تذكرتُ يومًا من سنوات الدراسة بالمتوسطة أنَّ أحد الطلبة المميزين - وكان الدرس في اللغة العربية مادة التعبير - قد أُعجِبَ الأستاذ بتعبيره، فبدأ بمدحه بين طلبة القسم وأخذ يباهي بما كتب كقدوةٍ لغيره بين أقرانه، ثم سأل الطلاب عن رأيهم فيما كتب، فأخذ الطلبة يثنون على ذلك التعبير الشائق والجذاب، إلى هنا بدا الأمر عاديًّا.
ثم تبدأ الحكاية، والغريب والمثير للعجب بالنسبة لمن حضر الدرس أن الطالب رفع يده ليدليَ برأيه فيما خطَّت يده، فلم يعطِهِ الأستاذ فرصة ليعبر عما بداخله أو يبديَ رأيه فيما كتبت يمينه، فأخذته نظرة من حوله بالغرابة فيما يريد أن يقول عن نفسه، أما الأستاذ فضحك ضحكًا ساخرًا من فعل الطالب، وأشار له بيده أنِ اقْعُدْ فلا يجوز لك أن تمدح نفسك، ومع ذلك أصرَّ الطالب أن يتكلم ليدافع عن نفسه ويبين وجهة نظره، وأصر الأستاذ على غير ذلك، فصُدِم المسكين بمنعه والسخرية والضحك منه، ومن ردود فعل الطلبة من حوله: لماذا فعلت ذلك؟ وماذا كنت تريد أن تقول؟
وقبل أن أُتمَّ القصة أتساءل: لماذا لم يُعطَ الطالب فرصة للكلام؟ أليس من حقه ذلك؟ ومن قال للأستاذ أن الطالب يريد مدح نفسه؟ ثم هل من حقه السخرية منه؟ ألم يعلم أنه حطم فيه شجاعته الأدبية؟ أليس يدري أنه قتل فيه حب المشاركة والاجتهاد؟ ألم يتعلم قراءة نفسية الطلبة ومعاملتهم حسب ظروفهم وحالاتهم؟ مع الأسف هذا واقع عشناه في فترة من الزمن ومرحلة من مراحل التعليم، لست أدري هل تغير ذلك أم لا؟
نعود لصاحبنا، وبعد تمام الحصة التقى الطالب بزملائه، فشرح لهم سبب إلحاحه للمشاركة فقال: "وددت لو أنه ترك لي فرصة لقلت: إن كنتُ تفوقتُ اليوم فيما كتبتُ، فالفرص قادمة لغيري ليُحسَن ويكتبَ خيرًا مني؛ فالعطاء غير محدود، والكل بمقدوره ذلك إذا جدَّ واجتهد، كانت هذه نيتي وما كنت أود أن أقوله والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
هذا معنى ما قاله الطالب ذو الخمسة عشر ربيعًا، لها وقع في النفوس الزكية النبيلة لمن يريد تربية جيلٍ يحمل المشعل من بعده ليضيء له الطريق ولغيره، طُويت صفحة ذلك اليوم بحُلوِها ومُرِّها، ومنذ ذلك الحين تبدلت نظرة الطالب لمن حوله وساءت دراسته؛ فضعفت معدلاته الدراسية، وكانت تلك الحادثة من الأسباب التي أفقدته كثيرًا من الطموح وروح الاجتهاد والتفاؤل.
عصفت به تلك الضحكات الساخرة والاستهزاء بمُقدَّراته الكامنة بداخله، ولولا لطف الله به لانحرفت به الحياة، وانجرفت به الأقدام إلى المساوئ، فكم من كلمة سيئة حفرت في صاحبها فقتلته غمًّا وكمدًا! وكم من كلمة طيبة رفعت صاحبها فازداد تألقًا ورفعة! فرفقًا أيها المربي بمن تربي، واعلم أنك راعٍ ومسؤول عمن ترعى؛ فاغرس الخير تجْنِهِ حمدًا وشكرًا.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/social/0/137595/#ixzz67gqNiWpN