البيع الفاسد


سيد ولد عيسى


البيع الفاسد هو ما اختلَّ فيه ركنٌ من أركان البيع المعروفة، وهي: البائع والمشترى، والثمن والمثمن، والصيغة، وهذه الأركان الثابتة للبيع لكل منها شروطٌ لازمة التوفُّر فيه، إذا اختل شرط منها فسَدَ الركن، فيفسد البيع تبعًا لذلك؛ وإذا وُجد الشرط سالمًا، واكتملتْ باقي الأركان صَلَح البيع، وبُحث بعد ذلك عن المحسنات التي تجعل البيع محمودًا أو مذمومًا؛ كالسماحة المدعوِّ بالرحمة لمن باع بها واشترى.والبيع الفاسد المقصود هنا ليس بيعًا ككل البيع؛ وإنما هو بيع من نوع خاص، وفسادُه من أكبر أنوع الفساد وأعظمها؛ إنه بيع العلم.يقول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ [البقرة: 174 - 176].إن هؤلاء المذكورين في هذه الآيات نوعٌ من الناس خاص، أعطاه الله تعالى الحكمة، وبدَلَ أن يعلِّمَها، ويَحكُم بها، ويقضي بها آناء الليل وأطراف النهار، ها هو ينتهج نهجًا آخر، هو نهج الكتمان والجحد والإخفاء.نهج الكتمان الذي يصور لفظه الجريمة في صورة مَفضوحة مكشوفة رغم الكِتمان، إن الكتمان لا يعني التغييب المطلق لمَكتوم، وإنما تغييب يظن معه صاحبه أنه أخفى ما بقيت آثاره دالةً على نفسه، مبينة مكانها، وكأن صاحبه فضح نفسه من حيث ظن سترها.

وإن الكاتم أيضًا تاجر له تجارة هي الحق، فهو يتاجر بالكتاب، يتاجر بالحق، يبيع الحق، والحقُّ لا يباع إلا بالباطل، إنها عملية معقَّدة متألِّفة من عدة عناصر، يُمكن إبرازها على النحو التالي:



1- المبيع:

إنه ليس ملكًا للبائع، ولم يبذل جهدًا في إنتاجه وصناعته، إنه ﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾، وما أنزل الله، تخرجه عن أي جهد بشري مهما كان، ومجال عمل وإنتاج البشر هو ما كان على الأرض، أما أن يبيع الإنسان للناس المطر، فلا يمكن؛ لأنه لا يتحكم فيه، ولا يعرف أماكن نزوله، ولا مقاديره، وكذلك الإنسان مع ما أنزل الله، فهو لا يعلم مقاديره، ولا يُحيط به، فكيف يَحتكِره، ويجعله تجارة؟ إن الله وحده من يُنزِّل الغيث، وكذلك هو وحده من يَعلَم ﴿ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124]؛ ولذلك أي جراءة هذه تجعل الإنسان يتطاول على ما لا يملك ليَبيعه، ويأكل ثمنه؟! إنه الظلم والإجرام، والتحدي وتجاوز الحدود!
ولا يقتصر الأمر على هذا، فالمُنزَّل ليس أي مُنزَّل، إنه بعد صفة الإنزال "كتاب"، والكتب لا تصلح للاحتكار، الكتاب يرافق الشيوع والانتشار إذا كان مؤلفه من جنس الآدميين في الغالب، فكيف وهو منزَّل من السماء من علام الغيوب، إنه كالمطر شيوعًا وتفرقًا، واختلافًا في مقدار الأخذ منه، فالناس فيه كالأجاديب والسباخ، وفيها الأرض الطيبة التي تُخرِج نباتها بإذن ربها، فيسقي الناس منها ويزرعون، وكذلك الكتاب المنزل، فكيف يمكن لإنسان أن يَجحده، ويكتمه، ويَحتكره؟ وكيف له أن تَصِل به الحقارة، والمُجاهَرة بالجرم، والافتضاح أن يتقدم إلى الناس به كبائع؟!

