يعرض المستشرقون لعلوم الإسلام وتاريخ الإسلام عرضًا علميًّا في بعض أحيانهم، وعرضًا كله غرض في بعض أحيانهم.
ولقد كان المسلمون - ولا يزالون - في حاجة إلى معرفة آراء هؤلاء، سواء منها ما كان رأيًا عن معرفة وثبت وإنصاف، وما كان عن هوى وغرض، حتى يدركوا مقاصد القوم ونياتهم نحوهم ونحو بلادهم، فما أُتي المسلمون في القرنين الماضيين إلَّا من جهلهم ما يضمر بعض أولئك القوم لهم وما يقولون فيهم.
وكنا - نحن الأزهريين في هذا العصر - نجتهد بكل وسيلة نستطيع، أن نتعرف آراء أولئك في تاريخنا وعلومنا، ونقرأ كل ما يترجم عنهم في الكتب والصحف والمجلات، ونتصل بمن عرفوا اللغات الأجنبية وبمن تعلموا في أوربة من المصريين، ونقتني آثارنا النفيسة التي ينشرها المستشرقون، نستطلع بذلك كله الأخبار والآراء، ثم بُعثت بعض البعوث منا إلى أوربة للدرس والمعرفة والتنقيب، وعاد بعض من بعث، فتوقعنا أن يقوموا ببعض هذا الواجب، واجب تعريفنا تعريفًا علميًّا بآراء علماء أوربة فيما عرضوا له من دقائق العلم الإسلامي، فلم يفعلوا، ولا نزال نتوقع أن يفعلوا، ولعل لهم من أحداث هذه الحرب بعض العذر، فقد كان أثرها شديدًا على الورق والطبع والنشر.
ولكن أخانا علي حسن عبد القادر لم تقف دونه العقبات فيما يستطيع، فأخرج لنا هذا الكتاب في هذا العام، ونحن على ثقة أنْ سيتبعُه كتبًا أخرى، ولعل في نشاطه وعمله هذا ما يحفز إخوانه على أن يقوموا بحركة مباركة في الترجمة والنشر، قيامًا ببعض الواجب عليهم نحو أزهرِهم.
وقد اختار المترجم هذا الكتاب؛ لأنه "لشيخ من شيوخ المستشرقين (وهو مجري) معروف بطول الباع معرفة مستفيضة، وقد كان هذا الكتاب آخر كتاب له، ملأه بتجاربه في البحوث الإسلامية... حتى إنَّه ليعدُّ كافيًا لتعرف آراء المستشرقين، ومصادرهم ومؤلفاتهم، وزبدة ما يمكن أن يعرضوا له من نقد وتقدير في هذا الصدد".
وفي هذا الكتاب من الخطأ ما يحتاج من أجله إلى درس كل مسألة من مسائله درسًا دقيقًا وافيًا، حتى لا يغتر قارئه بظاهر القول؛ فيقع فيما وقع فيه المؤلف، ولعلنا نوفق إلى صنع ذلك في إحدى المجلات الخاصة بمثل هذه الأبحاث أو في كتاب خاص، بعون الله وتوفيقه.
ولم يكن المجال واسعًا في ترجمة الكتاب أن يتعقب الأستاذ المترجم مسائله تفصيلًا، ولكنه تعقبه إجمالًا في عشر صفحات ألحقها بآخر الكتاب، أجاد فيها جدًّا قال: «إن نظرة عابرة في هذا الكتاب تجعل القارئ لأول وهلة يقف موقف الحائر المتردد في الحكم عليه: فبينما نرى فيه اطلاعًا واسعًا في الكتب الإسلامية، وفكرة طريفة في عرض الموضوع عرضًا علميًّا، نجد في الوقت نفسه أن المؤلف قد تخلى عنه قلم العالم النزيه في نقد المسائل نقدًا سليمًا... ولعل هذه الفرصة في عرض هذا الكتاب تبين للناس بعض ذلك، حتى يقفوا موقف الحيطة والحذر إزاء ما يقرؤون (للمستشرقين)، وموقف الريبة لهم، حتى يتبينوا، ويعرضوا ذلك على مصادره الأصلية» ص 174.
