أعمال لا تنقطع




د.أحمد الجسار


قال الله تعالى عن خلق الإنسان: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ (22)} (عبس)، لقد كتب الله علينا الموت، بعد بقاء مؤقت في هذه الدنيا: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء 35)، حتى عيسى -عليه السلام-، الذي رفعه الله إليه، ينزل قبل يوم القيامة، ويموت على الأرض، ليبعث منها بعد ذلك بإذن الله، ويتحقق وعد الله في حق الناس كلهم، ولا يتخلف عن أمر الله أحد: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (طه 55).

ولذلك فقد حثنا الله على فعل الخيرات، وجمع الحسنات، لكي ننتفع بها في حياتنا وبعد مماتنا، استعدادا للرجوع إليه -سبحانه-؛ فمن رحمة الله -تعالى- بعباده أن جعل لهم أعمالا ينتفعون بها في حياتهم وبعد مماتهم، ولئن كان بقاؤنا في هذه الدنيا يسيرا، فقد دلنا رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - على أعمال يبقى ثوابها، ويستمر بإذن الله، وإن فارقنا الحياة.

إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لهس. (رواه مسلم)، فمن عمل الإنسان الذي لا ينقطع ثوابه بموته: الصدقة الجارية، وهي ما يوقفه المسلم في حياته من ماله، ويجري نفعه للناس في حياته وبعد مماته. وكذلك العلم النافع الذي ينتفع به الناس، وكذلك الولد الصالح الذي يدعو لوالديه في حياتهما وبعد موتهما؛ ولذلك يتأكد علينا أن نحرص غاية الحرص على صلاح أولادنا من بنين وبنات؛ لأن صلاحَهم خيرٌ لهم وخيرٌ لنا كذلك. حتى إن العبدَ لترفع له درجته في الجنة بسبب استغفار ولده له. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الرَّجلَ لتُرفَعُ درجتُه في الجنةِ، فيقولُ: أنَّى هذا؟ فيقالُ: باستغفارِ ولدِك لكَ». (رواه ابن ماجه).

الأعمال التي تنفع صاحبَها

ومن الأعمال التي يلحق أجرُها صاحبَها بعد موته ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه: عِلمًا علَّمَه ونشرَه، وولدًا صالحًا ترَكَه، ومُصحفًا ورَّثَه، أو مسجِدًا بناهُ، أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ، أو نَهرًا أجراهُ، أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه، يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ». (رواه ابن ماجه). وفي حديث آخر قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا»، فهذه أمور إنْ عملها العبدُ في حياته، راجيا ثوابَها عند الله، جرت عليه حسناتُها في حياته وبعد مماته -بإذن الله.

العلم النافع

ومن هذه الأعمال التي لا ينقطع أجرها -بإذن الله-: العلم النافع، وأشرفه العلم الشرعي، الذي يدل الناس على سبيلِ طاعة ربهم ونيلِ رضاه -سبحانه-؛ فقد كان هذا عمل الرسل والأنبياء، وهم صفوة البشر -عليهم السلام-. ويدخل في ذلك تعليمُ الناس، والمساعدةُ على ذلك؛ فقد يكون الإنسانُ غيرَ عالم، ولكن ينال نصيبَه من هذا الأجر بكفالته طالبَ علم؛ فقد كان هناك أخَوانِ على عهدِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان أحدُهُما يأتي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ليتعلم، والآخرُ يعمل ويصرف على نفسه وعلى أخيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للعامل: «لعلَّكَ ترزقُ بِهِ». (رواه الترمذي).

طباعة المصاحف ونشرها

ومن هذه الأعمال التي لا ينقطع أجرها بإذن الله: الإعانة على طباعة المصاحف ونشرها وتوصيلها إلى من ينتفع بها بالقراءة فيها؛ فلكل من قرأ حرفا من كتاب الله عشرُ حسنات، ولمن تصدق بهذا المصحف مثلُ ذلك إلى ما شاء الله -تعالى-، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَن قرأَ حرفًا من كتابِ اللهِ فلَهُ بِهِ حسنةٌ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها، لا أقولُ الم حرفٌ، ولَكِن ألِفٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ ولام حرف». (رواه الترمذي).

بناء مسجد لله -تعالى

ومن هذه الأعمال التي لا ينقطع أجرها -بإذن الله-: بناء مسجد لله -تعالى-، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن بَنَى مَسْجِدًا للهِ بَنَى اللهُ له بَيْتًا في الجَنَّةِ». (متفق عليه)، وكل ركعة وسجدة وتسبيحة واستغفار وتلاوة قرآن وذكر لله -تعالى- في هذا المسجد يكون لمن بناه مثل أجره بإذن الله، إلى ما شاء الله.

إيواء من ليس لهم سكن

ومن هذه الأعمال التي لا ينقطع أجرها -بإذن الله-: بناء البيوت لإيواء من ليس لهم سكن يؤويهم، كدور الأيتام وبيوت الفقراء، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ». (رواه مسلم).

سقيا الماء

ومن هذه الأعمال التي لا ينقطع أجرها -بإذن الله-: بذل الماء لسقي الناس، فقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «سَقْيُ الْمَاءِ». (رواه النسائي وابن ماجه). ويدخل في ذلك -إن شاء الله-: حفر الآبار، والإعانة على توصيل الماء من مصادره كالجداول والأنهار، وكل ما يعين على توصيل الماء إلى من يحتاجه من البشر والدواب؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ». (متفق عليه).

غرس الأشجار

ومن هذه الأعمال التي لا ينقطع أجرها -بإذن الله-: غرس الأشجار وزراعة النبات؛ فما يأكل منها إنسان أو بهيمة أو طير إلا كان لمن زرعها بها أجر، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ». (متفق عليه)، قال الشيخ ابنُ عثيمين -رحمه الله- في شرح هذا الحديث من رياض الصالحين (1 / 544): «كذلك أيضا إذا أكل من هذا الزرع دوابُّ الأرض وهوامُّها كان لصاحبه صدقة»، وهذا كله من كرم الله -تعالى-، الذي يريد لنا الخير واليسر، ويريد أن يهدينا، ويريد أن يتوب علينا.
تذكر أنك سترحل

فاعمل لآخرتك، وكن مستعدا لها، واحرص على ما ينفعك في حياتك وبعد مماتك، وتذكر دائما أنك سترحل من هذه الدار كما رحل مَن قبلَك؛ فقدم لنفسك ولحياتك الآخرة، وثقل موازينَ حسناتك في حياتك، واجعل لك أعمالا تنفعك بعد مماتك، والموفق من وفقه الله.