2- الثمن: مُنتهى السوء والخزي أن تُرتكَب الجريمة النكراء من أجل غرض تافِه، فكلما عظُمت الجريمة، وكان دافعها حقيرًا تافهًا قليلاً، دل ذلك على حقارة مرتكبها وسفاهتِه، إن هؤلاء الباعة، المتخصِّصين في بَيع ما أنزل الله من الكتاب، من أسوأ الناس وأشر الناس، وأخسرِهم صفقة، وأفسدهم بيعًا، إنهم ناس ساقِطون، ذوو هِمم ساقطة واطئة متدنية، فهم لما أرادوا بيع أثمن شيء، باعوه بأتفه شيء، بثمن قليل كقِلَّة عقولهم، وقليل كقلة حيائهم، وقليل كالخير في نفوسهم، إنه ثمن عقولهم السفيهة، وأفكارهم الدنيئة، وهممهم الواطئة، وليس في الحقيقة ثمنًا لما باعُوه وتخلوا عنه في أخسر صفقة، وأسفه وأفسد بَيع.

3- المشتري: وفي هذه الصفقة السمجة القذرة الدنيئة، يترفع أي إنسان أن يكون طرفَها الثاني؛ لذلك لم تذكر الجهة الثانية جهة المشتري، وكأن المشتري يتبرأ، ويقول: ما اشتريت آيات الله بثمن قليل، لست أنا من يعطي القليل مقابل ما أنزل الله من الكتاب، وهذا التنكير يتناسب مع طبيعة المجهولية في صفقات البائعين دينَهم بدنيا غيرهم، إنهم في الحقيقة لا يَبيعون لأحد، وإنما يبيعون لأوهام، إنهم كالمُرائي يتبرأ منه من كان يرائي من أجلهم، وكعابد الصنم الأصمِّ الذي لا يسمع ولا يُبصِر ولا يُغني عنه شيئًا، ولا يشفع له عند الله، بل لا يعلم به أصلاً، وأي سفه وصلف وحماقة أن يُقدِّم الإنسان خدماته ويتفانى في خدمة من لا يعطيه حق الإحساس به، بل يتبرأ منه أشد التبرُّؤ ﴿ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [الأنعام: 94]، وكذلك من يبيع دينه بعرض من الدنيا لا يتجاوز لُعاعة، فهو لا يَبيع لأحد، ولا يشتري منه أحد، ولا يحصل على شرف تقديم خدمة (ولو كانت سيئة) لأحد، إنه يَخسَر البيعة مع الله، ويخسَر الصِّلة بالله، دون أن يجد مُقابِلاً.
إن من يعبدون الأصنام، أو يُستضعَفون من طرف أكابر عبَدة الأوثان - أحسنُ حالاً منه، إن أولئك يجدون يوم القيامة من يحاورهم ويُحدِّثهم، ويتبادل معهم الشتائم والاتهامات، فيتَّهم الضعفاء الذين استكبروا، ويرد الذين كفروا التهمةَ، رغم أن النتيجة النهائية والمحصلة الأخيرة هي أنه ﴿ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴾ [الزخرف: 39]، إلا أن بائع دينه بعرض من الدنيا، لم يذكر الله من باعه دينه وعِلمه، إنه يأخذ لُعاعة دنيا من غير شخص، ولن يجد من يُحاوره، ولا من يتبادل التُّهم معه في عذاب الحميم، والعياذ بالله.وأمام هذا المشهد المُفاجئ، الذي يجد فيه البائع عِلمَه نفسَه غير متعامل مع الله، ولا مع الناس، لا يجد الشكر من الناس ولا من الله، وأمام سلاسل الفضائح التي مُني بها، يحق لنا أن نبحث عن حقيقة الثمن الموصوف بأنه قليل، عن حقيقته، وبيان ما هيته، بعيدًا عما تَصوَّره هذا السفيه البائع، وكذا عن جزاء هذه الصفقة الخاسِرة الفاسدة.

أ- حقيقة الثمن:

