قد يغضب الأب على ابنه نتيجة بعده وانشغاله بأصدقائه أكثر من أبيه، فيتأثر الأب ويتساءل:
لماذا يا ولدي؟ وإلى متى تبقى هكذا؟ هل قصرت في خدمتك وتربيتك والنفقة عليك يومًا ما؟ هل صدر مني أمر يجعلك تبتعد مني وتقترب من غيري؟ ألا تعلم أن ذلك يحزنني ويؤلمني ويجعلني قلقًا متوترًا عليك؟ ألا تعلم أنك تمارس نوعًا من العقوق؟ وهو الممنوع شرعًا وعرفًا، ألا تعلم أنك المتضرر الأول وأنك سوف تندم على فعلك؟ ألا تعلم أن الفرصة قد تذهب بموت أبيك؟ فتتمنى لو...لو....
وهنا الأمنيات لا تفيد، والوقت قد مضى والعمر قد فات، والموت قد حل، والأب قد ارتحل، وحتى لو ذهبت إلى القبر، وبقيت بعض الوقت تدعو، وتسكب بعض الدموع التي جفت وندرت، وترقق القلب الذي قسى، وتحرك المشاعر والأحاسيس التي تعطَّلت، وتُعلن الندم والأسف على ما فات، وتطلب من ربك العفو والمغفرة، كل ذلك وإن كان مطلوبًا لكنه لا يؤدي ما تتمناه.
تخيَّل أن والدك حي، قريب منك في نفس البيت، وهو صحيح معافى لا يريد تطبيبك له، أو حملك له، ولا حتى الذهاب به في زيارة بعض أرحامه وأصدقائه، ولا يريد منك مالًا ولا متاعًا، كل ما يريده منك أن تقترب منه وتسلم عليه، وتقبل رأسه وتتحدث معه، وتطلب منه الدعاء لك، باعتبار أن دعاء الأب مستجاب.
فكل ما يطلبه سهل يسير متاح، فهو يشفق عليك أكثر منك على نفسك، وحتى لو غضب منك، فسَرعان ما يذهب الغضب، ويتبدد الزعل بتلك القُبلة التي ترسلها من شفتيك على رأسه، يفرح ويأنس ويسعد وينسى كل ما مضى، ويدعو لك من قلبه قبل لسانه، وقبل أن تطلب منه.
ويعيش لحظات أنس وسعادة أدخلتها إليه، ويذكرك بين إخوانك طمعًا أن يفعلوا مثلك ويتسابقوا إلى بره والقرب منه، ويبقى متهللًا فرحًا يفاخر بك وبإخوانك، وكأنكم قدمتم له خزائنَ الدنيا ووفرتم له وسائل السعادة كلها.
هو لا يريد من الولد أن يكون أكثر برًّا به من أمه التي حملته وولدته وأرضعته، واعتنت به أكثر منه، فهو يدرك ذلك ويقدر لها جهدها، بل يفرح بقربك من الأم، ويعرف أنه في المرتبة الثانية بعدها، ويذكر وصية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لأحد صحابته عندما سأله عن أولى الناس بحسن صحبته، فقال: أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ.
هو لا يريد منك أن تقطع الصلة بأصحابك إلا إذا كانوا من أهل السوء والمعاصي، فهؤلاء لا يجوز لك صحبتهم "فالمرء على دين خليله"، لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي، ولا تغتر بضحكهم ولحظات الأنس واللعب معهم، فهم أول من يتركك ويضحي بك عند أول ملمة أومصيبة.
هو لا يريد منك أن تترك كتبك ودراستك ومدرستك أو جامعتك، بل يريد لك التفوق والتميز والإبداع، فكل ما تحققه من نجاح هو موجود وحاضر فيه، ألا يقال فاز فلان بن فلان.
هو لا يريد منك أن تنشغل به عن عملك وتتأخر من أجله، فعملك الذي تأخذ مقابله مالًا، هو أمانة ينبغي أن تقوم بها على الوجه الأكمل، ولكن يفرح عندما تودعه وعندما يراك بعد العودة، فرتِّب أمورك بأن تلقي السلام عليه في أي فرصة تلوح لك.
هو لا يريد منك أن تبقى في البيت دائمًا، وتترك النزهة والترويح عن النفس، فهي تمل وتحتاج إلى ذلك بين الحين والآخر، ولكنه يريد أن يراك معهم في رحلات الأسرة الأسبوعية أو الشهرية ولو بعض الأحيان.
هو لا يريد منك أن تبقى في المسجد دائمًا معتكفًا، ولكنه يريد ألا يفقدك في الجماعة، يفرح عندما يراك في الصف الأول تسابق الآخرين، يفرح عندما يراك تستيقض للفجر وتحرص عليها كما تحرِص على المدرسة أو الذهاب للعمل، يفرح عندما يراك تأتيه بعد صلاة الفجر وهو ما زال بالمسجد تقبل رأسه وتعلن محبتك له.
هو لا يريد أن تتخلى عن الجوال والتواصل المثمر الفعال، أو البعد عن بعض القنوات المفيدة الهادفة، لكن يريد أن يراك في حلقة القرآن بالمسجد مع المصلين، أو حلقة القرآن في البيت مع الأسرة، فكتاب الله أولى وأهم.
فمتى أيها الولد العزيز آخر مرة قبَّلت رأس أبيك، ومتى أيها الأخ الكريم فعلت ذلك؟ ومتى أيها الصديق العزيز اقتربت من أبيك أكثر مني؟
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/social/0/137925/#ixzz69aAOdfqn