خطوات على الرصيف

حاولت أن أطرح همومي في بيتي: وضعت كتابي وأوراقي وقلمي وساعتي ونظارتي،وألقيت بجهاز المراقبة من جيب سترتي،تركت الكل وانطلقت منفردا،متحررا من قيودي وشرودي وحدودي، هاربا من المطالب والرغائب والمآرب التي لا تنتهي ولا تبيد، إلا لتشرع من جديد في استحضار ما يفيد وما لا يفيد، من غذاء ودواء وكساء وغطاء وعبارات الثناء والوفاء.
خرجت لأستمتع بالنظر إلى الفضاء والسماء والأفق المغلق والأجواء،وأستمع إلى أصوات الناس وصخبهم، ولزفرات المحركات ومنبهاتها، الكل يجري بلا توقف، ولكل وجهته وحاجاته ونيته،يسعون لتوفير متطلبات الحياة،وكماليات ها وما لا حد له من أمراض السرف والترف .
مشيت على الرصيف مسافة بعيدة بخطى وئيدة، لا أتلفت ولا أتفحص الذين يقابلونني؛تجنبا لما يتركه فضول النظر من آثار وأضرار، كنت أستمتع بجمال الأشجار والحدائق والأزهار،وبديع صنع الله في الخلق والأرض وعجائب الآثار والأقدار.
استعرضت شريط ذكرياتي: أين ولدت،وأين درست،وأين اشتغلت، وما أنجبت،وما جمعت من مال ومتاع،وما عملت مما يضر وما ينفع،وتساءلت:ما ذا بقي علي أن أفعل قبل أن أرحل؟
أوقفني شاب أنيق،وسألني بإلحاح:ساعدني ياعم،أعني،فأنا محتاج لشراء دواء لوالدي.حسبت أنه نصاب،فأدخلت يدي في جيبي،فبرقت عيناه،وأخرجت علبة دواء فارغة،وقلت ياولدي،وأنا أبحث عمن يشتري لي هذا الدواء،فلترافقن ي إلى محلبة قريبة،نسأل الجياع مساعدتنا معا.شعر بالهزيمة والسخرية،ولم يجد غير التعبير عن سخطه بملامحه،فعبس وقطب،زفر ثم نفر..
تابعت المسيرعلى الرصيف أدعو الله أن يكفيني شر البشر،وحر الشمس وطوفان المطر،وشر طوارق الليل والنهار،وبينما أنا غارق في بحر التضرع والمناجاة فإذا بي أحس بيد من الخلف تضغط على عاتقي بعنف،وبصوت أجش يسأل :إلى أين ياأبا الريحان؟
التفت، فإذا بكهل فظ غليظ الملامح،في عينيه مكر ودهاء،أحسست بالخطر، فقلت بأسى بالغ:أنا أبو الخرفان،تركتهم يثغون،وخرجت أبحث عن الكرام أمثالك،أسأل الله أن لا يخيب فيك رجاءنا.نظر إلي مستغربا،ثم ضحك وقال:نحن إذن خريجو مدرسة واحدة،مدرسة الاحتيال والنصب والخداع،ما كان لنا أن نلجأ لهذا لنعيش بلا شرف ولا كرامة،وغيرنا يرمي في صندوق القمامة ما يكفينا وزيادة.
معذرة ياأباالخرفان، ما زال أمامك فسحة للاحتيال حتى تشتد قرون خرفانك،وانتظر حظك،فقد يكفونك هم العيش فتحيا،،وقد ينطحونك فتشقى،أما أنا فأعيش بلا خلف، فمن يحمل اسمي؟ومن يذكرني ويدعو لي بعد غيابي؟
قلت: نحن لا ندري ما الأصلح لنا؟وما اختار الله لنا فهو خير،وقد تأتي الأيام بما لم يكن في الحسبان،كل ما علينا هو أن لا ننسى أننا عبيد لله..
أطرق رأسه ومضى،وعدت أدراجي أستعيد شريط الأحداث في هذا الظرف الوجيز،وأعجب كيف نجوت من فخ النصابين بدون خسارة أو ضرر.
اقتربت من مسكني فإذا أنا بسائل بالباب يسأل ولا من مجيب،حاولت تقليده، وقفت خلفه،فالتفت إلي وقال عند ما رآني:لعل البيت غير مسكون ياصاحبي.
قلت:كرر الضغط على زر المنبه حتى تقلقهم فيستجيبون لطلبك أو يصرفونك.
نظر إلي باستعلاء وقال: أوَ تعلمني ذلك؟
قلت معاندا:أما أنا فسأقف بالباب حتى يفتح لي،فكم من طعام قدم لي في هذا البيت،ولا أنسى فضل أهله!
التفت إلي مرة أخرى وقال ساخرا:والله لو مكثت بهذا الباب عمر نوح ما انتفعت بشيء،غير وجهتك واتبعني أهدك إلى..قطع كلامه حين رآني أفتح الباب،نظر إلي بارتياب وقال:
نحن شركاء في الغنيمة،وإلا..
قلت بنبرة حازمة:نعم،ولكن نقتسم أوّلا ما في جيبك قبل أن ندخل.
أعاد النظر في هيئتي وملامحي،وهرول وهو يصيح السلامة أولى،أنا لا أضحي بالموجود طمعا في الغائب المفقود،لا صداقة ولا شراكة ولا ثقة فيمن تجهله، وترتاب في سلوكه، فالسلامة أولى، السلامة أولى.
دخلت بيتي واحتضنت همومي وأدواتي،أخذت قلمي ودونت بخط غليظ:
في بيتي سلامتي وسعادتي.