إن هذا الثمن في ظاهره خسارةٌ محضَة؛ لأنه بيع ما لا يُمكن تعويضه، ويغني عن غيره، ولا يغني عنه غيره، بثمن قليل، من بائع مجهول لا يجد الإنسان عنده منة تخفيض الثمن!
ولكنه في حقيقته أسوأ من ظاهرِه، نعم هو أسوأ؛ إن هذا البائع إنما باع عِلمه بثمن قليل من أجل بطنه، من أجل شهوة حيوانية من أتفه الشهوات وأحقرها وأبعدها عن النُّبل والشرف؛ لأنها مما لا يتميز فيه الإنسان عن البهيمة العَجماء؛ لذلك فهذا البائع يُعبَّر له عن خسارة صفقته، وتفاهة قصده، وسوء ما حصل بأنه يأكل النار في بطنه، نعم إنها النار حقيقة لا مجازًا، إنها النار من كل وجه، إنها النار؛ لأنه كاذب سارِق مُعتدٍ، وإنها النار؛ لأن بقية الفِطرة في النفس لن تتركه يَرتاح، وقد باع أقدس شيء بأتفهِ شيء، وإنها النار؛ لأنه كاتم، والكاتم سارق مُفتضَح ينتظر أن يقوم الناس عليه في أي لحظة؛ لذلك فلن يرتاح له بال ولن تطمئن له نفس، وإنها النار؛ لأنه ينتظر نار جهنم وساءت مصيرًا.ب- جزاء الصفقة: تلك حقيقة الصفقة غير مُلبسة بشيء، حقيقتها الواضحة الجلية، حقيقتها كما تكون الحقائق لا كما تكون الأوهام والتصورات التي تُخالفها تصديقاتها، أما عن جزاء الصفقة، فالعياذ بالله، فقد تقدَّم منه ما يكفي: خزي الدنيا، وعذاب الضمير، والنار المتأجِّجة في البطن، ولكن ذلك ليس كل جزاء البائع علمَه بعرَض زائل، إنهم ينتظرون أن:



1- لا يكلمهم الله:

وكيف يكلِّم الله من أتمَّ عليه نعمته بالعلم، فأتمَّ هو الكفران بالكَتم؟ وكيف يكلم الله من أمرَه بالتبليغ، فاشتغل بالبَيع؟ وكيف يكلم الله من يربأ بنفسه عن اتباع الأنبياء وهم يتواتَرون على القول: ﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ [الشعراء: 109]، فيَبتدع هو طريقًا غير طريق الأنبياء صفوة الله من خلقه، فيقول: أنا أسأل عليه الأجر، وآكُل به، إن تكليم الله التشريفي خاصٌّ بصفوة خلقِه، وبائعو عِلمهم بعرض من الدنيا قليل قد تنكَّبوا تلك الطريق وابتغَوا بها غيرها، وتكليم الله التوبيخي للمُكذِّبين خاص بأكابر المُجرمين، وبائعو دينهم بعرَض من الدنيا من أتفه المُجرمين وأقلهم شأنًا، وأسوئهم حالاً، فالله تعالى لا يكلمهم؛ لا يكلمهم كلام تكريم، وأنَّى لهم التكريم، وقد ارتكبوا أسوأ الجرائم، وقابلوا المنعم بأسوأ الكُفران؟ ولا يكلمهم كلام توبيخ؛ لأنهم أقل شأنًا من أن يُخاطبهم المَلِك الديان، وجريمتهم أسوأ وأحقر من أن تستحق تعليقًا، أو لا يُعطيهم الفرصة ليتكلموا فيُبيِّنوا حُجتهم ويقولوا دعواهم، وفي المحصلة النهائية فإن كلام التشريف محجوب ممنوع عنهم، وإن جاز كلام التوبيخ، رغم أن ظاهر اللفظ يمنعهما، والفرصة لن تعطى لهم، فلا يؤذن لهم ليعتذروا... و:



2- لا يُزكيهم:

فلا يَقبل منهم عملاً، ولا يرفع لهم حسنة، ولا يتقبَّل منهم خيرًا؛ وإنما يتقبَّل الله من المتقين، وقد جانفوا التقوى، وضلُّوا السبيل؛ فعُوقِبوا بمَحقِ أعمالهم، وردِّها عليهم، فالله لا يقبل الإيمان الجزئي الذي يتخيَّر صاحبه ما شاء فيؤمن به، ويكفر بما شاء، فمن أراد أن يتخذ بين ذلك سبيلاً، فأولئك هم الكافرون حقًّا، والذي يعطي العلم في مُقابل عرض قليل تافهٍ فانٍ - خاسرٌ بائس؛ لا يُقبل منه عمل، ولا يُقدم تقديم المزكَّى، ومن لم يزكه الله لن يزكوَ أبدًا، ولا يطهر من رِجز أعماله وسوء تصرفاته، ومن ذا الذي يُطهِّر مَن أركسَه الله؟ فالله أعطاه آياته، ولكنه انسلخ منها فأتْبَعه الشيطان فكان من الغاوين، ولو لم يَخلُد إلى الأرض ومطامعها ومطامِحها وطينتها وحمأتها ووطائتها، ويُتعب هواه في كل فجٍّ، ويَسلك به أية مسلك، لما كان ملعونًا مطرودًا من الله واللاعنين، ولما كان كالكلب بل أحقر وأضل سبيلاً، فحق بذلك أن يُحرَم زكاة الله وتطهيره، وتزكية الله ورفعة مقامه، ورحمة الله ومغفرته... و:

