2-2-1- بيان قول أحمد في حل السحر بالسحر
نُسب إلى أحمد التوقف في حل السحر بالسحر، ونُسب إلى مذهبه الجواز والمنع، وقد وصلتنا نقول كثيرة عن أحمد في حل السحر، نجمعها في هذا الموضع ونستخرج مذهب أحمد منها:
2-2-1-1- النقول عن أحمد في حَلِّ السحر
قال أحمد في رواية مهنا: "في الرجل تأتيه المرأة المسحورة فيطلق عنها السحر، قال: لا بأس وحدثنا إسماعيل بن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة قال: سألت سعيد بن المسيب عن المرأة تأتي الرجل فيطلق عنها السِّحر، فقال: لا بأس.
فقلت لأحمد: أحدث بهذا عنك؟ قال: نعم"([1]).
قال ابن مفلح: "قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل يزعم أنه يحل السِّحر، فقال: قد رخص فيه بعض النَّاس. قيل لأبي عبد الله: إنه يجعل الطِّنجير ماء، ويغيب فيه، ويعمل كذا، فنفض يده كالمنكر، وقال: ما أدري ما هذا؟ قيل له: فترى أن يؤتى مثل هذا يحل السحر؟ فقال: ما أدري ما هذا؟"([2]).
وقد نقلها ابن عبد البر مسندة لكنها مختصرة قال: "قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يسأل عن رجل يزعم أنه يحل السِّحر يؤتى بالمسحور فيحل عنه، فقال: قد رخص فيه بعض النَّاس وما أدري ما هذا"([3]).
ونقل ابن مفلح مختصر كذلك وتمامه ما نقله ابن حامد قال: "الأثرم: قلت لأبي عبد الله: يأتي رجل يزعم أنه يحل السحر ثوبا؟ فقال: قد رخص فيه بعض الناس. قيل له جعل في طنجير ثم يغيب فيه ويعمل كذا وكذا؟ فنفض يده كالمنكر وقال: ما أدري ما هذا. قيل له ثوبا مثل هذا؟ قال: ما أدري"([4]).
2-2-1-2- نسبة التوقف إلى أحمد في حل السحر بالسحر
ذكرها ابن قدامة وارتضاها كثيرون بعده، وكان اعتماده على رواية الأثرم، قال ابن قدامة: "...فهذا وأمثاله، مثل أن يعقد الرجل المتزوج، فلا يطيق وطء زوجته، هو السِّحر المختلف في حكم صاحبه، فأما الذي يعزم على المصروع ويزعم أنه يجمع الجن، ويأمرها فتطيعه، فهذا لا يدخل في هذا الحكم ظاهرا، وذكره القاضي، وأبو الخطاب في جملة السَّحرة، وأما من يحل السحر، فإن كان بشيء من القرآن، أو شيء من الذكر والإقسام والكلام الذي لا بأس به، فلا بأس به، وإن كان بشيء من السحر، فقد توقف أحمد عنه، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل يزعم أنه يحل السحر، فقال: قد رخص فيه بعض النَّاس. قيل لأبي عبد الله: إنه يجعل الطِّنجير ماء، ويغيب فيه، ويعمل كذا، فنفض يده كالمنكر، وقال: ما أدري ما هذا؟ قيل له: فترى أن يؤتى مثل هذا يحل السحر؟ فقال: ما أدري ما هذا؟"([5]).
ثم أتبع ذلك بنقل لكلام ابن سيرين وفيه المنع، ثم بكلام ابن المسيب وفيه الجواز.
ثم قال: "فهذا من قولهم يدل على أن المعزم ونحوه لم يدخلوا في حكم السَّحرة ولأنهم لا يسمون به، وهو مما ينفع ولا يضر"([6]).
استخرج ابن قدامة من هذه الروايات أن المسؤول عنه هو المعزم وليس الساحر، وأن حكم المعزمين يختلف عن حكم السحرة.
قلت: كلام ابن قدامة في الجملة مضطرب، فقد أخرج المعزم من السحرة وأشركه في العلم بالسحر والحل به، ثم إنه من جهة أخرى لم يضع حدا فاصلا بين الساحر والمعزم ولذلك اعترض عليه ابن تيمية إخراجه أعمال المعزمين من السحر قال: "فإن مسمى السحر ليس هو من الأمور العامة التي يعتادها الناس، التي ترجع في حد الاسم إلى العرف -كما رُجع إلى العرف في حد القبض والتصرف والبيع ونحو ذلك-؛ إذ أكثر الناس لا يعرفون أكثر أنواع السحر، بل قد يسمّونها بأسماء تقتضي المدح والثناء لأصحابها مع ذمهم للسحر؛ تارة يسمّون ذلك: سيمياء، وتارة: روحانيات، وتارة: استخدام الأرواح العلوية والسفلية، ويقولون: عطف ومحبة وتهييج ونحو ذلك، كالتفريق بين المرء وزوجه، وذلك من السحر بنص القرآن ... وكثير من الناس يُظهر ذلك في صورة الكرامات التي تكون لأهل الإيمان والتقوى، ويُظَن بأصحابها الصلاح الذي يُظَن بأولياء الله المتقين، ولا يميّز هؤلاء ما للسحرة ولأولياء الله. بل منهم من يشتبه ذلك عليه بمعجزات الأنبياء... فكيف يرجع إلى عرف العادة في مسمى السحر ومعناه، وكثيرٌ من الخائضين في العلم لا يعرفون كثيرًا من ذلك؟!"([7]).
ومما يعترض عليه كذلك أن رواية الأثرم لا تدل على التوقف في حل السِّحر بالسِّحر، وبيان ذلك فيما يلي:
2-2-1-3- فهم النقول واستخراج قول أحمد منها
قبل البدء في البيان لابد من التنبيه على أنَّ المشهور عن أحمد رواية مهنا ورواية الأثرم التي نقلها ابن قدامة، وأما رواية الأثرم التي نقلها ابن حامد فليست بالمشهورة ولم ينقلها أحد عنه، وعلة هذا البيان هو أن نقل ابن حامد فيه من المعاني الإضافية التي ربما تكون قد خفيت على أصحاب المذهب، فلا يُحتج بها عليهم.

- ليس في هذه النقول ما يدل على أن الحل يكون بالسحر:
* لقد ذُكر في هذه الروايات حل السحر وإطلاق السحر، وحل السحر كما سبق أن بينا كلمة عامة تشمل الحل بالسحر والحل بغيره، ويُفهم ذلك بحسب السياق.
* قال: رجل، ولم ينسبه إلى السِّحر لا في السؤال ولا في الجواب.
* ليس في وصف ما يقوم به الرجل ما يدل على أنه من السِّحر، وأما حكاية الطِّنجير والتغييب فيه فهي حكاية مبتورة غير واضحة المعالم، وبالجمع بين ما نقله ابن قدامة وما نقله ابن حامد عن الأثرم فإن أحمد أجاب عن حل السحر بحل الثوب بقوله: قد رخص فيه بعض الناس، وقال ما أدري عن الحل بوضع الماء في طنجير وتغييب شيء فيه، ونفض يده كالمنكر، ثم سُئل عن صفة الثوب الذي يُحل فقال: ما أدري.
* قال: قد رخص فيه بعض النَّاس، وترخيص حل السِّحر بالسِّحر غير منقول عن السلف، بل إن رواية مهنا تبين أن أحمد يقصد إجازة سعيد بن المسيب حل السحر.
- نفْضُ أحمد يده كالمنكر أقرب للمنع منه للتوقف أو الترخيص:
أجاز الإمام أحمد الذهاب عند من يطلق السِّحر كما ورد في رواية مهنا ورواية الأثرم من طريق ابن قدامة، واستدل بترخيص بعض السلف فيها، لكنه عندما ذكر له شيء من صفة الإطلاق استنكر هذه الصفة، فكأنه ردها لعدم وجود أصل لها، ولمشابهتها أفعال السَّحرة والمشعوذين.
لكنه عند ابن حامد أجاز صفةً وهي حل الثوب، ولم يدر صفة الثوب، وأنكر صفةً وهي الحل بالطنجير.
وهذا كله على فرض أن قول أحمد: قد رخص فيه بعض السلف، يدل على ترخيص أحمد له، فإن في المذهب خلافا في دلالته على الجواز.
- أن الفتوى بجواز حل السحر بالسحر تتناقض مع مذهب أحمد في السحر والتعزيم والرقية:
* أن مذهب أحمد في السحرة شديد فهو يرى كفر الساحر ووجوب قتله دون استتابة في الصحيح المنقول عنه.
* أن أحمد منع النُّشرة فكيف يجيز الحل بالسِّحر؟!
قال ابن مفلح: "قال جعفر([8]) سمعت أبا عبد الله سئل عن النشرة فقال: ابن مسعود يكره هذا كله"([9]).
والمشهور في مذهبه أنه إذا أجاب بقول صحابي فهو مذهبه([10]).
* أن أحمد منع العلاج عند المعزمين فكيف يجيزه عند السحرة؟!:
جاء في رواية الفرج بن الصباح([11]) عنه: "في الرجل يزعم أنه يعالج المجنون من الصرع بالرقى والعزائم، ويزعم أنه يخاطب الجن ويكلمهم، ومنهم من يخدمه ويحدثه: ما أحب لأحد أن يفعله، وتركه أحب إليّ"([12]).
فإذا منع العلاج عند المعزم وهو يستعين بالجن، فكيف يجيز الذهاب إلى الساحر لحل السحر وهو يستعين بالشياطين.
* أن مذهب أحمد في الرقية الاقتصار على القرآن في الرقى والمعلقات:
فكيف يُنسب إليه إجازة الرقى بغير القرآن –على اعتبار أن السحر نوع من الرقى الممنوعة-؟! وكيف يجيز من هذا مذهبه العلاج بالسحر الذي فيه شرك أو محرم أو ما لا يُعرف –على اعتبار أن السحر ليس نوعا من الرقى-؟!.
قال ابن تيمية: "واتفقوا كلهم على أن كل رُقية وتعزيم أو قَسَم فيه شرك فإنه لا يجوز التكلم به، وإن أطاعته به الجن أو غيرهم. وكذلك كل كلام فيه كفر فإنه لا يجوز التكلم به، وإن كان فيه نوع عوض للقائل. وكذلك الكلام الذي لا يُعرف معناه لا يُتكلم به؛ لإمكان أن يكون فيه شرك لا يعرف، ولهذا قال النبي ﷺ: «لا بأس بالرُقى ما لم يكن شركًا»"([13]).
فأي سحر هذا الذي يكون أثره نفعا خالصا، ولا يتم بشيء من الشرك أو الطلاسم والأقوال المبهمة؟!.

وعلى هذا فإن هذه الروايات تدل على إجازة أحمد حل السِّحر حلا حقيقيا أو بضرب من العلاج:
قال الذهبي: "ونص أحمد في رواية مهنا أنه يجوز إطلاق السِّحر على المسحور بضرب من العلاج، وإنما جاز حل السِّحر لأن النبي ﷺ لما سُحِر أخرج وحل، لأن تحليله يجري مجرى التداوي"([14]).
وقال ابن تيمية في بيان رواية مهنا: "ولقائل أن يقول: ما كان من السحر فإنه لا يرخّص فيه، وأما حلّه بما ليس بسحر ولا محرم فلا بأس به"([15]).
وإذا صح التحريف في نسبة التوقف إلى أحمد، فإن هذا هو سبب الخلل الذي أدى في النهاية إلى تجويز الحل بالسحر في المذهب، فقد تبع ابن مفلح في الفروع ابن قدامة في الربط بين رواية الأثرم والحل بالسِّحر، وجعل في المذهب وجهين المنع والجواز، فاختار المرداوي الجواز، وتبعه المتأخرون، وسَنُفصِّل ذلك عند ذكر المراحل التي مرَّ بها أصحاب المذهب في حكمهم على حل السحر بالسحر.

والخلاصة: أن أحمد رحمه الله بعيد كل البعد عن الإفتاء بجواز حل السِّحر بالسِّحر، ومن المستغرب جدا والمستشنع أن يُنسب إليه هذا القول، وانظر إلى التناقض الرهيب في مذهب المتأخرين الذي تسبب به هذا القول إذ يقولون: ويحرم طلسم، ورقية بغير العربي ويجوز الحل بسحر ضرورة!!([16])، فيحرمون من الرقى مجهول المعنى مخافة احتوائه على الشرك، ويجيزون الحل بما يعتقدونه مظنَّة للشرك.
وانظر إلى التباعد الرهيب بين المذهب في قولهم: "ويحرم تعلم السحر وتعليمه وفعله.. ويكفر بتعلمه وفعله سواء اعتقد حرمته أو إباحته"([17]) وبين ما اختاره المتأخرون من أن المذهب الجواز([18])، رغم أن النسبة إلى المذهب عند التحقيق ليست سوى ميل المرداوي إليه.


([1]) بدائع الفوائد (4/ 1524).
([2]) المغني لابن قدامة (9/ 32).
([3]) التمهيد لابن عبد البر (6/ 243).
([4]) تهذيب الأجوبة (ص: 158-159) ط عالم الكتب، (2/ 714) ت القايدي.
([5]) المغني لابن قدامة (9/ 32).
([6]) المغني (9/32) شاملة، ومثله في الكافي في فقه الإمام أحمد (4/ 65-66).
([7]) تحريم أقسام المعزمين (ص: 21-22).
([8]) المقصود والله أعلم جعفر بن محمد الصائغ فله مسائل عن أحمد كما ذكر الخلال، وهذه المقولة في شروح كتاب التوحيد وغيرها من الكتب تُنسب إلى نقل أبي داود وهو خطأ بيِّن.
([9]) الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 77).
([10]) الفروع (1/47)، صفة الفتوى لابن حمدان (ص: 97)، المدخل لابن بدران (ص: 133).
([11]) الفرج مجهول، ذكره ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/255) ولم يبين حاله.
([12]) الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء (ص: 308).
([13]) تحريم أقسام المعزمين (ص: 17-18).
([14]) الطب النبوي (ص: 278) ن شاملة.
([15]) تحريم أقسام المعزمين (ص: 27).
([16]) الروض المربع مطبوع مع الحاشية (7/ 414)، منتهى الإرادات (5/175).
([17]) الإقناع (4/307).
([18]) الإقناع (4/ 308).


المصدر: كتاب"حقيقة النشرة وحكم حل السحر بالسحر" (ص: 192-200)