أمير المؤمنين في الحديث (الإمام البخاري)
عمر بن محمد عمر عبدالرحمن

الحمد لله ولي كل نعمة، والصلاة والسلام على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- المبعوث بالرحمة، وعلى كل آله وصحبه ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وبعد.....
نلتقي في هذه السطور مع إمامُ الحديثِ الأول وإمامُ المحدّثينَ إمامُ الأئمة وعلمُ الأعلام رَفَعَهُ الله - عز وجل - بِالعِلْمِ حَتَّى بَلَغَ المكانَ الأعلى والدرجةَ الأسمى في العلم، اتفق العلماء في القديم والحديث على أنه ليس هناك كتابٌ على وجه الأرض أصحَ مِنْ كتابه بعد كتاب الله - عز وجل- وَذلكَ فضلُ الله يؤتيهِ مَنْ يشاء، ألا وهو: الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزبه الجُعْفِي البخاري.
ولد - رحمه الله - في يوم الجمعةِ بعد الصلاةِ في الثالث عشَرَ مِنْ شهر شوال سنة أربعٍ وتسعينَ ومائة ببلدةِ بخارى، وهي من بلدانِ ما وراء النهرِ فُتحت هذه في خلافة بني أمية في عهد معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - على يد سعيد بن عثمان، وقيل: أنها فَُتِحَت على يد قُتيبة بن مسلم في زمن الحجاج بن يوسف الثقفي [راجع سير أعلام النبلاء 12/392، مقدمة الفتح 501].
أمَّا والدهُ (إسماعيل) وكانَ يُكنى (أبو الحسن) وكانَ مِنْ كِبارِ المحدِّثينَ مِنْ تلاميذِ وأصحابِ الإمامِ مالك وقد صافح الإمام الكبير الزاهد ابن المبارك - رحمه الله - وكان تاجراً وقد ورث من أبيه مالاً وفيراً وحينما كان على فراش الموت قال لولده محمد: قد تركت لك ألف ألف درهم يعني مليون درهم لا أعلم منهم درهماً من حرام، ولا درهماً من شبهة، ومات إسماعيل والد البخاري وكان ولده محمد لا يزال صغيراً لم يبلغ الحُلم، فنشأ محمد في حجر أمه [راجع مقدمة الفتح 502].
وأمَّا والدة الإمام البخاري فلم أقف لها على اسم ولا على نسب، ولكن كل ما عُرف عنها أنها كانت عابدةً زاهدةً صاحبةَ كراماتٍ وقد رُزقتْ حظاً وفيراً من الدعاء والابتهال إلى الله، وقد ذهبت عينا الإمام البخاريّ في الصغر يعني أصيب بالعمى فرأت والدته في المنام عجباً: رأت الخليل إبراهيم - عليه السلام - فقال لها: يا هذه قد رد الله على ابنك بصره بكثرة بكائك أو لكثرة دعائك، فأصبحوا وقد رد الله عليه بصره. [راجع تاريخ بغداد 2/10، سير أعلام النبلاء 12/393، مقدمة الفتح 502] وصدق الله - عز وجل-: (والبلدُ الطيبُ يخرج نباتهُ بإذن ربه والذي خبث لا يخرجُ إلا نكداً).
وقد نشأ الإمام البخاري في هذا البيت بيت الدينِ والورعِ، وقد أُلهم البخاري الحفظ وهو صغير وهو ابن عشر سنين أو أقل وكيف لا؟ وقد ورثه من والده العظيم - رحمه الله -، وما كاد البخاري أن يصل سن السادسة عشر من عمره حتى أنهى حفظ كتب ابن المبارك ووكيع وعرف كلام أصحاب الرأي، وأنفق البخاري من ماله الكثير والكثير في طلبه للعلم فنفعه الله -عز وجل- بهذا المال الحلال، وكان البخاري يتجنب كل مواطن الشبهات فضلاً عن الحرام في معاملاته التجارية.
س. هل تزوج البخاريّ - رحمه الله-؟ بعض أهل العلم يرون أن البخاري لم يتزوج، وقالوا: إنه لو تزوج لوجدنا له ذكراً، ورد على أصحاب هذا الرأي الشيخ المباركفوري - رحمه الله - بقوله: " للأسف أن المؤرخين لا يذكرون عادة أحوال الزواج والنكاح، فهناك المئات من الأسماء في كتب التاريخ لا يُذكر شيءٌ عن زواجهم أو عدمه فكيف نظن أن البخاري حُرمَ مِنْ سنةٍ مؤكدةٍ ولم يثبت دليلٌ صحيحٌ علي أنه قد ترك الزواج". [راجع سيرة البخاري للمباركفوري 105].
فالراجح من هذا أنه بالفعل قد تزوج، ولكن البخاري لم يترك وراءه ذرية من بعده. [راجع المرقاه 1/15، سيرة البخاري للمباركفوري 105].