3- لهم عذاب أليم:

أي عذاب بعد ما تقدَّم؟ إنه ما لا عين رأت، ولا أذن سَمِعت، ولا خطر على قلب بشر، إن هذا الصِّنف من الناس تلاحقهم اللعنات، وتَجفوهم الرحمات، وتغشاهم الذلة والكآبة والحزن والقَتَرة أنى كانوا، فهم في الدنيا في أشدِّ الخزي والعار، وأمام أنفسهم أخسأ من الكلاب، وأمام الناس أقل قيمة من أن يَقبل أحد بأن يكون طرفًا معهم في بيعة الخاسرين، وأمام الله لا يكلمهم يوم القيامة ذلك اليوم الذي يَحتاجون فيه إلى أن يؤذَن لهم فيعتذرون، فهم لا ينطقون، ولا يُخاطَبون، ولا يُسأل عن ذنوبهم المُجرمون، ولا يطهَّرون من رجزهم وغيِّهم، وكيف يُطهَّر من دنَّس نفسَه بنفسه، من أطفأ المشعل الذي أعطيه، والنور الذي وُهِبه؟ وبعد كل ذلك لهم عذاب أليم، والآلام هنا غير محدَّدة، وغير محدودة، فلا يُعرَف مدى جانبها النفسي، المكمل لما سبق من آلام نفسية، ولا يُعرَف أيضًا مدى جانبها المادي الجديد الذي لا تُعرَف له حدود ولا أبعاد، والله الواقي.


الحقيقة النهائية:

إن حقيقة هؤلاء الساقطين السافلين الخاسِرين تحتاج إلى بيان وتلخيص، تحتاج إلى رجوع إلى ما مضى، وبيانٍ أوضح لحقيقة الجرم، وتعبير مُغاير لما تقدَّم؛ حتى يتضح لكل ذي نفس سوية أنهم لم يُظلَموا، وأنهم لم يُجنَ عليهم، ولم يُعاقَبوا بأكثر من فعلهم، ولم يؤخَذوا بأكبر من جريرتهم، إن حقيقة ما ارتكبوا هي:

1- اشتِراء الضلالة بالهدى: وأيُّ سفه وأي خسران فوق هذا؟ وأي بَيع أفسد من هذا البيع؟ وأي صفقة أتعَس وأشأم مِن صفقةِ مَن باع الضلالة بالهدى، والعَمى بالبصيرة، والظلام بالنور، والشر بالخير، والنار بالجنة؟! إنه الخُسران، والخُسران المبين.

2- اشتراء العذاب بالمَغفِرة: وهو كسابقه، زهدٌ في رفيع، واختيار وضيع، بَيع لآجِل بعاجل، وللذي هو أدنى بالذي هو خير، وعلى نفسها جنَت براقِش، فمن حصَّل العِلم بعد الإيمان فباعهما بمتاع قليل وكتَم ما تُثبِت البراهين أنه عنده، وقلَب الصِّفة، وغيَّر الكَلِم، وكتب الكتاب بيدَيه، ونسَبه إلى خالقه، ولوى لسانه بكلامه ليُحسَب من الكتاب وما هو من الكتاب، وقال: هو من عند الله، وما هو من عند الله، وقال على الله الكذب وهو يعلم، من كان كذلك، فقد اشترى فعلاً العذابَ بالمَغفِرة، والنِّقمةَ بالنِّعمة، والجنة بالنار.

