المتربي..لِمَ لا يستجيب؟!
عبد الكريم عبد الله با عبد الله


كم مرة سمعت امتعاض الأب ولده وهو يقول عنه إنّه (عنيد)!؟.. والمعلّم الذي يصم طلابه (بالغباء)!.. والمربِّي الذي يتلقّى عنه طلابه السلوك والأخلاق فيُحبَط من بعضهم لأنّه لم يُغيِّر سيل توجيهاته من سلوكهم ما يرجو!
إنّ الله - تعالى- خلق الإنسان من كتلة مركّبة من مكوناته العقليّة والنفسيّة والحركيّة والوجدانيّة، والتي يمكن تحديد معالمها مع تعذّر الفصل بينها أو إلغاء تأثير بعضها على بعض، وبتفاعلها تتكوّن الشخصيّة الإنسانيّة وتنمو.
وتصميم الأهداف التعليميّة في المناهج التعليميّة اليوم قائمة على بناء تلك الجوانب المتكاملة في شخصيّة المتعلِّم:
الجانب المعرفي، والنفسي الحركي، والوجداني.. وهذه الأهداف التعليميّة مقاصد للعمليّة التربويّة التعليميّة، ويتم تقييمها وقياسها بالملاحظة المباشرة والاختبار أو بالملاحظة غير المباشرة وتأثيراتها على سلوك المتعلِّم. ولو نظرنا إلى الأهداف التعليميّة باعتبارها "شروطاً حيويّة" لقيام الفرد بالسلوك الصحيح لا باعتبارها أهداف وغايات نهائيّة، لتغيّرت انطباعاتنا عمّن نربّيهم حين نصفهم بالغباء أو العناد وعدم الاستجابة.. كل ما نحتاجه شيء من التأمّل في متعلِّقات السلوك الذي نرغب في حدوثه والاستجابة له:
(فمعرفيّاً) نزوّد الفرد بالمعلومات والتصوّرات المهمّة للناتج السلوكي والتحقّق من ذلك بالسؤال والمراجعة، و(مهاريّاً) بتوضيح الكيفيّة والطريقة التي يجب أن يقوم بها الفرد لتطبيق المهمّة أو السلوك، ونتيح الفرصة له مع تقديم المساندة إذا لزم الأمر، و(وجدانيّاً) بإثارة اهتمامه نحو السلوك المطلوب وإبراز قيمته وفائدته وتأثيره على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة..
ويُراعى في كل ذلك طبيعة السلوك وعُمْر الفرد وثقافته وإدراكه والمستوى المطلوب منه، ولا نُغفِل الميول والاتجاهات لكل فرد للحصول على نتائج أفضل.. انظر ما جاء في قصة الرجل الذي لم يُحسن صلاته، ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رجلاً دخل المسجد فصلّى ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناحية المسجد، فجاء فسلّم عليه، فقال: (( وعليك، ارجع فصلِّ؛ فإنّك لم تُصلِّ بعدُ، فرجع فسلّم عليه، فقال: ارجع؛ فإنّك لم تُصلِّ بعدُ، فقال في الثالثة: فعَلّمني يا رسول الله، فقال: إذا قُمتَ إلى الصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القِبلة فكبِّر، ثم اقرأ بما تيسّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئنَّ راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئنَّ ساجدًا، ثم ارفع حتى تستوي قائمًا - أو قال: قاعدًا - ثم افعل ذلك في صلاتك كلّها)). فلم ينهر النبيُّ صلوات ربّي وسلامه عليه الرجل حين لم يؤدِّ السلوك الصحيح ولم يصفه بنقص الذكاء أو العناد أو يأس منه.. لا، بل باشره وزوَّده بما ينقصه من العلم والمعرفة والكيفيّة بعد منحه فرصة الممارسة.. ولم تكن تنقص الرجل الدافعيّة للصلاة والهمّة فيها؛ إذ كرر السلوك عدة مرات ولم يُوفّق للأداء الصحيح إلا بعد تعليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - له.
وكذلك انظر للموقف العصيب الذي شهده الصحابة يوم الحديبية بعد أن حُرموا دخول مكة بسبب الصلح وأثَّر ذلك في نفوسهم؛ فامتنعوا عن الحلق بعد أن أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخل إلى أم سلمة - رضي الله عنها - مغضباً؛ فأشارت إليه أن اخرج إليهم ولا تحدّثهم انحر الهدي واحلق ففعل - عليه الصلاة والسلام - فلمّا رأوه فعلوا مثلما فعل. فكان تحريك فطرة الاقتداء في النّفوس هو الأسلوب التربوي الأفضل للموقف، فمشاهدة المتربّي للسلوك المطلوب يجلّي له آلية تطبيقه ويُجيب تلقائياً عن أسئلته دون إحراجه، وتثير همّته حال الفتور أو التقاعس عن الامتثال..
إذا كلّفت ابنك أو أحد طلابك بإنجاز عمل ما أو رجوت منه تطبيق سلوك معيّن ثم لم يأت به على الوجه المطلوب أو في الوقت المطلوب ففكّر مليّاً ما الذي يحتاجه للقيام به: المعرفة والتصوّر الصحيح؟ أم المهارات اللازمة لذلك؟ أم الدافعيّة الكافية وإشعاره بقيمته؟ ولتكن الإجابة عن هذه الأسئلة الشرطيّة للسلوك نابعة من تصوّر دقيق ومراعيةً لقدرات المتربّي وتوجّهاته قبل الحكم على قصوره أو عناده أو لمزه بصعوبات التعلّم.. وهذه الإستراتيجية للمقاربة نحو الأداء الأفضل وتمنح المربّي الصبر والتأنّي في زرع السلوك وعدم العجلة، كما تنتشل المتربّي من وابل الإحباطات النفسيّة التي تنتابه ويتعرّض لها نتيجة الإخفاقات وإلحاح المربّي على تحصيل السلوك ورؤيته واقعاً دون النظر فيما يتعلّق به شرطياً. ما أجمل الإسلام وأكمله يوم أن جاء القرآن الكريم بتصحيح التصوّرات والرؤى الكليّة للحياة وفيه الموعظة الدافعة للسائرين نحو العمل الصالح، وجاءت السنّة المطهّرة شارحةً ومفسّرةً للكيفيّات وتطبيقاتها لتكون واقعاً صالحاً لكل زمان ومكان.