الهدي النبوي في الاحتساب(2)
ناصر أحمد العاهمي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ثم أما بعد:
فقد سبق في المقال الأول ذكر بعض أنواع الهدي النبوي في الاحتساب وفي هذا المقال نواصل تعداد بعض الأنواع فمنها:
• تشبيه فعل المنكر بالمنفرات:
ومن الهدي النبوي في الاحتساب أن يشبه المنكر بما ينفر منه السامع ومن ذلك:
1- أن يشبه فعل المنكر بفعل أدى لهلاك الأمم السابقة كبني إسرائيل مثلاً، أو إنكاره عليهم من نبيهم، وهذه بعض الأمثلة:
المثال الأول: ما ورد في حديث أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت يا نبي الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون بسلاحهم بسدرة ويعكفون حولها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم))[1]، فالمنكر هو قولهم: اجعل لنا هذه ذات أنواط والمشبه به هو قول بني إسرائيل: (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ).
المثال الثاني: ما رواه عمرو بن عوف الأنصاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافت صلاة الصبح مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما صلى بهم الفجر انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآهم وقال: ((أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء))، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: (فأبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم))[2] فشبه تنافسهم على الدنيا بتنافس من كان قبلهم الذي أدى بهم إلى الهلاك
المثال الثالث: حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رجلا قرأ آية وسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ خلافها فجئت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فعرفت في وجهه الكراهية وقال: ((كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا))[3].
فشبه اختلاف الصحابيين في الكتاب باختلاف السابقين الذي كان نتيجته هلاكهم وهو تحذير مما صنعوا لئلا يصيب المحذرَين ما أصاب السابقين.
المثال الرابع: ما ورد في حديث عائشة - رضي الله عنها -: أن أسامة كلم النبي - صلى الله عليه وسلم - في امرأة فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا يقيمون الحد على الوضيع ويتركون على الشريف والذي نفسي بيده لو فاطمة فعلت ذلك لقطعت يدها))[4] ووجه الدلالة هو تشبيه ترك إقامة الحد على المخزومية بتركه عن الشريف ممن سبق فأدى إلى هلاكهم وكذلك هؤلاء فسبب الهلاك واحد.
المثال الخامس: ما ورد في حديث أبي هريرة: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم))[5].
2- تشبيه المنكر بفعل بعض الحيوانات:
فقد ورد النهي عن أفعال في الصلاة التي هي عمود الإسلام بالتشبيه بالحيوانات ولاشك أن من يسمع أن فعله يشبه فعل الحيوان فإنه يكون وقع ذلك على نفسه شديداً فيؤدي إلى نفوره عن ما يجمعه بالحيوان من وصف وقد ورد في السنة من ذلك:
1- بروك البعير واستيطانه في مكان واحد كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سجد أحدكم فليضع يديه قبل ركبتيه ولا يبرك بروك البعير))[6]، وفي حديث عبد الرحمن بن شبل - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير"[7].
2- نقر الديك والتفات الثعلب وإقعاء القرد والكلب ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "نهاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - أن أنقر في صلاتي نقر الديك وأن ألتفت التفات الثعلب وأن أقعي كإقعاء القرد"[8].
فشبه إقعاء الرجل في الصلاة بإقعاء القرد أما إقعاء الكلب ففي حديث علي - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا علي لا تقع إقعاء الكلب))[9].
والمقصود بالإقعاء عند العرب أن يقعد على أليته ورجلاه من كل ناحية [10]
وشبه خفة السجود وسرعته بنقر الديك فلا يمكث فيه إلا قدر وضع منقاره في لَقْطِ الحَب.
ومماورد من أفعال الكلاب التي شبه بها فعل المنكر ما جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)) [11] فشبه عود الرجل في هبته بعود الكلب في قيئه أي يقيء ثم يعود لأكله مرة أخرى ولاشك أنها صورة منفرة جداً.
وما ورد في حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اعتدلوا في السجود ولا يبسط ذراعيه كالكلب)) [12] فنهى عن بسط الذراعين في السجود لمشابهته له.
4- افتراش السبع ففي حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير...وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع وكان يختم الصلاة بالتسليم.[13] فشبه بسط ذراعي المصلي على الأرض بافتراش السبع لينفر عن ذلك.
جعل المنكر من أسباب عذاب القبر:
ومن الهدي النبوي في التنفير عن المنكر أن يذكر أنه يترتب على فعله عذاب القبر ولذلك أمثلة منها:
المثال الأول: ما ورد في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبرين فقال ((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما هذا فكان لا يستتر من بوله وأما هذا فكان يمشي بالنميمة)) ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين فغرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال: ((لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا))[14].
ووجه الدلالة جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عدم الاستتار من البول والنميمة من أسباب عذاب القبر.
المثال الثاني: ما ورد في حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - الطويل وفيه: ((... أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة فإنه آكل الربا... ))[15].
ووجه الدلالة هو أن رفض القرآن الكريم والنوم عن الصلاة المكتوبة والكذب والزنا وأكل الربا من أسباب عذاب القبر.
المثال الثالث: ما ورد في حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن أبيه عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الميت يعذب فى قبره بما نيح عليه))[16
والنياحة فسرها الحافظ ابن حجر بقوله: ما كان من البكاء بصياح وعويل، وما يلتحق بذلك من لطم خد وشق جيب وغير ذلك من المنهيات [17].
وصف المنكر بأنه خلاف فعله أو سنته:
ومن الهدي النبوي في إنكار المنكر أن يصفه بأنه خلاف فعله أو خلاف سنته ومن أمثلة ذلك:
المثال الأول: ما ورد في حديث أبي جحيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا آكل متكئا))[18].
المثال الثاني: ما ورد في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أتي لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني))[19]
ووجه الدلالة من الحديث جعله امتناع النفر عن النوم والفطر ونكاح النساء خلاف سنته. وللحديث بقية والله أعلم.
____________
[1]: مسند أحمد5/218 قال الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين
[2]: البخاري3/1152
[3]: البخاري 3/1283
[4]: البخاري 6/2491
[5]: البخاري6 /2658
[6]: سنن النسائي 2/207وصححه الألباني انظر: صحيح وضعيف النسائي 3/235
[7]: سنن أبي داود1/290وحسنه الألباني انظر: صحيح أبي داود 4/12
[8]: مسند أحمد2/311وحسنه الألباني انظر: صحيح الترغيب والترهيب1/134، صفة صلاة النبي 1/90
[9]: سنن ابن ماجه2/289وحسنه الألباني انظر: صحيح وضعيف سنن ابن ماجه1/37
[10]: الاستذكار 1/482
[11]: صحيح البخاري6/470، صحيح مسلم5/64
[12]: صحيح البخاري1/544
[13]: صحيح مسلم2/54
[14]: صحيح البخاري1/88 وصحيح مسلم 1/166
[15]: صحيح البخاري 6/2583 وصحيح مسلم
[16]: صحيح البخاري 3234، وصحيح مسلم 3/41.
[17]: فتح الباري لابن حجر 4 / 327
[18]: صحيح البخاري 5 / 2062
[19]: صحيح البخاري 5 / 1949