3- تهكُّم يليق بالسخفاء: ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ [البقرة: 175]، إن من يقدم على الصفقة يعلم نتيجتها، يعلم مكامِن الربح وأماكن الخسارة، يَفرض على أطراف الصفقة وعلى المشاهدين المتفرِّجين ألا يرحموه، وألا يَقبلوا منه صرفًا ولا عدلاً، إنه يختار بنفسه، وبكامل وعيِه، وتمام إرادته - ما يعلم أنه مُهلِكه ومخزيه، يختار الخسارة عمدًا، ويرغب في الشر عالِمًا أنه الشر، ويختار النار على الجنة، وله عينان ولسان وشَفتان، إنه إذًا صبور قادر على الصبر على حرِّ النار، وعلى عذاب النار، وكيف لا وقد اختارَها عن وعي، واتَّجه إليها مع كامل الإرادة؟ إن تصرُّفه مُثير للتعجُّب، داعٍ للغرابة، ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾! إنهم قادِرون على تحمُّلها وعلى الولوج فيها اختيارًا حين يَهابُها الآخَرون، حتى في الضرورة وخارج الطاقة، فيسألون: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، أما هؤلاء، فيَلِجون النار بعيون مفتوحة، فما أصبرهم على النار!إنه أسلوب تهكُّمي يَليق بمن بلغ به علمُه أن عرَف حقيقة النار، وخطورة النار، وشدَّة النار، وسرمدية عذاب النار، إنه تهكُّم يليق به، وأسلوب كافٍ لتنبيهه إن كان ما زال متردِّدًا في قراره، أما إن كان قد جزم وحزَم أمتعته، فليذهب إلى الجحيم، وليَذُق العذاب الأليم، وليُسدل الستار عليه غير مأسوف عليه، ولا مُستعتب.

الحقائق المغيبة:



وبعد ما يوارى من اختار النار اختياره، ويُترَك ومصيره ويَسقُط في الحفر الذي صنعت يداه، والشراك الذي نصبت إرادته، تتَّجه الآيات بهذا التعليق إلى أولي الأبصار، وذوي الضمائر، ومن تنفعهم الذكرى وتؤثِّر فيهم الموعظة، وكأن السابقين قد تُوُدِّعَ منهم إلى الأبد، فتؤكد الحقائق التالية:
1- الكتاب منزل بالحق:
فهو كتاب إذًا، ومُنزِّلُه ربُّ المشرقين ورب المغربين، ورب الكون والثقلين، ولم يُنزِّله بغير الحق، والحق مناقِض للباطل، مُباين للعبَث، مرادف للجد والصدق والخير، وبيعُ الأدنى بالأعلى باطل وشرٌّ وعبث وحمق وكذب ومَيْن، فمن اختار ذاك الباطل، فقد حاد عن هذا الحق، وخرج عن غرض الكتاب من إحقاق الحق، وعن حقيقة الكتاب الحق، وما نزل به الكتاب، وهو الحق، والكتاب الكتاب والحق الحق، فأي كتاب كان (توراةً، إنجيلاً، زبورًا، فرقانًا...)، فهو الحق، وأي تحريف فيه أو استبدال أو تغيير أو بيع، أو مرابحة، أو كراء، أو أي تصرف تجاري مهما كان يخرج عن إطار الحق، فهو منافٍ للحق الذي في الكتاب، فلا يجوز أن يتقرَّب منه، ولا أن يقع فيه العاقل العارف بالكتاب، وحقيقة الكتاب.


2- المختلفون فيه في شقاق:

والكتاب جاء موحِّدًا جامعًا، لا مُفرِّقًا مُشتِّتًا، جاء من الواحد ليوحِّد الناس على كلمة سواء، وتعدُّد لا يُبيح الاختلاف؛ إذ الكتب تعدَّدت، وظل بعضُها مُصدقًا لبعض، وظل طابع الحق عامًّا عليها لا تَحيد عنه ولا تَنحرِف؛ لذلك على الناس بتعدُّدهم أن يكون الجامع الموحِّد لهم، والمُلمُّ لشَتاتهم هو الحقَّ، وإذا كان الاختلاف، فإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد، إنهم يُشاقُّون أنفسهم، يُناقِضون ضَمائرهم، يُحارِبون فِطرتهم، يَخرجون عن نسق الكون الذي يعيشون فيه، وعن نسق الكتب التي أُنزلت إليهم، وعن نسق الخير الذي طُلب منهم، إنهم في شقاق مع ذواتهم قبل غيرهم، وأي مُبرِّر لمُشاقة الإنسان نفسَه، ومحاربته ذاتَه؟! إنه الشقاق البعيد، والحمق الأكيد، الذي لا معنى له ولا مبرر.


وبهذه الجولة السريعة مع هذه الآيات الكريمة، يتضح مستوى خسارة البيع وفساده، حين يكون بيع الدنيا بالدين، وبيع الباطل بالحق، وبيع الذي هو أدنى بالذي هو خير...