صور من احتساب النبي صلى الله عليه وسلم في العقيدة والعبادات
محمد بن عبد الله العبدلي


إن الله- تبارك وتعالى - أرسل رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق؛ ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال والجهل إلى الهدى والعلم، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن الجور والإساءة إلى العدل والإحسان، قال رب العزة والجلال: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[آل عمران: 164]، وقال: (رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)[الطلاق: 11]، هذا وإن المتأمل في سيرته - صلى الله عليه وسلم - العطرة منذ بعثته وحتى وفاته يُدرك أن حياته كلها كانت احتسابا على الناس؛ لإصلاح عقائدهم وعباداتهم وأخلاقهم، فحياته كلها أمر بمعروف ونهي عن منكر، والحديث عن احتسابه - صلى الله عليه وسلم - عبارة عن الحديث عن سيرته وأقواله وأفعاله، وأقواله وأفعاله في ذلك كثيرة لا تحصر في مثل هذا المقال، بل تحتاج إلى مؤلف خاص، ومن أقواله: أمره أمته بإنكار المنكر لكل من رأى منكراً، ومن أفعاله: مبايعة أصحابه الكرام رضوان الله عليهم على قول الحق، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، ومما بايعهم عليه: أن يقولوا الحق لا يخافوا في الله لومة لائم، كما في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -.
وهذه صور من احتسابه - صلى الله عليه وسلم - في العقيدة والعبادات انتقيتها من بطون كتب السنة والسيرة نذكرها بإيجاز - للفائدة والتأسّي والعبرة:
احتساب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر العقيدة:
بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوته كسائر إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بتوحيد العبادة لله - تعالى -ونبذ الشرك، وذاك احتساب منه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى منهم الشرك وعبادة غير الله- تبارك وتعالى - فقال: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا...)[النساء: 36] الآية، وقال رب العزة والجلال مبيناً أن جميع الأنبياء كانت بداية دعوتهم التوحيد: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )[النحل: 36].
ومن صور احتسابه - صلى الله عليه وسلم - في العقيدة: إنكاره على بعض أصحابه الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام وكانوا يجهلون بعض أحكام الشريعة عندما خرجوا إلى غزوة حنين فمروا على شجرة كانت للمشركين يقال لها "ذات أنواط" كانوا يعلقون بها أسلحتهم، فطلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم ذات أنواط كما للمشركين، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم كما في حديث أبي واقد الليثي - رضي الله عنه -: ((سبحان الله، هذا كما قال قوم موسى)) (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)[الأعراف: 138]، ((والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم))[1].
وحضر - صلى الله عليه وسلم - المشركين، وهم يشركون بالله في تلبيتهم، فكان - صلى الله عليه وسلم - يُنكر عليهم، ويقول: ((ويلكم قدٍ قدٍ)) كما في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ويلكم قدٍ قدٍ))، فيقولون: إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت" [2].
وما كان - صلى الله عليه وسلم - يرضى بالغُلُو، ولو في مدحه - عليه الصلاة والسلام -، فعن الربيع بنت معوذ بن عفراء - رضي الله عنها - قالت: جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل حين بني علي فجلس على فراشي كمجلسك مني فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قتل من أبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: ((دعي هذا وقولي بالذي كنت تقولين))[3]، فأنكر عليها ذلك.
ولما أشركه رجلٌ مع الله - تعالى - في اللفظ، وقال: "ما شَاءَ الله وَشِئْتَ"، غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: ((أجعلتني للهَ عَدْلاً، بَلْ ما شَاءَ الله وَحْدَهُ))[4].
وأقبل إليه - صلى الله عليه وسلم - رهط كما في حديث عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله، بايعت تسعة وتركت هذا؟ قال: ((إن عليه تميمة))، فأدخل يده فقطعها، فبايعه، وقال: ((من علق تميمة فقد أشرك))[5].
وسمع - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يحلف بأبيه فأنكر عليه - صلى الله عليه وسلم - لأن الحلف بغير الله شرك، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله))، فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: ((لا تحلفوا بآبائكم))[6].
وغير ذلك من المواقف الاحتسابية في تصحيح التوحيد والنهي عن الشرك ووسائله ودواعيه، فلقد وقف - صلى الله عليه وسلم - في وجوه المشركين يَنهاهم عن الشرك، ويدعوهم إلى التوحيد، وعُذّب في سبيل ذلك، وجُرِحَ وأُدْمِي وخُنق بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -، وأُخرج من بلده مهاجرًا إلى الله - تعالى -وأمضى عمره كله يُصحح العقائد، ويَدعو إلى التوحيد، وينهى عما يُذْهبه أو يذهب كماله.
