روضة صلاة الجماعة

نبيل بن عبدالمجيد النشمي

قال - تبارك وتعالى -: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُم ْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُم ْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [النساء: 102].

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى، فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُرخِّص له فيصلي في بيته، فرخَّص له، فلما ولَّى دعاه فقال له: ((هل تسمع النداء بالصلاة؟))، قال: ((نعم))، قال: ((فأجب))؛ رواه مسلم[1].

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجةً))؛ متفق عليه[2].

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أُخالِف إلى رجال فأُحرِّق عليهم بيوتهم))؛ متفق عليه[3].

وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن صلَّى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما صلى الليل كله))؛ رواه مسلم[4].

روضة إيمانيَّة أخوية اجتماعية عالية المقصد والوسيلة، تبعَث في القلب محبة ويقينًا، وتزرع فيه أُلفة وتزيل وحشة، وتقوِّي صِلة، وتذيب ثلج الهجر، وتُزيح ضباب الظن، وتقطع حبلَ التدابر والتقاطع.

روضة صلاة الجماعة روضة أُنْس وصفاء وجرعة دواء لمن في قلبه كِبر أو استحياء، وهي قائمة طوال العام، غير أنها في رمضان عروس في أبهى زينتها، وقمر في نصف شهرها، فهي زينة المساجد، وبرنامج الصائم، وسوط النائم، ومغضَبة للشيطان، ومطرَدة للنفاق، ومفخرة لأهل الإيمان.

لها لذة في كل فريضة، ولذتها في رمضان بسبعين فريضة، فيا خسارة من فرَّط! ويا ندامة من ضيَّع! وهي دقائق معدودة في حسابات الزمان، لكنها في حسابات الأجر أضعاف مضاعفة، وفي قاموس الأخوة تَعدِل ألف كلمة وموعظة أو تَزيد.

روضة تُعيد في الأمة الأمل، وتُحيي في النفوس الثقةَ بعودة الدِّين، ونهضة الأمة، وتقهر اليأس، وتُخاطِب الكسلان المتأخِّر بلسان الوعظ: قم يا كسلان؛ فالقوم قد سبقوك، وما بقي إلا أنت، وبسببك يتأخَّر النصر!!

الزحام فيها قُرْبة، وتَسابُق الناس إليها طاعة، والعجلة مذمومة إلا إذا كانت على قاعدة: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84].

يَعُدها الصائم من أهم أعماله ومن أخصِّ خصوصيات صومه، فإن فاته منها جزء عوَّضه بالذي يليه، أو بنافلة تُطفئ حرارة الندم على فوت ما فات منها.

روضة صلاة الجماعة في رمضان لها صورة في الأذهان تشرح الصدر وتطهِّر القلب، تُخبِرك بلسان الحال أن المجتمع المنشود هذا يكون في كلِّ صلاة في رمضان وفي غيره من الشهور والأيام.

صلاة الجماعة في رمضان من أولويات كلِّ صائم إلا مَن صام بالنوم والكسل، فهذا خطابنا لغيره، وإن استمع فليكن ممن يستمع فيتَّبِع أحسن ما سمع، وإلا فالحجة عليه قائمة والحسرة منه متوقَّعة.

صلاة الجماعة صورة رائعة لوَحدة الأمة، فالكتف بالكتف والقدم بالقدم، لتنتهي الفواصل وتُدَك العوائق، وتُزاح العراقيل أمام وَحدة القلوب وتتقارَب الأفهام والتحقيق لمعنى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10].

روضة وأي روضة هي صلاة الجماعة، إن من أسمى معانيها أنها لأجل المجتمع، وبعيدًا عن الفرديَّة وتصفية للأنانية، فصلاة الجماعة تجمع الناس باختلاف أنسابهم وأعراقهم ومستوياتهم في صفٍّ واحد وبحركات واحدة واتباع لإمام واحد، لترسُم في الأذهان وتؤصِّل في العقول أن المجتمع الإسلامي تجمعه الطاعة، وتُفرِّقه المعصية؛ فلذلك كان النهي القرآني: ﴿ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [الروم: 32].

الحي بها حي، والمدينة بها مدينة بتوفير الأمن وزرْع الألفة وتخفيض نسبة الجريمة، فصلاة الجماعة حارس للمجتمعات وحامٍ للأوطان، وإن لم يشعر المغرورون بترسانات وهمية والمخدوعون بنظريات باطلة من غير تأصيل شرعي جاءت.

من روائع صلاة الجماعة أن أصناف الناس فيها يتَّفِقون، حتى المبتلَوْن بالفوضوية فيها يَنتظِمون، فما أروعها من صورة لوَحدةِ الأمة بهذا الدين! ولن تكون إلا به.

هي روضة للجميع، بل لا تكون إلا بالجمع، فالفرد فرد والجماعة ضد الفرد، فلا حقيقة لها لا رسمًا ولا معنى في حياة الفرد، لكن هذا الفرد جزء مهم منها، فإذا لم تجتمع الأجزاء لن يحصل الكل، وعليه فكل جزء مسؤول عن جزء منها، فتنبَّه أن يؤتى الكلُّ من قِبَلك وبسببك!!

صلاة الجماعة تُخاطِب الجميع بأن هذا طريق عزِّكم وباب مجدكم وعنوان شرفكم بأن تكونوا يدًا واحدة وقلبًا واحدًا وصفًّا واحدًا.

فيا أيها الصائم:
احذر أن يشغَلك عنها شاغلٌ، فهي في وقتها أكبر شاغل وأول شاغل إن كنتَ عاقلاً، ولتعلم أنها قائمة وحاصلة بدونك، لكن حضورك فيها لك أنت، ووجودك ينفعك، فاحرص على ما ينفعك!!

روضة تلتقي فيها مع أحبَّة في أطهر البِقاع وأحبها إلى ربك، فتجمع بين محبة المكان ومحبة العمل ومحبة اللقاء فتقترِب من الله - تبارك وتعالى - وتكون قريبًا من الجنة.

اللهم ارزقنا حبَّ المساجد، واجعلنا من أهلها، واحفظنا من كل ما يُفسِد قلوبنا يا ربنا.

[1] مسلم (1044).

[2] مسلم (249).

[3] البخاري (644).

[4] مسلم (260).