إذاً إن كان ذلك كذلك فلماذا تكني البخاري بـ أبو عبد الله؟ قال أهل العلم: أنه قد جرت عادة العرب أنهم كانوا يكنون بأولادهم وبناتهم وهم صغاراً دون أن يُولدَ لهم. [راجع الإكمال 149، سيرة البخاري للمباركفوري 105]. وقد قال عنه الإمام ابن خزيمة - رحمه الله -: " ما تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أحفظ من محمد بن إسماعيل البخاري"، أما كتب ومؤلفات البخاري: فإن الله - عز وجل - قد رزقه ذوقاً في التأليف لم يُسبق إليه ولاقت مؤلفاته القبول في شتى بقاع الأرض بين العلماء وطلبة العلم وأشهر هذه المؤلفات: (الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسننه وأيامه) وهو كتاب أُعجوبة في التصنيف وهو أصح الكتب بعد كتاب الله - عز وجل -، وضع فيه البخاري - رحمه الله - جملةً من صحيح أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبوبه البخاري على الأبواب الفقهية وترجم له بتراجم حيرت العلماء ووضع فيها فقهه، خرَّجه البخاري من ستمائة ألف حديث وتعب - رحمه الله - في تنقيحه وتهذيبه والتحري من صحته حتى كان لا يضع فيه حديثاً إلا اغتسل وصلى ركعتين يستخير الله في وضعه، ولم يضع فيه مُسنداً إلا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسند المتصل الذي توفر في رجاله العدالة والضبط والثقة، وأكمل تأليفه في ستة عشر عاماً ثم عرضه على الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعليّ بن المدينيّ، وغيرهم وقد تلقوه جميعاً بالقبول واستحسنوه وشهدوا له بالصحة، وتبلغ أحاديث هذا الكتاب بالمكرر 7397 سبعة وتسعون وثلاثمائة وسبعة آلاف، وبحذف المكرر 2602 اثنان وستمائة وألفا حديث.
وللبخاري أيضاً كتب أخرى كـ (التاريخ الكبير) وهو مُصنف لأسماء الرواه وكذلك (الأدب المفرد) وهو كتاب يُعلم أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- وآدابه، وله أيضاً (بر الوالدين)، (الرقاق)، (الجامع الصغير في الحديث)، (جزء القراءة خلف الإمام)، (قضايا الصحابة والتابعين)، (كتاب الفوائد)، (كتاب العلل)، (أسامي الصحابة) وغيرها الكثير...
وفاة الإمام الكبير الحافظ إمام الدنيا في الحديث البخاري - رحمه الله -، وها قد اقتربت ساعة الرحيل لإمام الدنيا في الحديث البخاري - رحمه الله - ينزل على أقرباء له في قرية قريبة من سمرقند فسمعوه في ليلة يدعو الله بعد أن فرغ من الصلاة ويقول: ((اللهم إنه قد ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك)) فما أتم الشهر حتى قبضه الله. [راجع تاريخ أعلام بغداد 2/34، تهذيب الكمال 1172، طبقات السُبكي 2/232، سير أعلام النبلاء 12/466، مقدمة الفتح 518]، وأخرج الخطيب بسنده المعروف عن عبد الواحد بن آدم الطواويسي قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم ومعه جماعة من أصحابه وهو واقف في موضع فسلمت عليه فرد عليَّ السلام فقلت: ما وقوفك هنا يا رسول الله؟ قال لي: أنتظر محمد بن إسماعيل، قال: فلم ألبث إلا بضعة أيام حتى بلغني موته فنظرت فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها، وقد لحق الإمام البخاري - رحمه الله - بربه في يوم السبت ليلة عيد الفطر سنة 256 هـ ست وخمسين ومائتين، وكان عمره اثنين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوماً[راجع سير أعلام النبلاء 12/468، ومقدمة الفتح 518]. وكان قد طلب مِنْ مَنْ حوله أنه إذا مات أن يكفنوه في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة فلما مات فعلوا به ما أوصاهم به فلما أدرجوه في أكفانه وصلوا عليه ووضعوه في حفرته فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك.
هذا جزء يسير من حياة الإمام البخاري - رحمه الله - أردت أن أعرف حضراتكم على هذا الجبل الشامخ في الحديث في نبذة مختصرة جداً اعترافاً منا بحق هؤلاء الأجلاء الثقات الذين نقلوا لنا سنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- و- حفظها الله - بهم من الضياع فنرجوا الله - عز وجل - أن يجزيهم خير الجزاء علي ما قدموه للإسلام والمسلمين وأن يحشرنا معهم في صحبة حبيب قلوبنا -صلى الله عليه وسلم- وإن قصّرت أعمالنا وحتماً قصرت أعمالنا إنه ولي ذلك وهو القادر عليه إنه بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل