وإنَّ مِنَ النِّسوانِ من هي روضةٌ تهيج الرياضُ دونها وتصوَّح ومنهنَّ غُلٌّ مقفل لا يفكُّه مِنَ النّاس إلا الأحوذي الصَّلنقَحُ
يقول حكيم العرب: إن النساء مختلفات في طباعهن وأمزجتهن وغرائز نفوسهن: فمنهن امرأة حسنة السجايا طيبة الأخلاق، تشبه الروضة فيما اشتملت عليه من خضرة وزهر، وطيب ماء، ورقة هواء. بل إن الرياض الحقيقية ذات الخضرة والنضرة، قد (تهيج) أي يصفر نباتها و(تَتَصوَّح) أي تيبس أو تذبل أوراقها. أما تلك المرأة فهي روضة لا تهيج ولا تتصوَّح، وإنما تبقى ناضرة الخضرة، طيبة الشذا طول حياتها.
هذه واحدة من النساء يا سعادة مجتمعها بها.
ومنهن واحدة أخرى وصفها الشاعر في البيت الثاني بأنها كالغُلّ. وهو القيد المقفل أي المشدود على عنق الرجل أو يديه، يمنعه الحركة ولا يقدر على فكِّه إلا (الأحوذيُّ الصَّلَنقَحُ).
(الأحوذي): الحاذق في السَّوْق، الذي يعرف كيف يسوق الدابة ويحملها على السرعة في السير. فبينا ترى غيره يقطع بها مسافة عشرة أيام تراه هو يقطع بها ثلاثة أيام. وذلك لأنه (صَلَنقح) أي صيَّاح شديد الصوت. (وصلنقح) كلمة غريبة وثقيلة على السمع، غير أنها قد تروج لدى القارئ المنصف مذ يرى المقام يقتضيها، والسياق يواتيها، والقافية تناديها.
ووصف امرأة السوء بالغُلِّ معهود عند العرب، ومنه قولهم: «هي غُلّ قمل، وجرح لا يندمل»، ومعنى (قَمل) أن الغُلَّ أحيانًا يكون من جلد غير مدبوغ ويكون على الأسير الذي يدوم أسره ويطول عهده بالاغتسال فيتسخ بدنه ويعشش القمل في غله ويأخذ يرعى في تجاليده فيؤذيه ويمنعه طيب المنام وهكذا حال امرأة السوء في البيت الذي تعيش فيه.
قد يعترض معترض على البيت الثاني بأن فيه إحالة، ومعنى (الإحالة) في اصطلاح علماء النقد الأدبي أن يكون الكلام معدولًا به عن وجه الصواب؛ وهنا قد شبه الشاعر امرأة السوء بالغل الموثق المحكم الشد. ثم قال: إنَّه لا يفك هذا الغل إلا سائق صيّاح شديد الصوت، ولكن هل من عادة القيود المحكمة الشد أن تفك وتحل عقدها بكثرة الصياح والجلبة؟
ربما كان في هذا الاعتراض شيء من الحق. فماذا كان يجب أن يقال إذن؟
كان ينبغي أن يقال في البيت الثاني هكذا:
ومنهنَّ مُهر شامسُ لا يروضه *** من الناس إلا الأحوذي الصلنقح
فيكون المعنى أن من النساء من تكون كالمهر الشامس (أي الشموس) الذي يكثر شروده ولا يقدر على ترويضه وتليين شكيمته إلا الرجل الذي يعرف كيف يسوسه ويؤدبه بالانتهار ورفع الصوت والصخب عليه.
فتقول: ولكن كلمة (شامس) غير مأنوسة الاستعمال والمعروف (شموس) فماذا يمكن أن يحل محلها من كلمات اللغة؟
أقول يمكن أن يقال في البيت هكذا:
(ومنهن مهر كوسَجٌ لا يروضه. . . الخ).
و(الكوسج) من الخيل: الفرس الذي تريده على السير فلا يسير حتى تضربه.
فيقول القارئ معنى (الكوسج) حسن. ولكن لفظه اشتهر في معنى خفة شعر اللحية فلا أرى استعماله هنا. هات كلمة سواها يا أستاذ فأقول هاكها:
ومنهنَّ مهر خارطٌ لا يروضه. . . الخ.
و(الخارط) الفرس الذي يجذب رسنه من يد ممسكة ثم يفلت شاردًا لا يلوي على شيء.
ومثل (الخارط) الخَرُوط.
ولذلك تسمى المرأة الفاجرة التي جذبت رسَنها من يد أسرتها (خَروط)
يقول القارئ: وكلمة (خارط) أيضا قبيحةُ اللفظ، وكفى (بالخِرط) قُبحًا.
على أن استقباح القارئ لكلمة (خارط) في غير محله، وليس معه حقٌّ فيه: إذ كيف يستثقل كلمة (خارط)، وهذه كلمة (خارطة) بمعنى الأطلس الجغرافي يتلفظ بها كثيرًا، ويسمعها من صبيانه وبناته وهم يدرسون في بيته، ومن سائر التلامذة وأساتذتهم يقولونها عشرات من المرات في اليوم، كلُّ هذا لا تُستثقل معه أيها القارئ الكريم كلمة (خارطة)، وتقوم الآن فتستثقل كلمة (خارط) وتتشاءم بها!!
ومع هذا فدونك كلمة رابعة وهي:
(ومنهنَّ مهرٌ ضاغنٌ لا يروضها الخ).
ومعنى (الضاغن): الفرس الذي لا يعطي كل ما عنده من الجري حتى يُضْربَ، أو هو الفرس الذي إذا مشى كان كأنه يرجع القهقرى، ويمشي إلى الوراء.
وقبل أن يبادرني القارئ بالتأفف من كلمة (ضاغن)، أذكره بالأسرة اللغوية التي تنتمي إليها كلمة (ضاغن)، ولو لفظًا:
فإن تلك الأسرة وجميع سلالتها مقيمة بيننا محبَّبة إلينا، شائعة على ألستنا:
فالضغن: أم الأسرة، ومن نسلها (الأضغان)، و(الضغينة)، و(الضغائن)، و(تضاغن) القوم، و(اضطغن) فلان على فلان.
فهل بعد هذا يصحُّ للقارئ أن يتجهم لكلمة (ضاغن) ويدَّعي غرابتها. ويطلب أن يستبدل بها سواها؟


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/literature_la...#ixzz67WrDHGCt