والذي نراه نحن فوق هذا أن الهوى قد يغلب حتى يضع المؤلف موضع الشك في أمانته في اختيار ما ينقل. فقد عرض المؤلف - مثلًا - لأول سورة الروم ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾ [الروم: 1 - 4]. فالذكر المعروف في القراءة والتفسير والسير والتاريخ: أن الفرس انتصروا على الروم، ففرح المشركون بهزيمة النصارى أهل الكتاب، وحزن المسلمون، وأن الآية بشرتهم بنصر الروم على الفرس في بضع سنين. ولكن المؤلف لا يرضيه أن يسير على الجادة الواضحة، ويريد أن يتبع طريق التشكيك في قراءات القرآن فيقول ص 19: «ولكن قراءة هذه الآية على هذا الشكل [2] لم يتفق عليها عند جميع القراء فقد قرأها أكثرهم: (غَلَبَتْ) [3]... وأن ذلك يتعلق بانتصار الروم على بعض القبائل العربية بالشام وأصحاب هذه القراءة يذكرون أن فيها تنبؤًا للنبي بما حصل بعد تسع سنين بعد هذا الوحي من انتصار المسلمين على البيزنطيين. ونحن نرى أن القراءتين متناقضتان في المعنى، فالغالبون في القراءة المشهورة هم المغلوبون في القراءة الأخرى، ومتعلق الفعل في قراءة على الفاعلية، وفي أخرى على المفعولية».
وهذا الذي حكاه غير صحيح، أعني؛ ادعاءه أن أكثر القراء قرؤوها ﴿ غَلَبَتْ ﴾ بالبناء للفاعل، و﴿ سَيُغْلَبونَ ﴾ بالبناء للمفعول، وليس هذا عن سهو منه أو قصور في البحث، فإن اطلاعه واسع جدًّا على كتب التفسير والقراءات، كما يبدو من كتابه، وإنما قصد إلى غير الصحيح.
وذلك أن كل القراء السبعة ورواتهم، وسائر القراء العشرة، وسائر القراء الأربعة عشر لم يقرؤوها إلا ﴿ غُلِبَتِ ﴾ بالبناء للمفعول، و﴿ سَيَغْلِبُونَ ﴾ بالبناء للفاعل، قولًا واحدًا وقراءة واحدة، والقراءة الأخرى التي نسبها إلى أكثر القراء قراءة شاذة جدًّا نقلها ابن خالويه في كتاب "القراءات الشاذة" الذي نشرته جمعية المستشرقين الألمانية بتصحيح المستشرق برجشتراسر سنة 1934 ص 116، ونسبها للنبي -صلى الله عليه وسلم- وعلي بن أبي طالب وابن عمر، وهذه نسبة ضعيفة لم تثبت بإسناد صحيح ولا ضعيف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يروها أحد من أهل الحديث. نعم، روى الترمذي في سننه بإسناده عن أبي سعيد ما يشبه هذا، وحكى عن شيخه نصر بن علي الجهضمي أنه كان يقرؤها ﴿ غَلَبَتْ ﴾ بفتح الغين، ولكن إسناد حديثه ضعيف جدًّا، وأخطأ الترمذي فحكم بأنه حديث حسن (انظر: الترمذي ج 2 ص 154، 206 طبعة بولاق، وشرح المباركفوري على الترمذي ج 4 ص 59 - 60، 160 طبع الهند). وقد رد على الترمذي وبيّن أن الحديث ضعيف.
وروى ابن جرير الطبري في التفسير ج 21 ص 11 من طريق "الحسن الجفري عن سليط" أنه سمع ابن عمر يقرأ ذلك، وهذا إسناد ضعيف جدًّا، الحسن بن أبي جعفر الجفري ضعيف منكر الحديث، وشيخه سليط مجهول، فمثل هذا الإسناد لا تثبت به قراءة ولا كرامة، ثم بين الطبري الصحيح من القراءة فقال: "والصواب من القراءة في ذلك عندنا، الذي لا يجوز غيره ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ ﴾. بضم الغين؛ لإجماع الحجة من القراء عليه".
لا نظن بعد هذا أن مؤلف الكتاب أخطأ فيما حكى، إنما الواضح الذي لا نشك فيه أنه علم الصحيح وعدل عنه ونقل غيره عارفًا أن القراء أجمعوا تقريبًا على القراءة المعروفة، ثم نسب القراءة الشاذة المنكرة إلى أكثرهم.
وبعد: فإن في الكتاب حافزًا إلى البحث والتوسع، بما يضمه من نقول وآراء لم ينشر من مثلها في العربية كثير، ويجدر بالعلماء أن يعنوا به وبأمثاله ليستفيدوا طرق البحث والنقد، بما يرسم من المناهج، ثم ليعرفوا ما يقال من حق ومن باطل، وليروا ما يثار من شُبه وشكوك، يجب عليهم أن يدفعوها، وفاءً بميثاقهم، وأداءً لأمانتهم.
المقتطف، المجلد الخامس بعد المائة، يونيو - ديسمبر 1944م.
---------------------------
[1] ترجمة علي حسن عبد القادر (16 × 23 سم، 184 ص، القاهرة سنة 1363 هـ/ 1944 م).
[2] أي قراءة "غلبت" بالبناء للمفعول، و"سيغلبون" بالبناء للفاعل.
[3] أي قراءته "غلبت" بالبناء للفاعل، و"سيغلبون" بالبناء للمفعول.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/137837/#ixzz691HUyFsX