فعلى أتباعه الاقتباس من هديه وسيرته - صلى الله عليه وسلم - والدفاع عن جناب التوحيد، ومناصحة المبطلين كالقبوريين، وأصحاب التوسلات غير المشروعة، وكل من عمل عملاً يناقض التوحيد، بالحكمة والموعظة الحسنة.
احتساب النبي - صلى الله عليه وسلم - في العبادات:
من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو معلم البشرية، واتبّاعه شرط لقبول الأعمال، فعلّم البشرية التوحيد كما تقدم وحذرهم من الشرك، فكذلك علمهم أمور دينهم وشريعتهم وكيف يعبدون ربهم تبارك وتعالى، فمن أخطأ في العبادات أمامه احتسب عليه وبيّن له وجه الخطأ وصحّح له عبادته.
فمن صور احتسابه - صلى الله عليه وسلم - في العبادات: أنه أبصر رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأنكر عليه وقال له: ((ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ))[7].
واحتسب - صلى الله عليه وسلم - على من لم يسبغ الوضوء، قال عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: "تخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - عنا في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته: ((ويل للأعقاب من النار))، مرتين أو ثلاثا" [8].
وأنكر - صلى الله عليه وسلم - على المسيء في صلاته عدمَ طمأنينته فيها، وأمره بإعادتها فقال له: ((ارجع فصل فإنك لم تصل))، ثلاث مرات، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا علمني، فاعلمه - صلى الله عليه وسلم - [9].
وهمّ - صلى الله عليه وسلم - بالاحتساب على الذين يتخلفون عن صلاة الجماعة كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى منازل قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم))[10].
وأنكر - صلى الله عليه وسلم - على الذين لم يقيموا صفوفهم في الصلاة كما في حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم))[11].
وأنكر على عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - لسرده الصوم وقيامه لليل، وأمره أن يصوم ويفطر ويقوم وينام فقال له: ((فصم وأفطر وقم ونم فإن لعينك عليك حظا وإن لنفسك وأهلك عليك حظا))، فقال عبدالله: إني لأقوى لذلك، قال: ((فصم صيام داود - عليه السلام -))، قال: وكيف؟، قال: ((كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى))، قال: من لي بهذه يا نبي الله؟ قال: عطاء لا أدري كيف ذكر صيام الأبد، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا صام من صام الأبد))[12].
ومن صور احتسابه أنه احتسب على من يغلو في العبادة وأنكر عليهم ذلك؛كما يقول أنس بن مالك - رضي الله عنه -: جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أتي لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني))[13].
فهذه بعض الصور من احتساب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حراسة التوحيد، و تصحيح العبادات نكتفي بها إشارة لما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بأمر الحسبة، ليكون منهجاً واضحاً للمقتدين، ونبراساً للمحتسبين، ليسيروا على نهجه ويغترفوا من بحره، يَسَّر الله لهم ذلك وأعان، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

______________
[1]: رواه الإمام الترمذي برقم (2180)، وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند برقم (21897)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وبرقم (21900)، والطبراني في المعجم الكبير برقم (3290)، وابن حبان في صحيحه برقم (6702)، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح برقم (5408)، وفي صحيح الترمذي.
[2]: رواه مسلم برقم (1185).
[3]: رواه البخاري برقم (4852).
[4]: رواه الإمام أحمد في المسند من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - برقم (1839)، وقال محققوه: صحيح لغيره، والبيهقي في السنن الكبرى برقم (5603)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (139).
[5]: رواه أحمد في المسند برقم (17422)، وقال محققوه: إسناده قوي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (492).
[6]: رواه البخاري برقم (3624)، ومسلم برقم (1646).
[7]: رواه مسلم، من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، برقم (243).
[8]: رواه البخاري برقم (161)، ومسلم برقم (241).
[9]: رواه البخاري برقم (724)، وبرقم (760)، ومسلم برقم (397).
[10]: رواه البخاري برقم (2288).
[11]: رواه البخاري برقم (685)، ومسلم برقم (436).
[12]: رواه البخاري برقم (1878)، ومسلم برقم (1159).
[13]: رواه البخاري برقم (4776)، ومسلم برقم (1401).