37-فايز الداية-علم الدلالة العربي 378. ط1 دار الفكر دمشق.
38-ينظر فندريس –ج- 1950 اللغة 256، 258- تر: محمد القصاص عبد الحميد الدواخلي مكتبة الأنجلو مصرية.
39-أحمد مختار عمر 1988: علم الدلالة 126 ط/ 11 معالم الكتب القاهرة.
40-النور: 35.
41-مجاز القرآن 2: 68.
42-حسن عباس نصر الله مجاز القرآن ولادة علوم البلاغة 141، مجلة الفكر العربي عدد خاص "بالبلاغة العربية والبلاغيون" العدد 46 يونيو 1987.
43-مجاز القرآن ولادة علوم البلاغة 139.
44-ينظر ابن النديم الفهرست 79، 80.
45-ينظر ابن خلكان وفيات الأعيان5: 238 والفهرست 79.
46-ينظر تاريخ بغداد 13: 255.
47- ينظر الزبيدي 125-126.
48-ولادة علوم البلاغة 143.
49-ينظر مجاز القرآن، مقدمة المحقق 17.
50-محمد عابد الجابري 1986، بنية العقل العربي- نقد العقل العربي 17 ط/1 المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.