كان يلعب الورق..!



منى محمد العمد


جلستْ إلى آلة الخياطة كعادتها كلما فرغت من أعمال المنزل؛ إذ لا وقت لديها للراحة؛ فلديها أربعة أولاد عليها أن تعولهم بعد استشهاد والدهم وهو يقاوم العدو في إحدى عمليات التوغل التي كانوا يقومون بها داخل مدينتهم؛ فيقتلون ويأسرون ويزرعون الذعر في قلوب الأطفال ويسرقون الأمن من قلوبهم ومن دروبهم.
دخل حسام ابنها البكر، وقال متذمراً: كلما دخلت وجدتك تجلسين إلى هذه الآلة، ألا تكفِّين عن الخياطة؟ ألا تملِّين؟ قالت وهي تحاول إخفاء ما بيدها عنه: وكيف أملُّ منها وقد جعلها الله مصدر رزقنا بعد وفاة أبيك.
- دعيني أرى ماذا تخيطين اليوم؟ قالت: ملابس لبعض الجيران لا يهمك أمرها.
قال: غداً سأعمل وأكفيك المؤونة يا أمي!
قالت في حزم: لن تترك الدراسة. ثم أضافت مستعطفة: إن كنت تريد بِرّاً بوالدتك فاترك هذه الصحبة التي تعرفت عليها مؤخراً، إنهم لا خير يرتجى منهم؛ فمنذ أن تعرفتَ عليهم وأنت تُكثِر الخروج والسهر، وأطلت شعرك مثلهم، و...
قاطعها قائلاً: من تريدينني أن أصادق يا أمي؟
- أريدك أن تصاحب الصالحين، فتكون شاباً مستقيماً كما كان والدك.
قال وهو ينظر إليها نظرة تكاد تخترق الحجاب إلى قلبها: هذا طريق يؤدي إلى الموت يأمي!
- بل إلى الحياة الأبدية يابني! ثم تساءلت في صمت: تُرى ما هذه النظرة المريبة في عينيه؟
- إنهم يتصيدون الشباب واحداً بعد واحدٍ؛ أفلا يكفُّون عن المقاومة؟
- أيها الأبله! أترى أنهم يتركونهم يعيشون حياتهم باطمئنان إن هم استكانوا؟ ألا ترى ضحايا الذل والاستكانة أكثر من ضحايا الشموخ والإباء؟
- فماذا ينفعني الشموخ والعزة والإباء إن قُتِلت؟
- هذه دماء الشهداء رويت منها السفوح والتلال؛ ولذلك اهتزت ورَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيج وأحيت موات القلوب.
- لكنني أريد أن أعمل وأكسب وأُريحَك من آلة الخياطة هذه، وأعيل إخوتي.
- ما خُلقْنَا لنأكل ونشرب، دَعْ حياة الأنعام للأنعام. أما نحن فبشر لنا قضية؛ نعيش حياتنا الدنيا وعيننا على الحياة الأبدية.
سكت برهة ثم نظر في ساعته، وقال: أماه! دعيني أخرج الآن، إن أصحابي ينتظرونني.
تنهدت في ألم ومَضَت إلى غرفتها وأخذت تتابع عملها، وهي تتمتم بدعوات.
خرجت تسلِّم ما أنجزت خياطته... قالت لها المرأة وهي تسلِّم البدلة التي صنعتها: ما شاء الله! خياطة متقنة وجميلة... تفضلي هذا أجرك.
قالت: أجري هذه المرة سيكون مختلفاً.
قالت لها: اطلبي ما شئت من زيادة ولكن في حدود المعقول يا أم حسام! فأنت تعرفين الإمكانيات.
ضحكت ثم قالت: أجرتي هذه المرة هي شرط أشترِطُه عليكم: ألا تُسلَّم هذه البدلة إلا لبطلٍ مقدام، يلبسها وهـو يقـوم بعملـية جهـادية مشـرِّفة ضـد الصهاينة المجرمين... هذا هو أجري الذي لا أريد أجراً غيره، أريده أن يمضي شيهداً إلى ربه وهو يلبسها؛ لتكون هي شهيدة لي عند ربي.
عادت إلى منزلها وهي تشعر بالراحة. إنها تؤدي جزءاً من واجبها، لكن يقلقها شأن حسام، كانت تربِّيه وتتوسم فيه أن يكون ابن أبيه، لكنه خيَّب ظنها بالتفافه حول صحــبة لا تدري ما هم عليه؛ لكن مظهرهم لا يدل على خير. أخذت تردد: يارب... يا رب...!
انتظرت طويلاً، وكاد الفجر أن يطلع ولم يعد... أين هو الآن؟
ها هي تسـمع صوت الباب. خـرجت إليه مسرعةً، فارتبك وهو يقول: أمي؟ ما زلتِ مستيقظة! تابع وهو يحاول إخفاء ربيطةٍ كانت بيده: ظننتك نائمة.
نظرت إليه في ريبة وقالت: ماذا كنتم تفعلون حتى هذه الساعة؟
أجاب بعد تأتأةٍ وفأفأةٍ: كنا... كنا نلعب الورق يا أمي!
- تلعبون الورق؟ وتابعت في حسرة: لغير هذا أعددتك، اقتربَت منه، مست جبهته وهي تقول في إنكار: ومن يعلب الورق يتعرق هكذا في هذه الليلة الشاتية؟
قال: كفى يا أمي! لقد جئت مسرعاً لعلِّي أستجلب بعض الدفء، هيا يا أماه! أريد أن أنام... إني متعب.
ارتابت في أَمْرِه لكنها تركته يَمضِي لغرفته وانتظرت حتى سكنت حركته وغلب على ظنها أنه قد نام، فدخلت غرفته تمشي على رؤوس أصابعها وبحثت عن الربيطة التي كانت بيده، أخذت تحلُّ عقدتَها ويدُها على قلبها مما ستجده فيها، تُرَى هل ستجد سجائر؟ أم مخدرات؟ أم صوراً مخلة؟ أم...؟ أم...؟
لكن يا لدهشتها حين رأت البدلة التي خاطتها بيدها وسلمتها ذلك الصباح.